Article de presse - مقال صحفي

الياس ابو شبكة من الذكرى الى الذكرى : لكي تحب أتيت الأرض، هنري زغيب (لبنان)، دراسة Elias Abou Chabke, Henri Zoughaib (Liban), Etude

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الجمعة ١٧ يناير (كانون الثاني) ٢٠١٤
جريدة الحياة
محمد علي شمس الدين


هنري زغيب يكمل ملامح أَبو شبكة شخصاً وشاعراً


أمضى الشاعر هنري زغيب أعواماً يجمع وثائق ورسائل وصوراً وشهادات ونصوصاً غير منشورة ليحتفل على طريقته بالشاعر الراحل الياس ابو شبكة (1903-1947)، ولما اكتملت المادة بين يديه انجز كتابه «الياس ابو شبكة من الذكرى الى الذكرى: لكي تحب أتيت الأرض» في طبعة فنية أصدرتها دار درغام. والكتاب مرجع لقراءة سيرة شاعر «أفاعي الفردوس» ومساره بالصور والوثائق النادرة وبعضها ينشر للمرة الأولى. ولم يدع زغيب شاردة في حياة الشاعر إلا ضمها وجمع شهادات حية لأشخاص رافقوا الشاعر وعرفوه عن كثب، عطفاً على مقالات كتبت عنه وكلمات ألقيت في مناسبات عدة. هنا قراءة في الكتاب.

ينعقد هذا الكتاب على سيرة رجُلٍ فيها الكثيرُ من الغرابة والتشويق، وفيها الكثير من الشعر. حياةٌ قصيرة لا تكاد تتّسع لهذا العذاب الطويل، وهذا الكدْح المضني، وهذا الشــــعر الطالع كبخار البركان. ونسأَل: هل أَهميّة الياس أَبو شبكة في أَنه أَحَبّ أَم كتب الحبّ؟ أَم هي في هذا التداخُل بين الحُبّ والقصيدة إِلى حدّ أَننا نتوهّم أَحياناً أَنّ الحكاية (الحبّ) تبدأُ من هنا في حين أَنّ القصيدة هي التي تبدأ. الفارق بين الواقعة التاريخية والقصيدة أَو الرواية أَو اللوحة، كالفارق بين الواقعة التاريخية والأُســطورة: الأُسطورة من نسج المخيّلة الفرديّة والجماعية، تنتمي إِلى عالم المخيّلة، الغرائبي واللامعقول، فيقبلها العقل البشري مع معرفته بغرابتها حتّى ولو كانت لها بذورٌ أَو مشابهاتٌ مع بعض الوقائع، في حين أَنّ الحقيقة التاريخية تنتمي إِلى واقع عمليّ أَساسه «ما حدَثَ بالفعل» لا «ما يمكن أَن يحدث» أَو «يُظَنُّ أَنه حدَث»، حتّى كأَنّ الشاعر أَو الفنان يبتكر التاريخ ولا يَسرده، كأَنّه يروي ما لم يَحدث قطُّ إِلاّ في أعماقه. فشمس الشاعر الداخلية هي حقيقتُه الشعرية على امتداد العصور والمدارس.

سيرة مضاعفة

هل كتاب هنري زغيب هو عمل تأْريخي؟ أَم سِيري؟ إِحيائي أَم تقييمي؟ أَم انه عملٌ آخَرُ بين هذه جميعاً؟ وماذا نسمّيه؟ مسرح هذا العمل قريب جداً. فنحن اليوم في المكان عينه الذي كانت تدور فيه أَو في أَطرافه الحوادث وتُكتَب القصائد. اعتراني أَلمٌ قويّ وأَنا أَقرأُ بعض فصول السيرة المضاعَفة لإلياس أَبو شبكة. فهو، وإِن كان شخصاً من شهوةٍ وقلقٍ دينيٍّ عميق، إِلاّ أَنه شخص من أَلمٍ خالص، بل لعلّ فيه من الغرابة والجنون والأَلم ما يفوق أَية صورة له.

في حال احتدام حبّه لليلى (ليلي معوّض)، مثلاً، يذكر شهود كثُر من أَهل بلدته ومعارفه أَو أَصدقائه، أَنه كان يقف طوال الليل، وحتى في الليالي الشتوية الباردة، في مقبرة مقابلةٍ منزلَ ليلى، ينظر إِلى الضوء في غرفتها ولا يعود إِلاّ إِذا انطفأَ الضوء. ويروون أَنه كان يرسل إِشارات حبّه على صورة تنهّداتٍ عميقة يبدأ بها كلماته في الإِذاعة، أَو عبر مناشف بيضاء تُرفَع في منزل صديقه حبيب عودة المقابل لمنزل ليلى، إِيذاناً بوجوده، حتى إِذا مرض الشاعر، ارتفعت مقابلَ منزل ليلى رايةٌ سوداء بدَلَ الراية البيضاء فعلمت أَنّ حبيبَها مات. ويوم دفنه في الزوق كان ماطراً وعاصفاً، تابعتْه ليلى عن بُعدٍ حرَجاً وخَوفاً. ولاحقاً أَحرقت ليلى، مرغَمَةً، كل الرسائل المتبادَلة بينهما، وغرِقَت رسائلُ الحب وكلماتُه في رمادها إِلى الأَبد.

كلُّ ما يحيط بسيرة «السيد إلياس أَبو شبكة» وحُبّه وآلامه هو تراجيدي ومثير ومحرِّض على الكتابة. وهنا نتساءل: مَنْ مِن الاثنين صنَعَ الآخر: السيرةُ الشعر؟ أَم الشعرُ السيرة؟

الكتاب... الإِشكالات

نجد في كتاب هنري زغيب كلُّ ما يحاول قارئ أَو مهتمٌّ أَن يعرفَه عن تفاصيل حياة أَبو شبكة وتَطَوُّحاتِه وعَذَاباتِه منذ ولادته حتى وفاته. ففي الكتاب شهادات وكتابات وتفاصيل التفاصيل، تكشف الغطاءَ حتى عن الأَنفاس الخفيّة والذبذبات الداخلية لأَحاسيس الشاعر وأَفكاره، تارةً بكتاباته الشخصية وطوراً بشهاداتٍ مؤرَّخةٍ وموثَّقة ممّن عايشوه، وبينهم أَصدقاءُ مقرَّبون عارفون ببواطن أَسراره، وحبيباتٌ كتب فيهنَّ معظَم شعره مثل أُولغا ساروفيم، حبيبتِه وزوجتِه بعد حين، وليلى التي أَحبَّها وكتب فيها ديوانَيْه «نداء القلب» و»إِلى الأَبد». لقاءاتٌ ومكاشفاتٌ كثيرةٌ موثّقةٌ ومؤرَّخةٌ كشف فيها المؤَلّف عن أَستار أَبو شبكة، حتّى الخفيّة منها والأَشدّ خفاءً.

وأَستطيع القول إِنّ هنري زغيب عرّى الياس أَبو شبكة الشخص والشاعر تعرّيةً تامّةً، وعرّى شخوص مسرحه من حبيبات وأَصدقاء ومُجايلين، حتّى الذين هم من أَهل بلدته ما كانوا يعرفون حقيقتَه الشعرية فسمّوه «الأَخْوَت» تارةً أَو «المجنون» أَو «العَصَبي».

فماذا فعل المؤلّف بالشاعر؟ ولماذا الياس أَبو شبكة ترك أَبوابه مُشَرّعة إِلى هذا الحدّ؟

لو لم تُحرَق رسائلُ الحبّ المتبادَلَة بينه وبين ليلى لَمَا بقيَ في الرَّجُل وسيرته سِرّ. وحتى لو لم تُحرَق لن تكشف سراً عن علاقةٍ مكشوفةٍ ومقروءَةٍ شاءَ لها طَرَفاها أَن تَكون في الضوء الباهر رغم حراجة ذاك الحب وخطورته، فحُبّه ليلى، كما يقول المؤلّف، «كان في الزمن الممنوع لكنه لم يكن في الزمن المستور». ونسأل: هل كانت قصص هذا الحب مهمّةً لو لم يولَدْ منها الشعر؟ فلا السيرة كافية، ولا الصورة، لولا القصيدة. الحكايةُ، كلُّ الحكاية، في القصيدة. إِذنْ: لنبحَثْ عن القصيدة.

البحث عن القصيدة

هنا تتنوّع السبل. فكلّ يبحث عن القصيدة على شاكلته وذائقته. وهنري زغيب، في مقدمة كتابه، يرى أَنّ الياس أَبو شبكة «لم يغُصْ على الجوهر، لم يعِ أَو لم يهتمَّ أَو لم يتجاسرْ» (...) «لم يستولِد الكلمة بل أَطلقها مباشرة. الكلمة عنده أَداةٌ لا غاية كما رأَى إِليها الرمزيون». ويضعه في طليعة التجديد: «الحداثويون يحبّون نضارته ولا يرفضون كلاسيكيته». وواضحٌ أَن المؤلف رافق أَبو شبكة رِفقةً طويلةً في أَماكنه وأَهله وأَصدقائه ومعارفه وحبيباته على امتداد نصف قرنٍ من الزمن، وكتب عنه الكثير، وجمع عنه الكثير من رسالة إلى خبر إلى وصف إلى قصيدة فرأْي فشهادة. لماذا هذه المرافقة والاستقصاء البعيدان لو لم يكن الشَّغَف رائدَ هنري زغيب؟

الذين كتبوا في الياس أَبو شبكة من كتّاب وشعراء مجايلين له، أَو في ما بعد، متفاوِتون لكنهم يكادون يُجْمعون على أَنّ قصصَه وسيرةَ حياته وعلاقاتِ الحبّ التي نسَجَها، هي مداخلُ ضرورية لقصائده. وأَنه شاعرٌ ذو ديباجةٍ عربية فيها بعضُ التحرُّر، على تأَثُّره بالثقافة الفرنسية وبالشعراء الرومنطيقيين الفرنسيين. إِذن ها هو وُضعَ في كادر أَدبي ونقدي جامد، هو الذي كان يَعتبر المدارس والنظريات بمثابة «وُحوش» حين تَطلع من أَوجارها يكشّر بعضُها في بعضها الآخر» («في حديث الشعر» - مقدمة «أَفاعي الفردوس»). وهو يرغب في أَن يردَّ الشعر إِلى «الطبيعة أُمه» (المقدمة نفسها). وفي حديث الشعر يشير إِلى صعوبة تحديده بل استحالة تحديده «... فالدائرة غير المحدودة لا تنحصر في الحدقة الضيّقة»، والشعر «سعى وراء حقيقة غامضة يستحيل أَن تُنال»، ويتَّكئ على آراء شعراء ومفكرين فرنسيين في مقدمته، بينهم الأَب بريمون الذي يرى أَنْ «لا حاجة لفهم معنى الشعر، فالسحر المنبثق عن موسيقاه يؤثِّر في النفس تأثيراً مباشراً».

هذه المقدمةُ مقدّمةُ مثقَّف بثقافة غربية واسعة، لكنه يُدخل فيها رأْياً للأصمعي في الوحي الذي هو أَساس الشعر: «الوحي يتولَّد على صفاء المزاج الطبيعي، وقوّة مادة النور في النفس» (المسعودي في «مروج الذهب»).

كشف المؤِلِّف في هذا الكتاب عن سيرةٍ مكشوفةٍ لإلياس أَبو شبكة أَو تكاد، وهو ممّن واكبوا وأَظهروا هذا الانكشاف القوي لهذه السيرة. قبله كان الشاعر نفسُه أَبرزَ إِلى العلن الواضح سيرتَه وأَحوالَه وفصَّلها حتّى لم يعُد فيها مكان لظنٍّ أَو تخمين. ونسأَل: لماذا هذه المقارنةُ أَو الموازنة بين سيرة الشاعر الذاتية وقصائده؟ لديّ إِحساسٌ بأَنّ السيرة هنا أَهمُّ من الشعر. أَكثر جاذبيّة. أَغنى. وبأَنّ قصائد أَبو شبكة مؤَسسةٌ على المعاني، وتفتقر إِلى الصورة البسيطة أَو المركّبة، وإلى القوّة اللغوية أَو الغريزة اللغوية (كما عند سعيد عقل مثلاً)، وإِلى الحكمة السرمدية المنْزَلة كآيةٍ (كما في أَبياتٍ للمتنبي أَو المعرّي مثلاً).

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)