الموسيقى الخفية، جلال الدين الرومي، ترجمة خالد الجبيلي Djalâl ad-Dîn Rûmî - 1207-1273

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ١ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٦
جريدة الحياة
شوقي بزيع


عشق جلال الدين الرومي يكتمل بالموسيقى


على رغم مضي ما يقارب الثمانية قرون على رحيله، لا يزال الشاعر والناثر والمتصوف الشهير جلال الدين الرومي محط أنظار النقاد والدارسين في جميع أصقاع الأرض. استطاع الرومي- الذي ظل مجهولاً في الغرب قروناً طويلة إلى أن تمت ترجمته إلى الألمانية في مطلع القرن التاسع عشر وبعدها إلى لغات عالمية عدة - أن يأسر القراء بتجربة روحية متوقدة وشاعرية فائقة تؤالف ببراعة بين البساطة والعمق، بين الكشف الداخلي والبوح الغنائي العاطفي.

عثر الغرب، الذي احتفى بشاعري الفرس الكبيرين عمر الخيام وحافظ الشيرازي، على ما يحتاج إليه من الطمأنينة والسكون الداخلي في قصائد الرومي المفعمة بالشغف والانتشاء بالعالم والحب الإلهي وسط شلالات الدماء التي لم تتوقف عن التدفق عبر حربين عالميتين مدمرتين وحروب فرعية أخرى. ولم يتراجع الإقبال على قراءة الرومي في الآونة الأخيرة حيث رأى فيه كثيرون صورة الإسلام السمح والإنساني التي كاد يطمسها بالكامل جلاوزة العنف ودعاة التكفير. وليس غريباً في هذا السياق أن تصبح حياة جلال الدين وكتاباته ملهمةً حقيقية للعديد من شعراء العالم وفنانيه وروائييه، ومن بينهم الكاتبة التركية أليف شافاك التي استلهمت من سيرة مؤسس الطريقة المولوية وتعاليمه كما من ارتباطه العاطفي الوثيق بشمس الدين التبريزي، روايتها المميزة «قواعد العشق الأربعون». وهذه الرواية ما انفكت تحقق أرقاماً قياسية على مستويي الانتشار والترجمة إلى لغات أخرى.

جمع خالد الجبيلي قصائد الرومي وترجمها في ديوان عنوانه «الموسيقى الخفية» (دار الجمل). وفي مقدمة الكتاب، يتساءل الجبيلي عن الخلطة السحرية التي تعطي لهذه القصائد مذاقها النادر، فيرى أن فرادة الرومي تتأتى من سبره أغوار النفس البشرية ومن تجربته القلبية الصادقة في بحثه عن العشق الإلهي، وهو القائل «أن قلمي يتكسر إلى شظايا عندما أكتب كلمة عشق».

يوضح المترجم أن صاحب «المثنوي» كان في السابعة والثلاثين من عمره حين التقى بشمس الدين التبريزي، الذي كان في الستين آنذاك، والذي كان يجوب العالم بحثاً عن شخص مناسب يقدم له حكمته ويجعله رفيق دربه. وقد وجد الرومي في صديقه الجديد تجسيداً عميقاً لجمال الوجود ومتعة المعرفة والوصول إلى الحقيقة عن طريق القلب، بخاصة أن الرومي ساعد في تحريره من برودة العقل وقيود العبادة الصارمة.

وشكل رحيل شمس المأساوي المنعطف الحاسم في دفع جلال الدين نحو الشعر، بوصفه التعبير الأنجع عن عشقه الروحي المجروح بسيف الفقدان. وهو ما تمثل بكتاب «المثنوي» كما في «ديوان شمس التبريزي» على وجه الخصوص .

لا يخفى على المهتمين بتعاليم جلال الدين كما بنتاجه الشعري، عنايته بالموسيقى التي رأى فيها صاحب الرباعيات التجلي الأمثل لتناسق النظام الكوني والطريق الأقرب إلى الخالق. ولم تكن رقصة الدراويش، التي عرفت بعد ذلك بالمولوية (تقوم على الدوران المضطرد على الذات) سوى تعبير حسي عن افتتان الشاعر بالموسيقى وشغفه بها. ولعل وضع قصائد الرومي المترجمة تحت عنوان «الموسيقى الخفية» هو اختيار صائب تماماً لأنه يشير إلى نوع آخر من الموسيقى التي تمس الروح وتحملها على النشوة الخالصة في قصائد الرومي، إضافةً إلى الموسيقى الحسية المنغمة التي تتسم بها هذه القصائد. فالهمس الخافت وصولاً إلى الصمت هو الحاضنة الأكثر ملاءمةً لحالتي العشق والشعرالمغلفتين بالأسرار، في نظر الرومي الذي يقول في إحدى مقطوعاته: «هناك خيط من القلب إلى الشفتين \ حيث يحاك سر الحياة \ تقطع الكلمات الخيط \ لكن في صمت تتكلم الأسرار».

ليس ثمة عناوين فرعية للنصوص المختارة، لكنها تدور كلها في مناخ واحد من المكاشفة الذاتية والتأمل في الوجود والتغني بجمال المعشوق الذي يتحول إلى مرآة للذات الباحثة عن جوهرها الأسمى.

يدرك الشاعر أن الطريق إلى الحبيب مزروعة بحنظل الشقاء وشوك الألم، إلا أن كل ذلك ليس سوى الثمن الذي لا بد من دفعة للوصول إلى حلاوة الهدف ونعيم اللقاء. وهذه العلاقة بين الوجه والمرآة تتكرر عند أكثر من شاعر صوفي، وبخاصة عند فريد الدين العطار في «منطق الطير» حيث اكتشفت الطيور في نهاية رحلة البحث عن السيمرغ، الذي يشبه العنقاء من غير وجه، بأنه لم يكن سوى صورتها في مرآة العشق.

يدور الديوان بمجمله حول الحب والعشق الإلهي والاحتفاء بالقلب بوصفه الأداة الفضلى لالتماس المعرفة الحقة وسبر أغوار الوجود: «لا تهرع إلى كتبك بحثاً عن المعرفة\ بل خذ الناي واجعل قلبك يعزف». ومن المعروف في هذا الإطار أن أحداً من الشعراء لم يحتف بالناي احتفاء جلال الدين الذي رأى في بكائه الشجي شكلاً من أشكال الحنين إلى القصب الأول الذي انبثق عنه. أما ضمير المخاطب الذي يتكرر باستمرار في القصائد والمقطوعات، فهو غالباً ما يعود إلى الذات الإلهية وإلى خالق الكون الذي يكنّي الشاعر عنه بالمعشوق والحبيب والمعبود. لكنّ صاحب «السائل المنير» لا يلبث أن يفصح في مواطن أخرى عن اسم شمس التبريزي الذي يرى فيه التجسيد الحي لجمال المخلوق وألقه الروحي: «عندما أبصر وجهك\ أغمض عينيّ أمام الآخرين أسلّم إرادتي وأصبح تنهيدة على شفتيك\ كنتَ في يدي\ لكنني ظللتُ أمد يدي مثل أعمى \ لقد أسرتني قوتك طويلاً يا شمس التبريزي\ لكن حتى في حزني أنا فرحٌ \ كالهلال في مطلع العيد».

ثمة بعدٌ ابتهالي يلف قصائد الرومي ويحولها إلى مناجاة دائمة للحبيب الغائب من جهة، وإلى ثمل كلي بسحر الوجود وفتنة تكوينه من جهة أخرى. وثمة جمع بالمقابل بين العناصر المتقابلة التي تنصهر جميعها في طريق العروج نحو الحقيقة المطلقة: «مضيئاً كالقمر سأبزغ من الظلام\ لأني رأيت مصدر النور\ سأُبعث مثل لهب من نار العشق \ وسأصبح لا متناهياً مثله \ وعندما أبلغ نهايتي سوف أعزف الموسيقى \ التي ستعرج بي إلى الروح». على أن النور الذي يتم في ضوئه الكشف الصوفي ليس نور الخارج المتصل بحاسة البصر، بل نور الإشراق الحدسي الذي يملك وحده مفاتيح الولوج إلى ما استغلق من أسرار الوجود وأحجياته. وهو ما يعبر عنه الشاعر بالقول: «عندما ينسحب درويش من العالم / فإنه يغطي جميع الشقوق في الجدار/ كي لا يتسلل النور الخارجي/ فهو يعرف أن النور الداخلي فقط / هو الذي ينير عالمه».

لا تذهب لغة «الموسيقى الخفية» نحو الإغراب في القول أو التقعر في الألفاظ أو التعقيد في تركيب الجمل، بل هي تنساب بليونة النسيم الربيعي وعذوبة الماء الجاري. وليس ثمة إلحاح على البلاغة المفرطة أو تصيد مفتعل للصور والتشبيهات لأن ما يهم الشاعر في العمق ليس المهارات المتكلفة والتجميل المتعسف، بل جمال المعنى الذي يسبغه القلب على اللغة ويحولها إلى نصوص شبيهة بالابتهالات والتسابيح والهيام في حب العالم وكائناته المختلفة.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)