تراث

النقد كلحظة معرفية راهنة في دراسة التراث

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الجمعة ٤ أكتوبر (تشرين أول) ٢٠١٣
جريدة الحياة
عبدالإله بلقزيز، كاتب من المغرب


تَدين الدراسات النقدية للتراث، في انطلاقتها وازدهارها في النصف الثاني من القرن العشرين، لجملةٍ من الأسباب الممهّدة والدافعة التي يسعنا أن نشير، في هذا المعرض، إلى ثلاثة من أظهرها وأهمها:

أوّلها ما وفّرتْهُ دراسات تاريخ الفكر، منذ فرح أنطون حتى عبد الرحمن بدوي، من مادة فكرية ثريّة في التعريف بمدارس الفكر، وتياراته، ومراحله، في العهد العربي الإسلامي الكلاسيكي (الوسيط)، وفي إلقاء الضوء على أهمّ نصوصه التأسيسية والمرجعية في معظم مجالات المعرفة العربية الإسلامية. وهي وفرةٌ في المادة حققت المُبْتَغى منها حين زوّدت جمهوراً عريضاً من القراء بحاجته إلى الإلمام العام، ولكن المنظَّم... وأحياناً الشامل، بالتاريخ الثقافي الكلاسيكي - ابتداءً - ثم الحديث تالياً، وحين نَمَّتِ الاهتمامَ بدراسة الموروث الثقافي لدى الدارسين. والحقّ أن الانتقال إلى لحظةِ نقد التراث، كلحظة معرفية جديدة في الدراسات التراثية، في الفكر العربي المعاصر، ما كان لِيمْتَكن إلاّ بعد «استنفاد» الغرض من تاريخ الفكر، أو التاريخ الثقافي، بما هو لحظة تدشينية لا غَنَاء عنها، أو- على الأقل - بعد إنجاز اللحظة الأولى تلك وظيفتَها في إشاعة الاهتمام بالتراث، وإدخاله في ميدان التفكير والبحث العلمي، وتشجيع الأجيال الجديدة من الدارسين على الخوض في مسائله وإشكالياته.

وثانيها ما تحصَّل، في مجال التحقيق والنشر، من مادة غزيرة تُسْعِف بالبحث فيها؛ فلقد ازدهر تحقيق النصوص العربية الإسلامية الكلاسيكية، في الحقبة الفاصلة بين عشرينات القرن العشرين وسبعيناته، على نحوٍ ملحوظ وغير مسبوق، بالاستفادة من عوامل ثلاثة مساعدة: أوّلها خبرة التحقيق السابقة التي وفّرتها أعمال المستشرقين على نصوص التراث، وقد مثَّلت النموذج الذي ينبغي اقتداؤُه والسَّير على مقتضى دروسه؛ وثانيها امتلاك مناهج جديدة، من لدن الدارسين والمحققين، تُسْعِف في قراءة المخطوطات تاريخيّاً، ولغويّاً، ومقارنةً؛ وثالثها ازدهار التحقيق في الجامعات، وإقبال الطلاب الباحثين عليه، بما هو التدشين الضروري لمسارهم في البحث العلمي. ولقد اقترن بهذا الجَهد العلمي، جَهْد رديف في نشر النصوص المحقَّقة على أوسع نطاق. وكثيراً ما كان الناشرون هم أنفسهم مَن يرعَون مادّياً تحقيق النصوص. ومن الطبيعي أن تنطلق لحظة معرفية ثانية، في العلاقة بالتراث، مستفيدة من حركةٍ علمية واسعة أماطت اللثام عن مئات النصوص الكبرى التي لم تكن - حتى عهدٍ قريب - في متناول الدارسين.

أمّا ثالثها فالاستقطاب الثقافي الحادّ الذي بدأت بوادره في المجتمع العربي منذ خمسينات القرن الماضي، وزاد حدَّةً منذ أوائل السبعينات، واتخذ الصراع على التراث - بين الأصاليين والحداثيين - شكلاً من أشكاله الأظهر. وهكذا، في مقابل قراءةٍ بَدَت سلفيةً، أو ماضوية، أو تراثويّة، للتراث من قبل جمهرةٍ من الدارسين، المشدودين إلى فكرة الأصالة، وإلى فرضية الاستمرارية التاريخية، تبلورت ملامح قراءةٍ جديدة للتراث أرادتْ نفسَها - على ما زعمت - عصريةً، وحديثةً، ومتجاوزةً للأفق التراثوي. ولقد كان للاستقطاب الأيديولوجي بين اليمين واليسار - وهو كان شديداً وصارخاً في نطاقاته السياسية - أثرُهُ الواضح في تغذية ذلك التقاطب الثقافي في واجهته المتصلة بدراسات التراث؛ وهكذا مثلما كان لـِ «اليمين» تراثُه، الذي نشرهُ ونافح عنه، كان لـِ «اليسار» تراثه الذي أفرغ الوُسع للانتصار له على حساب تراثٍ آخر «ميت» و»ظلامي». كان لا بدّ، في مثل هذه الأجواء من الانقسام السياسي والأيديولوجي والثقافي، من أن تنطلق لحظة معرفية جديدة في دراسات التراث، لن تعرِّف به - هذه المرّة - أو تؤرخه، وإنما تتناوله تناوُلاً نقديّاً.

ماذا يعني نقد التراث في هذه اللحظة المعرفية، وفي مفهومها للنقد؟

إنه يعني نقداً مزدوجاً في اللحظةِ عينِها: نقداً للمعرفة التراثية، أو للفكر الموروث، ونقداً للنظرة إلى هذا التراث، على نحو ما كانت سائدةً وفاشيةً في ذلك الحين الذي انطلقت فيه عملية النقد تلك؛ والعمليتان معاً مترابطتان، بل متداخلتان، نقد الموروث الثقافي، أي تحليله وبناء موقف منه، لم يكن واحداً، في منطلقاته وأدواته، عند جميع من خاضوا فيه من الدارسين؛ فثمة -منهم- مَن أرادَهُ نقداً لمجالٍ من المعرفة العربية الإسلامية دون آخر (الفقه مثلاً)، والانتصار لمجالٍ آخر على حسابه، وهذا - مثلاً - حال أدونيس المنتصر للتصوف على الفقه، أو الجابري المنتصر للفلسفة على الفقه؛ ومنهم من أرادَهُ نقداً للمضمون الفكري الذي حمله ذلك الموروث، مثل نقد طيب تيزيني وحسين مروّة للمضمون الفكري المثالي في ذلك التراث: أكان ذلك في الفقه، أو في الكلام، أو في الفلسفة نفسها؛ ومنهم من أرادهُ نقداً للشروط التاريخية الموضوعية التي أنتجت تلك المعرفة… إلخ. لكنّ وراء هذه التباينات، في منطلقات النقد وأدواته، جامعاً مشتَركاً هو وضع المعرفة التراثية، ولأول مرَّةٍ، ربّما منذ ابن خلدون، تحت عملية فحصٍ نقديّ لها. ولم يكن ذلك أمراً بسيطاً، أو قليل الشأن، في حينه؛ فالسائد - لحظتئذ - هو الخطاب التبجيلي للتراث، والنظرة الانكفائية إليه بما هو مستودع للحقائق والمعارف التي يحتاج إليها عصرنا، وأقصى ما كان يمكن القيام به هو التعريف بذلك التراث، حتى ولو كان التعريف ذاك مُعَصْرِناً له؛ كما فعلتِ الليبرالية العربية بين العشرينات والخمسينات (طه حسين، مصطفى عبد الرازق، محمد حسين هيكل، أحمد أمين)، أو كما فعل شوقي ضيف، وعبد الرحمن بدوي، وزكي نجيب محمود في خمسينات وستينات القرن نفسه.

ولقد اتجهَ نقدُ النظرة المعاصِرة إلى التراث الوجهةَ عينَها؛ فهو انصرف، عند بعض، إلى بيان حدود هذه النظرة ومحدوديتها، لكونها تكتفي من «قراءة» الموروث بإعادة عرضه بلغة جديدة؛ وانصرف، عند بعض ثان، إلى نقد الانحيازات التراثوية لهذه النظرة إلى أفكار بعينها، في ذلك الموروث، عُدَّت «متخلفة» في نظر ناقديها؛ وانصرف، عند بعض ثالث، إلى نقد المنطلقات والمُضْمَرات الأيديولوجية (السلفية أو الليبرالية…) في الخطاب السائد عن التراث؛ ثم هو انصرف، عند بعضٍ رابع، إلى نقد الأدوات المعرفية والمناهج «القديمة» و»المتخلفة»، التي يتوسلها خصومهم المعاصرون، لقراءة الموروث الثقافي… الخ. وفي سائر أحوال النقد هذا، كان الخائضون فيه، من الحداثيين، يضعون نصوص المعاصرين حول التراث جنباً إلى جنب مع نصوص التراث نفسها، على نحوٍ يوحي - وأحياناً يعلن - بأن فكر الخصوم المعاصرين ليس أكثر من امتدادٍ لفكر القدامى، واستئناف له! فيما كان آخرون يذهبون بنقدهم لخصومهم إلى حدِّ الاستنتاج أن فكرهم دون التراث ومفكريه قيمةً، وأنهم إنما يرثون في التراث أسوأ ما فيه! وإذا كان نقد النظرة إلى التراث وجْهاً آخر لنقد التراث، فإن إيجابيته التاريخية كانت في أنه فَتَح حواراً في موضوع الموروث الثقافي بين خطابين معاصرين. من المؤكد أنه لم يتجاوز مستوى المساجلة إلى المناظرة العلمية، ولكنه أطلق جدلاً...، وهذا ليس بالقليل.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)