قراءات

النقد بين الحداثة وما بعد الحداثة، ابراهيم الحيدري (العراق)، دراسة

, بقلم محمد بكري


الأربعاء 17 أكتوبر/تشرين الأول 2012
إيلاف - أول يومية إليكترونية صدرت من لندن عام 2001


إيلاف


إيلاف : صدر للدكتور ابراهيم الحيدري كتاب جديد: “النقد بين الحداثة وما بعد الحداثة”، دار الساقي، بيروت2012، في 592 صفحة . حاول فيه المؤلف رصد المفاهيم والنظريات والاتجاهات النقدية في مرحلة الحداثة وما بعد الحداثة في محاولة لتوضيح الخلط والالتباس في المصطلحات والمفاهيم: بين النقد والنقد الذاتي وبين النقد والانتقاد وبين الحداثة وما بعد الحداثة وبين التحديث والمعاصرة وطرحها للمناقشة ومن اجل نشر وتداول فكر تنويري يتسلح بأدوات التفكيك والتحليل والنقد والتساؤل والمراجعة والتدقيق والمحاكمة وتحريك الذهن ودفعه في مغامرة البحث والتقصي ونقد ما هو غريب ومجهول ومحرم ومخفي وممنوع. وكما يقول هانس انسسبيرغر":ان الهدف هو ان نرمي الاحجار في البرك الآسنة لتحريكها".
وبهذا يكون هدف النقد هو تحريك الفكر وتحرير العقل من أوهامه التي تكبله والتخلص من أية سلطة معرفية تعمل على كبح لجام العقل ومحاصرته وتعطيله وجعله عاجزا عن تحفيز الفكر واثارة التساؤل.

تعرض المؤلف الى تطوّر الفكر النقدي في أولى تجلّياته في الفلسفة الإغريقية، مروراً بالحركة التنويرية التي عرفها الفكر الإسلامي في العصر الوسيط. ثم توقّف ملياً عند الملامح الرئيسية لعصر التنوير الأوروبي وأعلامه. وخلص إلى أن رفض الحداثة يعني رفض الحرية والعقلانية والمساواة الاجتماعية.

لقد اكتسبت عملية النقد في العصر الحديث قوة تأثير حقيقية في تطور المعرفة الانسانية وكان المحرك الاساسي للنقد هو الشك بالحقيقة الكلية أو الجزئية، الذي يعكس في الوقت ذاته معرفة اخرى، شرط ان يكون النقد داخليا ويهتم بالمضمون.
كما اخذت فكرة النقد معنى “الجدل العقلي”، أي النشاط المتميز للعقل باعتباره أداة تحكيم عقلانية هدفها ايقاض الوعي الانساني عن طريق القدرة على الرفض ومن ثم الابداع، حيث اصبح النقد “فن الحكم” للفصل بين الحقائق لمعرفة مناحي القوة او الضعف في الموضوع المطروح للتساؤل، على شرط ان لا يكون هجوما على الشخص او الموضوع.

وقد ارتبط النقد بعصر التنوير ومبادئه في التحرر والتقدم والعقلانية، الذي أشر الى بداية عصر جديد يؤكد على أهمية النقد ودوره ووظيفته في تطور المعرفة الانسانية. وكان عمانوئيل كانت يلح “بأن عصرنا هو عصر النقد”، وان كل شيء ينبغي أن يخضع للفحص النقدي بهدف قبوله أو رفضه وبالتالي إصدار أحكام صحيحة تستند على معلومات حقيقية ولا تستخدم كسلاح ذي حدين.

وانطلاقا من ان النقد محاولة أولية جادة لفهم العالم وتغييره، يصبح من الضروري تحقيق مهامه التي تتعدى ممارسة النقد الى تهيئة الوعي بأهميته ودوره وفاعليته في اعادة الثقة الى الذات وايقاظ الطاقات الابداعية الكامنة للكشف عن مكامن القوة والضعف وتحفيز الانسان لرفض وتحدي كل ما يكبل حريته ويعيق تقدمه، لأن جوهر النقد هو الحرية.

كما تعرض المؤلف الى مفهوم الحداثة ومبادئها الأساسية التي تقوم على العقلانية والتنوير والتقدم الاجتماعي، مبينا ان مفهوم الحداثة يعود الى هيغل للدلالة على حقبة زمنية جديدة مثلت روح العصر الحديث.

والحداثة مفهوم جديد في الفكر المعاصر يشير الى سيرورة الاشياء وتحديثها بعد ان كان يشير الى جوهرها.فهي تضع الانسان والعقل والهوية في صورة جديدة ترتفع به على ما كان سائدا في العصور الوسطى، وهي بذلك نقيض القديم والتقليدي،لأنها حركة عقلانية تنويرية مستمرة وعلى جميع المستويات العلمية والتقنية والاجتماعية والثقافية والفلسفية والاقتصادية.

أما خطاب ما بعد الحداثة فيحاول ايجاد قيم بديلة عن مبادىء التنوير والعقلانية والتقدم الاجتماعي لاعلان تهاوي الحضارة العقلانية التي نادى بها عصر التنوير، معبرا عنها بافكار وحركات راديكالية متعددة في الادب والفن والثقافة والعلوم الانسانية ومؤكدا على مفاهيم التعددية والاختلاف وتنامي الهويات القومية.

ان خطاب ما بعد الحداثة مشروع تمرد فكري وعملي على مشروع الحداثة الذي يعود في أصوله الى فلسفة نيتشه وهايدغر، هدفه محاولة تقويض ظاهرة الانسان عن طريق هدم المركزية اللاغوسية ومن ثم زرع الشك في الذات الفلسفية العقلانية والنقد العملي والاجتماعي الذي انتجه عصر التنوير.

كما تطرق المؤلف الى تطور الحداثة الأدبية والفنية في أوربا، والى مهمة الفلسفة وروادها في العصر الحديث وتوضيح خطوطها العريضة وابعادها الادبية والاجتماعية والثقافية والفلسفية والسياسية، وخاصة مدرسة فرانكفورت النقدية وروادها، هوركهايمر وأدورنو وهابرماس، وكذلك الى الحركات الوجودية والبنيوية وما بعد البنيوية والتفكيكية وغيرها، منطلقين من ألعاب اللغة للوتار والتفكيكية لدريدا ومفهوم الاختلاف لفوكو وغيرهم، باعتبارها اشكاليات لتحدي الحداثة بنفيها عقلانية التنوير وفكره التحليلي، وبابا للدخول الى ما بعد الحداثة التي نتناولها بالتفكيك والتحليل والنقد.

ومع صعوبة ممارسة النقد في المجتمع العربي-الأبوي الذكوري فلابد من كسر هذا الحاجز الذي يقف امام ممارسة النقد بحرية، ليقوم النقد بدوره الفعال في محاكمة القضايا التي تتحكم بالفكر وبالمجتمع، والبدء بحركة نقدية جذرية تبدأ بمعرفة الذات ونقدها وتحريرها من قيودها التاريخية والمجتمعية.

لقد اعتاد اغلب العرب على اطلاق مفهوم “النظرية النقدية” على الأدب، مع العلم ان اضفاء صفة النقد على الأدب لوحده يعني ان هنالك “نقد أدبي” فقط، ولذلك نحاول توضح حقيقة هامة، هي ان النقد والنظريات النقدية لا تقتصر على الأدب فحسب، وانما تتعداها الى نظريات نقدية في الأدب والفن والثقافة وعلم الاجتماع والفلسفة والعلوم الطبيعية وغيرها.
واذا كان تراثنا العربي يحفل بالكثير من الممارسات النقدية، ولا سيّما في الأدب، كما عند ابن قتيبة وقدامة بن جعفر والجرجاني وغيرهم، غير ان النقد العقلاني البنّاء لم يكن شائعاً ولم يمارَس إلا على شكل انتقاد بدلاً من نقد مبدع يضيف معرفة إلى أخرى، خصوصاً في ظلّ فشل مشروع الإصلاح والنهضة الذي حاول العرب إعادة صياغته.

كما يبحث المؤلّف في إشكالية الإصلاح والتحديث في العالم العربي ودور البنية الفكرية والمجتمعية التي أعاقت الدخول في عصر الحداثة. ويرى أن السبيل إلى تحرير الذات العربية من أسر التخلّف إنما يبدأ أولاً بنقد الذات، ثم التراث الذي يقوم على النقل وليس العقل، فنقد الوافد الجديد، الحداثي وما بعد الحداثي، والانتقال من نقد الفكر إلى نقد المجتمع ومؤسّساته، مثلما يحتاج الى مشروع نقدي مهمته ممارسة نقد جذري يهيء الوعي بأهميته وفاعليته ويستدعي ثورة عقلانية تنويرية تساعدنا على تجاوز حالة العجز والركود ومن ثم الانفتاح على الآخر المختلف ومواكبة التيارات النقدية الحديثة.

عن موقع ايلاف على الإنترنت


ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.

تم نقل هذا المقال بناء على ما جاء في الفقرتين 4-2 و4-3 من حقوق الملكية الفكرية المذكورة في شروط الأستخدام على موقع إيلاف :

  • مسموح لك بنسخ أو تنزيل المقالات المنشورة على الموقع من أجل إعادة عرضها على مواقع أخرى بشرط أن تعرض تلك المقالات بنفس تنسيقها وشكلها.
  • يجب وضع رابط للموقع بين عنوان المقالة والفقرة الأولى منها.
  • كما يضاف البيان التالي في نهاية المقالة : ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)