الوطن في المرشد الأمين للبنات والبنين - رفاعة رافع الطهطاوي

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الجمعة، ٣٠ مارس/ آذار ٢٠١٨
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«حب الوطن» لدى الطهطاوي: ذلك الشيء الغامض العميق


من المؤكد أن مفهوم الوطن والمواطن لم يكن أمراً رائجاً في الخطاب السياسي العربي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، على الأقل، ومن هنا حين تحدث عنهما في واحد من فصول كتابه العمدة «المرشد الأمين للبنات والبنين»، كان رفاعة رافع الطهطاوي يغوص في عوالم جديدة على الفكر العربي هو الذي كان قد أمضى السنوات السابقة على وضع هذا الكتاب التربوي بامتياز في باريس التي لا ننسى أنه وضع عنها كتابه الأساسي «تخليص الإبريز في تلخيص باريس». وهنا نقتبس الفقرات الأساسية من ذلك الفصل، لأهميته الراهنة على غير صعيد، من دون أي تدخّل منا.

الوطن، كما يقول الطهطاوي «هو عش الإنسان الذي فيه درج، ومنه خرج، ومجمع أسرته، ومقطع سرته، وهو البلد الذي نشأته تربته وغذاؤه وهواؤه، ورباه نسيمه، وحلت عنه التمائم فيه. قال أبو عمرو بن العلاء: مما يدل على حرية الرجل وكرم غريزته حنينه الى أوطانه، وتشوقه الى مقدم إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه». «وكان الناس يتشوقون الى أوطانهم، ولا يفهمون العلة في ذلك، حتى أوضحها علي بن العباس الرومي في قصيدة لسليمان بن عبدالله بن طاهر يستعديه على رجل من التجار يعرف بابن ابي كامل، أجبره على بيع داره واغتصبه على بعض جدرها، فقال: ولي وطن آليت أن لا أبيعه/ وأن لا أرى غيري له الدهر مالكاً. عمرت به شرخ الشباب ونعمه/ بصحبة قوم أصبحوا في ظلالكا. اذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم/ عهود الصبا فيها فحنوا لذلك. فقد الفته النفس حتى كأنه/ لها جسد ان بان غودر هالكا».

ويضيف الطهطاوي: «ولا يبعد العاقل عن الوطن إلا طلب العلى (...). وقد جرت العادة ان البعيد عن الوطن. الذي قضى فيه جزءاً من شبابه، يتشوق إليه، سواء كان من أهل البدو أو من أهل الحضر، فأهل البدو يتأسفون على فراق نجد، ويحنون اليها حنين المتأسفين على «غوطة دمشق»، وقصور مدينة السلام، وتحف الجزيرة». ويتوقف الطهطاوي هنا بخاصة عند وطنه مصر ليحدثنا عن تعلق المصريين بوطنهم: «ولا يشكك أحد ان مصر وطن شريف، ان لم نقل انها أشرف الأمكنة، فهي أرض الشرف والمجد في القديم والحديث، وكم ورد في فضلها من آيات بينات وآثار وحديث، فما كأنها إلا صورة جنة الخلد منقوشة في عرض الأرض بيد الحكمة الإلهية التي جمعت محاسن الدنيا فيها، حتى تكاد تكون حصرتها في أرجائها ونواحيها. بلدة معشوقة السنى، رحبة المثوى، حصباؤها جوهر، وترابها مسك أذفر، يومها غداة، وليلها سحر، وطعامها هنيء، وثراها مريء، واسعة الرقعة، طيبة البقعة، كان محاسن الدنيا عليها مفروشة، وصورة الجنة فيها منقوشة، واسطة البلاد ودرتها، ووجهها وغرتها. بلدكم خرج منه من كبار ملوك وسلاطين، وحكماء وأساطين، وكم نبعت منه عيون علوم، وانجلى به من البلاد سحائب غيوم، فمن ذا يضاهي مصر في كمال الافتخار، او يباريها في الجمال».

ويضيف الطهطاوي: «لقد اقتضت حكمة الملك القادر الواحد ان أبناء الوطن دائماً متحدون في اللسان وفي الدخول تحت استرعاء ملك واحد، والانقياد الى شريعة واحدة وسياسة واحدة، فهذا مما يدل على ان الله سبحانه وتعالى إنما أعدهم للتعاون على إصلاح وطنهم، وان يكون بعضهم بالنسبة الى بعض كأعضاء العائلة الواحدة، فكان الوطن إنما هو منزل آبائهم وأمهاتهم، ومحل مرباهم، فليكن أيضاً محلاً للسعادة المشتركة بينهم، فلا ينبغي ان تتشعب الأمة الواحدة الى أحزاب متعددة بآراء مختلفة، لما يترتب على ذلك من التشاحن والتحاسد والتباغض وعدم امنية الوطن. فلا يتمنى بعضهم سعادة نفسه وشقاوة غيره، لا سيما وان الشريعة والسياسة سوت بينهم، وأوجبت عليهم ان يكونوا على قلب رجل واحد، وان لا يعتقدوا لهم عدواً إلا من يوقع بينهم الفشل بخداعه، ليختل نظام ملكهم، وينحل انتظام سلكهم، فهذا هو العدو المبين، الذي لا يحب ان يكون أهل الوطن على وطنهم آمنين ولا بحريتهم متمتعين».

وهنا إذ يصل الطهطاوي في حديثه الى ما يدعوه، في ذلك الوقت المبكر «حقوق المواطن»، يفيدنا بأن «ابن الوطن المتأصل به، او المنتجع إليه، الذي توطن به واتخذه وطناً، ينسب اليه، تارة الى اسمه فيقال: مصري، مثلاً، أو الى الأهل فيقال: أهلي، او الى الوطن فيقال: وطني، ومعنى ذلك انه يتمتع بحقوق بلده، وأعظم هذه الحقوق الحرية التامة في الجمعية التأنسية، ولا يتصف الوطني بوصف الحرية إلا إذا كان منقاداً لقانون الوطن ومعيناً على إجرائه، فانقياده لأصول بلده يستلزم ضمناً ضمان وطنه له التمتع بالحقوق المدنية، والتمزي بالمزايا البلدية. فبهذا المعنى هو وطني وبلدي، يعني انه معدود عضواً من أعضاء المدينة، فهو لها بمنزلة أحد أعضاء البدن، وهذه أعظم المزايا عند الأمم المتمدنة. وقد كان أهالي غالب الأمم محرومين من تلك المزية، التي هي من أعظم المناقب، وكان ذلك في الأزمان التي كانت فيها أوامر ولاة الأمور جارية على هوس أنفسهم، يفعلون ما شاؤوه، وقد كان الأهالي لا مدخل لها في معارضة حكامهم، ولا محاماة لهم عن أحكام الشريعة، فكان لا يمكنهم ان يخبروا ملوكهم بما يرونه غير موافق، او يكتبوا شيئاً في ما يختص بالسياسات والتدابير، ولا يبدون آراءهم في شيء، فكانوا كالأجانب في أمور الحكومة، وكانوا لا يتقلدون من الوظائف والمناصب إلا ما هو دون استحقاقهم، والآن تغيرت الأفكار، وزالت عن أبناء الوطن هذه الاخطار، فالآن ساغ للوطني الحقيقي أن يملأ قلبه بحب وطنه لأنه صار عضواً من أعضائه».

وفي مقابل حقوق المواطن، يتحدث الطهطاوي بالطبع عما يسميه «واجبات المواطن» فيقول أن «الوطني المخلص في حب الوطن يفدي وطنه بجميع منافع نفسه، ويخدمه ببذل جميع ما يملك، ويفديه بروحه، ويدفع عنه كل من تعرض له بضرر كما يدفع الوالد عن ولده الشر. فينبغي ان تكون نية أبناء الوطن دائماً متوجهة في حق وطنهم الى الفضيلة والشرف، ولا يرتكبون شيئاً مما يخل بحقوق أوطانهم وإخوانهم، فيكون ميلهم الى ما فيه النفع والصلاح. كما ان الوطن نفسه يحمي عن ابنه جميع ما يضره، لما فيه من هذه الصفات. فحب الأوطان وجلب المصالح العامة للإخوان من الصفات الجميلة التي تتمكن من كل واحد منهم في جميع أوقاته مدة حياتهن وتجعل كل انسان منهم محبوباً للآخرين، فما أسعد الانسان الذي يميل بطبعه لإبعاد الشر عن وطنه ولو بأضرار نفسه.

فصفة الوطنية لا تستدعي فقط ان يطلب الإنسان حقوقه الواجبة له على الوطن، بل يجب عليه ايضاً ان يؤدي الحقوق التي للوطن عليه. فإذا لم يوف احد من أبناء الوطن بحقوق وطنه ضاعت حقوقه المدنية التي يستحقها على وطنه».

ولافت هنا كيف يعود الطهطاوي الى التاريخ القديم ليستنتج منه كيف كان الرومانيون في قديم الزمان يجبرون الوطني الذي بلغ من العمر عشرين سنة ان يحلف يميناً انه يحامي عن وطنه وحكومته، فيأخذون عليه عهداً بذلك وصيغة اليمين: «أشهد الله على أني أحمل سلاح الشرف لا مانع به عن وطني وأهله كلما لاحت فرصة أتمكن فيها من مساعدته، وأشهد الله على أني لحماية الوطن والدين احارب منفرداً او مع الجيش، وأشهد الله على اني لا أكدر صفو وطني ولا أخونه ولا أغدر به، واني أركب البحار اياً ما لزم ذلك في جميع الغزوات التي تأمر بها الحكومة. وعلى أني أحافظ على امتثال القوانين والعوائد المقبولة في بلادي، الموجودة في الحال وما يتجدد منها، وأشهد الله أن لا أتحمل أحداً يجسر أن يخل بها وينقص انتظامها».

«فمن هذا يفهم - كما يختم الطهطاوي - ان أمة الرومانيين كانت متشبثة بحب وطنها، ولهذا تسلطت على بلاد الدنيا بأسرها، ولما انسلخت عنها صفة الوطنية حصل الفشل بين اعضاء هذه الملة، وفسد حالها، وانحل عقد نظامها بتعدد اختلاف امرائها وتعدد حكامها، فبعد ان كانت محكومة بقيصرة واحدة انقسمت في المشرق والمغرب بين قيصرين، قيصر رومة، وقيصر القسطنطينية، وكانت الشوكة لباع طويل فصار أمرها الى باعين قصيرين، فآل أمرها في جميع الحروب الى الانهزام، ورجعت بعد كمال الوجود الى الانعدام، وهكذا شأن الملة المختلة الحكومة، والدولة الغير المنظومة».

إبراهيم العريس

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)