النصوص الأولى في الرواية والترجمة

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 07-05-2016، العدد : 10268، ص(15)
الصفحة : ثقافة
العرب - ممدوح فرّاج النّابي


النصوص الأولى في الرواية والترجمة ريادات مجهولة


انشغل النقاد والباحثون بمسألة النصوص الأولى والبحث عن أصولها، فأولوا عناية خاصة بمسألة بواكير النصوص الأولى بعد الانتكاسات التي توالت على المثقف العربي، هربا من الواقع إلى “مراجعة البدايات الأبعد في أوائل القرن التاسع عشر، وربما أبعد في محاولة لفهم واقعهم”، كما يقول الدكتور خيري دومة.

دخلت نصوص سردية كثيرة في دائرة بحث النقاد عن الريادات الأولى، حيث أشار مكتشفوها إلى أنها النتاجات الأولى للكتابة الروائية، وأعلن الدكتور جابر عصفور أن رواية “غابة الحق” لفرنسيس فتح الله مرّاش سنة 1865 هي الرواية الأولى، ثمّ أعلن حلمي النمنم (الصحافي والباحث والآن وزير الثقافة المصري) أن رواية “غادة الزهراء” لزينب فوّاز سنة 1899‏‏ هي صاحبة الريادة الأولى، إلى أن جاء الباحث الجزائري الطيب ولد العروسي مدير مكتبة معهد العالم العربي بباريس وذكر في مقالة أن رواية “حكاية العشّاق في الحبّ والاشتياق” لمؤلفها الجزائري محمد بن إبراهيم الصادرة في العام 1847، هي الرواية الأولى وفقا لتاريخ صدورها.

اكتشافات مثرية

جاءت هذه الصيحات في إطار السبق الصحافي والتحقيقات المهمّة، إلى أن أخذ الموضوع شكلا أكثر جِدِّيّة في إطار البحث الأكاديمي وما يتبعه من منهج علمي رصين بعيدا عن الاجتهاد الشخصي، بمحاولة محمد سيد عبدالتواب (الدكتور الآن) في أطروحته للماجستير لدراسة البواكير الأولى للرواية، وانتهى إلى أنّ رواية “وي.. إذن لست بإفرنجي” للبناني خليل أفندي الخوري وقد صدرت عام 1860، هي أوّل رواية عربيّة، مُتجاوزا بذلك ما ذكره من قبل الدكتور جابر عصفور ثم حلمي النمنم لاحقا، وإن كان وفقا للتواريخ يُعتبر ما قاله الباحث الجزائري هو الأصدق، حيث أن روايته المكتشفة تعود إلى العام 1847، أي قبل 13 سنة من صدور رواية خليل أفندي خوري صاحب جريدة “حديقة الأخبار” ومؤسّسها الذي وصفه مارون عبود بأنه من “أوّل روّاد التجديد”.

ومع الأسبقية الواضحة في التاريخ بالنسبة إلى الباحث الجزائري إلا أنه ثمة إصرارا على أنّ الأسبقيّة لرواية خليل أفندي الخوري، وهو ما أكَّده الناقد عبدالله إبراهيم، وإنْ كان يشير إلى أنّه صاحب الفضل في تنبيه الباحثين لهذه الرواية وريادتها، كما جاء في مقالة له نُشرت بجريدة الرياض بعنوان “هل هو كشفٌ سردي جديد أم تصحيح لخطأ قديم؟”. وأيضا ما قام به شربل داغر، حيث أعاد نشر الرواية عن دار الفارابي وكتب دراسة ألحقها بآخر الرواية سمّاها “المقدمة المتأخرة”، أكّد فيها على أنها أول رواية عربية ومن ثم تكون الريادة لبنانية كما أكد.

لا نغُالي إذا قلنا إن هذه المحاولات على تعدُّدها واختلافها في من هو صاحب الريادة، قد أَثْرَت السردية العربية بنصوص كشفت عن العقلية العربية في هذا التاريخ الموغل في القدم وطرائق التفكير المختلفة، وأيضا كشفت عن ممارسات ذكورية ضدّ المرأة، على نحو ما حدث مع الرعيل الأوّل من الكاتبات مثل: عائشة التيمورية، ومي زيادة، وملك حفني ناصف، ولبيبة هاشم، وقوت القلوب الدمرداشية وأخريات. ومع الأسف هو ما كشف عن تناقضات واضحة في العقلية العربية والتي مارست ازدواجية ما في تفكيرها، فمع شدة إيمانها بل ودعواتها إلى حرية المرأة واستقلاليتها وهدم نظام الأحاريم، إلا أنه على الجانب الآخر عندما رأت هذا الجزء يشاطرها غواية الكتابة ويبدع في موضوعات ظنت أنها حكر عليها، ومن ثم بدأت الإكراهات والمصادرة لهذا الإبداع، وهو ما أدى إلى غيابه ثم اكتشافه لاحقا.

بقدر هذه الأهمية لما طرحته مسألة النصوص الأولى، وما كشفت عنه من طرائق سردية وخصائص أسلوبية عكست سياقات تاريخية وثقافية كان لها تأثيرها الواضح، إلا أنّ أحدا طِيلة الأعوام السّابقة لم يقفْ عند أوّل نص مترجم إلى اللغة العربية، مكتفين بتلك المسلمات التي تشير إلى ترجمة رفاعة رافع الطهطاوي لرواية الكاتب الفرنسي فينيلون “مغامرات تيليماخوس” التي ترجمها حين كان منفيا في السودان أوائل الخمسينات ونشرها لأول مرة في بيروت عام 1867.
تحت عنوان “مواقع الأفلاك في مغامرات تليماك” ثمة إشارات أخرى إلى كتاب روبنسن كروزو ولكن بتسمية مختلفة: حياة روبنسون كروزو ومغامراته للكاتب الإنكليزي دانيال ديفو. لكن لم يَرَ أحد هذه الترجمة التي ظلّتْ تتردّد إشارات عنها في كتب تاريخ الأدب دون معرفة بالنص الأول المترجَم الذي يسبق نصّ الطهطاوي، وهو بتوقيع مترجم مجهول. ومن ثمّ تأتي أهمية رواية “روبنسن كروزو” 1835 التي عثر عليها الباحث محمد سيد عبدالتواب أثناء مراجعة مصادر بحثه في الماجستير عن “بواكير الرواية العربية”، وهو النص الذي أعاد المركز القومي للترجمة نشره مِن جديد في سلسلة ميراث الترجمة، بتقديم للدكتور خيري دومة ودراسة لمحمد سيد عبدالتواب.

الرواية المعربة

في مقدمة الدكتور خيري دومة للرواية يتتبع الإشارات التي لمـّحت لهذا العمل وشهرته حتى وصلت إلى “العربيّ في خيمته” كما ورد في مقدمة النص باللغة الإنكليزية في طبعة نيويورك عام 1835، ومنها إلى أوّل إشارة وردت عن الكتاب في المصادر العربية وقد وردت في كتاب إدوارد فان دايك عام 1897 “اكتفاء القنوع بما هو مطبوع” وتوالي الإشارات إلى من أرّخوا لدور الترجمة في نشوء الرواية العربية وتطورها، وهو ما جاء في كتاب “متى موسى عن أصول القص العربيّ الحديث” عام 1835، حيث أشار إلى احتمالية أن يكون فارس يوسف الشَّدياق هو الذي قام بالترجمة، كما يتطرّق الدكتور خيري إلى طرائق انتقال الترجمة الباكرة إلى المشرق العربي.

يَخْلُصُ الدكتور خيري في مقدمته بعد استقصاء لكافة التردّدات للعنوان إلى نتيجة مهمة فحواها أن أحدا مِن هؤلاء لم يقرأ الترجمة ولم يتوقف عندها بالدرس ومن ثم جاء الخلط في اسم المؤلف الأصلي للعمل بين ريفو وديفو، أو عدم إشارته من قريب أو بعيد إلى اسم المترجم الذي سيرجّحه محمد سيد عبدالتواب في دراسته إلى أنه الشّدياق وفق دلالات عديدة سيذكرها منها: هجرة الشدياق إلى مالطة سنة 1834، وقد أقام فيها زهاء 14 سنة يَدْرُس في مدارس المرسلين الأميركان، ومع أن اللُّغة العامية تسيطر على النص وهو ما جعل الباحث يتردّد في أن ينسب النص إلى الشدياق المعروف عنه حرصه على اللغة الفصيحة، إلا أنّه يقطع في النهاية ويُسلم بأنّ الشّدياق هو المعرب، كما يُفسِّر سبب انتشار العامية في النص، تجنُّبا لمصير أخيه أسعد الذي تعرّض لضغوط حتى مات وهو في ريعان شبابه، بعد أن خلَع مذهب والديه وتمذهب بالمذهب الإنجيلي.

لا يقف خيري دومة عند سؤال هل تكون هذه أوّل رواية تُترجم إلى العربية؟ وإنما ينفذ إلى إشكالية معقدة حقا وتحتاج إلى باحثين للإجابة عنها فيطرح أسئلة مُهمّة مِن قبيل: ما موقع هذا الكتاب بين الكُتب الأولى المترجمة أو حتى المطبوعة بالعربية؟ مَن قام بترجمة الكتاب وطباعته؟ وكيف وما قصته؟ وماذا فعل المترجم الأوّل بالنص الإنكليزي في القرن التاسع عشر؟ وعن أيّ طبعة من الطبعات الكثيرة للرواية قام بالترجمة؟ وبأيّ مستوى من اللغة العربية ترجم النص الإنكليزي؟ وإلى أيّ مدى تم إدخال تعديلات على النصّ بحيث يتواءم مع الذائقة القصصيّة العربية في ذلك الزمان؟

يسعى دومة إلى الإجابة عن هذه الأسئلة، وإن كان في الكثير منها يعترف بأنّه لا يمتلك لها إجابات قاطعة، فهو يقول “لا أحد يعرف على وجه التحديد الظروف التي أحاطت بترجمة هذه الرواية ونشرها، ولا من قام بالترجمة؟” حتى أنه يفكك المقولة التي قالها جورجي زيدان عن الشدياق وما أحدثته من تأثير على أجيال من الباحثين، فقد كانت أشبه بالتابو الذي أحاط بالرجل حتى أثبت خداعها وتضليلها للباحثين، حيث نسبت كل أفعال الترجمة الخاصة لكتب مطبعة مالطة للشدياق، في حين كان هناك مترجمون عرب أمثال عيسى الرّسام العراقي الكلداني والمصري حنا جولي.

الإشكالية الثانية التي تثيرها هذه الترجمة عن علاقة الرواية المعرَّبة بالإمبريالية؟ وهذا موضوع آخر سنتطرق له قريبا.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)