دراسة - Etude

النهضة والحداثة بين الارتباك والإخفاق لحسين العودات Renaissance et modernisme

, بقلم محمد بكري


التفكير في الإخفاق العربي

جريدة النهار اللبنانية

الأحد 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2011
النهار - عاصم بدر الدين

كل كتابة عن نهضة أوائل القرن التاسع عشر العربية تحمل في ذاتها مفارقة تشي بفوات الفكر. إذ تدرس تراثاً غير تراثي يدرس تراثاً غير تراثي. وهذا ما يقارب الإستعصاء. لا يخرج كتاب “النهضة والحداثة بين الارتباك والإخفاق” (دار الساقي) للباحث السوري حسين العودات في تناوله للنهضة العربية على هذه المفارقة. وهذا ما يخلق إرباكاً واضحاً يعبّر عن صعوبة إنجاز دراسة وافية ومعمقة تتجاوز التوليف وعرض وجهات النظر والآراء نحو نقد جذري للأسس الابستمولوجية لهذه الأفكار.

في بحثه عن أسس النهضة يشير الباحث إلى شروط وعوامل موضوعية ساهمت في نشوء البورجوازية العربية، الحامل الاقتصادي- الاجتماعي للنهضة، كالتطور الاقتصادي والاجتماعي الذي شهدته هذه البلدان، المتزامن مع دخولها في “طريق التطور الرأسمالي”، من دون أن يغفل دور الصدمة النابوليونية في مصر وإصلاحات محمد علي باشا، في مجالي الإدارة والتعليم، السابقة على انهيار الأمبراطورية العثمانية. والحال أن هذه التطورات كانت مولد التيارين الفكريين، الإسلامي والليبيرالي (وقد كان في حينه متشكلاً من النواة البورجوازية المسيحية) اللذين سيساهمان لاحقاً في الحركة الفكرية للنهضة العربية.

انقسمت التيارات الفكرية العربية حيال مفهوم التنوير. واذ رأى فيه التيار الليبيرالي تعميماً للقيم العقلانية والعلم والنظرة الوضعية وتحريراً للوعي من سطوة الأفكار القروسطية، رأى فيه التيار الإصلاحي الإسلامي، وقد سمّاه الإصلاح الديني، تحريراً للوعي من التقليد والخرافة والبدع والعودة إلى الأصول النصية والانفتاح على معطيات المعرفة الحديثة عبر التأويل والإجتهاد بما لا يجافي الإسلام وتعاليمه. على الضد من هذين التيارين اعتبر التيار الإسلامي المحافظ التنوير بدعة غربية تسعى لتقويض الإسلام.

فشل حركة النهضة، عنى فشل المشروع التنويري المرتكز على وعي قومي عربي استقلالي. والحال أن التجديد القليل الذي تم في الحياة المادية والتقدم التقني، بحسب العودات، لم يكن ذاتيّ المصدر بل بفضل التأثيرات الجبرية للتطور العالمي. ويُرجع الباحث هذا الفشل إلى غياب الدعم الاجتماعي لهذه الحركة نظراً الى ضعف الطبقة البورجوازية وانصرافها عن الهم التنويري وانتشار الأمية والتخلف، واختلاف المرجعيات الفكرية لدى النهضويين والتباس أفكارهم وجهلهم بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية للنهضة الأوروبية وتباين مواقفهم إزاء ما حملته من أفكار. زد على ذلك، الظروف الناشئة عن الغزو الاستعماري والتأثيرات السلبية للتراث الإسلامي والحركات المدافعة عنه والمناوئة لأي نقد يطاوله.

لم تتوافر الشروط الاجتماعية والانسانية المفضية إلى الحداثة في البلدان العربية بشكلها الشامل، في رأي الباحث، بل إن تبنّي بعض العرب لبعض مفاهيمها جاء انتقائياً، بحجة الخصوصية والحفاظ على الهوية، فأفرغت من محتواها. بالإضافة إلى ذلك، كان لارتباط الحداثة بالغرب (الاستعمار) من جهة أولى، وارتباطها بالأنظمة العسكرية القمعية المستولية على الحكم في المرحلة التالية على الاستعمار وحملها مشاريع تحديثية باسم حداثة مشوهة، من جهة ثانية، عاملين ساهما في تنفير النخب والشعوب العربية منها. كما شكّل الخطاب الديني والموقف من التراث عائقاً حقيقياً أمام الحداثة وخصوصاً عقب هزيمة حزيران 1967 وصعود القوى التقليدية والسلفية المتملثة في الإسلام السياسي، إذ عمدت هذه إلى “أسلمة الحداثة”، أي “إضفاء لباس إسلامي على أمور لم تنشأ في وسط إسلامي”، ما عنى تجريد الحداثة من جوهرها، كردّ على المواجهة التي فرضتها على “المسلمين” التحولات العالمية.

وما قيل في الحداثة ينسحب على مفهومي العلمانية والديموقراطية. ذلك أن مصادرة الإسلام السياسي لـ"الإسلام" وتقديس تراثه، أدّيا إلى حجبه، بمسلّماته ووظائفه، عن النقد.

جليّ أن الباحث لا يقيم حداً نهائياً لمرحلة النهضة. إذ إن عرضه لمسائل التنوير والحداثة والديموقراطية والعلمانية والدولة والوطن والقومية - وهي موضوعات الكتاب- يمتد من آراء مفكري النهضة الأوائل (الطهطاوي والأفغاني والكواكبي وشميل والشدياق والبستاني وغيرهم) حتى يصل إلى آراء مفكرين معاصرين كمحمد عابد الجابري وجورج طرابيشي ومحمد أركون. واذا صح أن هذا الشمول يهدف إلى توسيع مرحلة النهضة، بما هي محاولة لتغيير الواقع وتجديده، على ما تشي مقدمة الكتاب إذ يحدد العودات فيها زمن النهضة بقرنين ماضيين، فإن التغيرات التي طاولت الاجتماع العربي بعد فشل المشروع النهضوي وغلبة أهل العسكر والدين فيه، تؤكد انتقالنا إلى مرحلة تتجاوز النهضة المجهضة ولا تتشابه إلا في الظاهر مع مطلع القرن التاسع عشر حتى العقدين الأولين من القرن التالي. والحال أن عدم التمييز بين المراحل التاريخية لتطور الاجتماع والفكر العربيين والقضايا التي تسائلهما يمثل خطأً منهجياً من غير الممكن تجاهله. بيد أن هذا لا يعني أننا تجاوزنا الحاجة إلى النهوض والحداثة، وهذا ما لا حاجة لنا لإثباته، بل إن العمل على تحقيقهما في الراهن رتّب مهمات وعقبات جديدة أكثر إشكالية وتعقيداً على عاتق الفكر العربي. لعل المفارقة المذكورة في تقديم هذا النص أولها.

عن موقع جريدة النهار اللبنانية

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)