المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، تقي الدين أحمد بن على المقريزى

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الأربعاء، ١١ مارس/ آذار ٢٠١٥
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«إغاثة الأمة بكشف الغمة» للمقريزي : تفسير مادي مبكر للتاريخ


إذا كان قد قيل دائماً عن ابن خلدون أنه وضع في ثنايا «المقدمة» الشهيرة والمؤسّسة لنوع شديد الحداثة من علم التاريخ متضافراً مع علم الاجتماع، نظريات وقواعد في العلم التاريخي (والعمراني والاجتماعي) لم يقم هو نفسه بتطبيقها بعد أن فرغ من المقدمة وخاض غمار كتابة التاريخ نفسه، في كتابه الكبير «العبر»، فإن الكثير من الدارسين الذين رأوا هذا الرأي يقولون إن تعاليم ابن خلدون، مع ذلك، لم تذهب هباء، بل وجدت في الكثير من تلاميذه وحوارييه ومن جاء بعدهم من طبقها. وهؤلاء يبرهنون على كلامهم هذا، عادة، عبر ذكر واحد من أكبر أولئك التلاميذ: تقي الدين المقريزي، الذي عاصر آخر سنوات ابن خلدون في مصر وأخذ عنه وتأثر به إلى حد كبير. بل إلى حد يجعل الكثير من كتب المقريزي أشبه بتطبيق حي لما جاء في «المقدمة» من ربط الأمور بأسبابها وإرجاع العلل إلى معلولات مادية وتاريخية وجغرافية، وجعل الاقتصاد ونشوء الدول وزوالها ومفاهيم مثل العصبية جزءاً من كتابة التاريخ. وإذا كان المقريزي وضع في حياته التي أربت على الثمانين عاماً (بالحساب الهجري) عدداً كبيراً من المؤلفات، بين كتب ضخمة ودراسات موجزة، قال السخاوي إنها تبلغ المئتين، مغالياً بعض الشيء على الأرجح، فإن الأشهر بين مؤلفات المقريزي يظل كتابه «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» الذي اشتهر باسمه المختصر «خطط المقريزي» - وهو الكتاب الذي ألف على غراره كثر من المؤلفين العرب أعمالاً شديدة الأهمية قد يمكن القول إنها في شكل أو في آخر تنتمي إلى ما يعرف بـ «التاريخ الجديد»، ومن بينهم في العصور الحديثة المصري علي مبارك الذي كتب «الخطط التوفيقية» والسوري محمد كرد علي الذي كتب «خطط الشام». غير أن للمقريزي كتاباً آخر، ضئيل عدد الصفحات، ويبدو واضحاً لمن يقرأه أن مؤلفه قد وضعه دفعة واحدة، والكتاب الذي نعنيه هنا هو «إغاثة الأمة بكشف الغمة» الذي سيبدو لقارئه اليوم، على رغم ما فيه من إسهاب وخروج عن الموضوع في بعض صفحاته، كتاباً تأسيسياً، فريداً من نوعه في ذلك الزمن. وقد يصح ربطه ببعض جوانب أعمال مدرسة «الحوليات» الفرنسية الحديثة في كتابة التاريخ، أكثر من ارتباط أي كتاب عربي آخر بها، بما في ذلك كتب الخراج.

وأهمية كتاب «إغاثة الأمة بكشف الغمة» تنبع، بالتحديد، من موضوعته الأساسية كما تنبع من تجرؤ المقريزي على الدنو منها، وسط الظرف الاستثنائي الذي شكلته مرحلة تأليف الكتاب. فالواقع أن المؤلف وضع كتابه في خضم كارثة مجاعة وأوبئة حلت بمصر عند بدايات القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي). وتقول الحكاية إن المقريزي نفسه كان فقد ابنته الشابة في تلك الكارثة، ما أثّر عليه بشكل مضاعف، وجعله كما يبدو،- وكما فعل أستاذه ابن خلدون حين دفعته الكارثة إلى اعتزال الناس وتأليف «المقدمة» - يكف على وضع «إغاثة الأمة» وفيه بالتحديد، تحليل للكارثة وأزمنتها. ولكن أيضاً فيه عرض لأسبابها وطرق معالجتها. وكان ذلك هو الشيء الجديد، لأن المقريزي، وبشكل لم يكن معهوداً ومنتشراً في الفكر العربي/الإسلامي في ذلك الحين، لم يعتمد نظرية القدر في كلامه على كارثة تقضي على البشر واقتصادهم، ولم يَدْع إلى الصلاة وطلب التوبة رداً عليها، بل تجاوز ذلك ليقول إن للكارثة قوانينها المادية. وطالما أن لها تلك القوانين، يصبح من الطبيعي أن يكون ممكناً إزالتها. فإزالة الأسباب تمكن من إزالة النتائج. ولنا أن نتصور كم كان مثل هذا الكلام خروجاً عن السياق الفكري العام في ذلك الحين (وربما إلى الآن!). وللتدليل على كلامه راح المقريزي يستعرض في النصف الأول من كتابه تاريخ الكوارث والمجاعات والأوبئة التي حلت بمصر منذ «فجر التاريخ» (أو ما يعتبر، هو كذلك)، وحتى العام الهجري 808 عام المجاعة الجديدة ووضعه للكتاب.

وهكذا بعدما يفصّل المقريزي ما وقع من مجاعات، يصل إلى القسم الثاني والأهم من الكتاب معنوناً إياه: «فصل في بيان الأسباب التي نشأت عنها هذه المحن التي نحن فيها حتى استمرت طول هذه الأزمان التي دفعنا إليها». وهو لا يفوته أن يحدد منذ البداية أن «البلاء الذي حل بالخلق منذ كانت الخليقة (...) إنما يحدث من آفات تتعلق بالظروف الطبيعية السماوية في غالب الأمر: كقصور جري ماء النيل في مصر وعدم نزول المطر (...) أو آفة تصيب الغلال (...) وهذه عادة الله تعالى في الخلق، إذا خالفوا أمره وأتوا محارمه، أن يصيبهم بذلك جزاء بما كسبت أيديهم». لكن المقريزي، إذ يقول هذا ويريح ضميره الديني، ينصرف إلى موضوعه الرئيس والذي يهمه هنا، وهو الأسباب المادية البحتة، موضحاً كيف خفّ ماء النيل فتعطلت الزراعة وارتفعت الأسعار، ثم «تفاقم الأمر وحل الخطب وعظم الرزء». ويصل هنا المقريزي إلى لب الموضوع حيث يقول إن ذلك كله له ثلاثة أسباب، مؤكداً أن لا رابع لها: «السبب الأول، وهو أصل هذا الفساد، ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة» (ثم يورد أمثلة حية على ذلك) و»السبب الثاني: غلاء الأطيان» بعد أن تصدى «قوم على الأراضي الجارية في إقطاعات الأمراء، وجلبوا عمالاً أثقلوا لهم الأجور، وزادت الأسعار»، ما جعل الإقليم «يشرف على البوار والدمار». وأما السبب الثالث، والذي كان نتيجة طبيعية لذلك كله، فهو «رواج الفلوس»، أي ما يسمى في لغة أيامنا هذه الاقتصادية: التضخم النقدي. وإذ يؤكد المقريزي هذا الأمر الذي يعتبر تجديداً أساسياً، يتوقف قليلاً ليحكي تاريخ ضرب النقود، موضحاً في هذا الشأن نظريات مفاجئة، واصلاً إلى الحديث عن «غش الدراهم» ودوره في إشاعة التضخم وبالتالي فقدان الفلوس لقيمتها. وإذ يوضح المقريزي هذا، في تفاصيله، يتوقف عند تاريخ النقود في مصر، وينتقل في ذلك إلى ذكر أصناف الناس وأقسامهم، تبعاً لعلاقتهم بالاقتصاد، فيقسمهم سبع فئات (طبقات) تبدأ بأهل الدولة لتصل إلى «ذوي الحاجة والمسكنة»، فيما يعتبر أول حديث عن تقسيم طبقي، واقعي لا نظري، في التأريخ الاجتماعي الإسلامي، خصوصاً أن المقريزي يروح مفصلاً بعد ذلك دور كل من هذه الطبقات ولا سيما خلال الكوارث والمجاعات.

أما في القسم الثالث والأخير من كتابه، فإن المقريزي يورد الدواء بعدما تحدث عن الداء، وكما أن الداء بالنسبة إليه مادي له علاقة بتركيبة المجتمع، كذلك فإن الدواء مادي، وسياسي في شكل أكثر تحديداً، خصوصاً أن ما نسميه اليوم بالطبقة الوسطى (الفاعلة) هي مفتاح ذلك كله. ومن أهم دروب المعالجة تصحيح وضعية النقد وإعادته إلى الذهب والفضة والحد من إغراق السوق بالنقد الذي لا قيمة له والذي ينشأ التضخم عنه. ويبدو من الواضح جدة هذا الحل وغرابته... في ذلك الزمن على الأقل.

وتقي الدين، أحمد بن علي، المقريزي ولد في القاهرة (766هـ/ 1365م) التي نشأ ومات (845هـ/ 1411م) فيها، وهو أصله من بعلبك في بلاد الشام، ومن حارة فيها كانت تدعى حارة المقارزة، لكنه انتسب دائماً إلى مصر ووضع عنها أفضل كتبه. وهو في القاهرة اتبع خطى أسرته التي عرفت بالعلم والفقه والاشتغال بهما بين دمشق وبعلبك والقاهرة، ودرس دراسة تقليدية فيها انكباب على علوم الدين والقرآن والنحو والحديث. ومن الواضح أن تعرّفه إلى ابن خلدون وتتلمذه عليه، حين عاش هذا في مصر، وجها المقريزي إلى دراسة المجتمع والاقتصاد والعمران، خصوصاً أن زمنه امتلأ بالحوادث الكبيرة التي كانت تستدعي تأملاً استثنائياً، ويبدو هذا بوضوح منعكساً على عشرات الكتب التي وضعها، خلال تنقله في وظائف الحسبة والخطابة والإمامة، ثم دخوله دمشق وعودته إلى مصر. و «الخطط» يعتبر دائماً من أشهر كتب المقريزي إضافة إلى «السلوك في معرفة دول الملوك» و «تاريخ الأقباط» و «تاريخ الحبش» و «أمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع» (في تسعة مجلدات) و «رسالة في الأوزان والأكيال» وغير ذلك.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)