المنسيون ينهضون، شعبان يوسف (الأردن)، نقد بتَّانة - 2017

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الأحد، ١٢ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٧
جريدة الحياة
عمار علي حسن


شعبان يوسف ينعش الذاكرة بـ «المهمشين»


لا نعرف يقيناً الأسباب التي تجعل الذاكرة الأدبية والثقافية تُسقط في مسارها الطويل من حسبانها كتاباً، وتبقي آخرين. وهناك سؤال جوهري في هذا المقام: هل هناك ارتباط شرطي بين الموهبة والذيوع؟ أو حتى بين غزارة الإنتاج والصيت؟ ربما لا يجيب كتاب الشاعر والمؤرخ الأدبي شعبان يوسف «المنسيون ينهضون» (بتَّانة) عن هذا السؤال بطريقة مباشرة، لكنه يمدنا، من خلال عرض سير ذوات وأعمال عشرين روائياً وقاصاً وشاعراً وناقداً وتحليلها، بإضاءات مهمة حول تلك المسألة، تكمل، ما بدأه في كتابي «لماذا تموت الكاتبات كمداً؟»، و «ضحايا يوسف إدريس وعصره». في الكتب الثلاثة، يحاول يوسف أن ينتصر لأولئك «المنسيين»، أو مَن يرى هو أنهم لم ينالوا ما يستحقون من اهتمام.

وهذه وجهة نظر تنم عن تعاطف وحدب إنساني لا بأس به، بل لا بد منه، بغض النظر عن اختلاف الآراء حول قيمة من وردوا في الكتاب وقاماتهم، أو غيرهم، ممن تطول بهم القائمة، ويمكن أن ينضموا ببساطة إلى طابور المهمشين، بلا عنت ولا عناء. فإذا كان الكتاب الأخير لشعبان يوسف انصب على مصريين رآهم مستبعدين مهجورين مستقرين في قاع النسيان، فإن القائمة لا تكاد تنتهي إن ضممنا إليها مَن تم إقصاؤهم، عن عمد أو بتقصير من أنفسهم، في العالم العربي على مدار القرن العشرين، وحتى أيامنا الراهنة.

في الكتاب، تقتحم عيوننا أسماء الطاهر مكي، ونعمات أحمد فؤاد، وأنور المعداوي، وبدر الديب، وزهير الشايب، وحسن فتح الباب، وسيد خميس، وعباس خضر، وعلي شلش، وعادل كامل، وضياء الشرقاوي، ومحمد خليل قاسم، ومحمد كامل حسن، وعباس علام، ومحمود دياب، وحسين شفيق المصري، وصلاح ذهني، ومحمد يوسف، ومحمد مهران السيد. وقد يقول قائل إن بعض هؤلاء كان من البارزين، وأخذ حقه على قدر اهتمام المجتمع بالمثقفين عموماً، إذ ليس من المنتظر أن يحظى كاتب بشهرة لاعب كرة أو ممثل، وهذا معيار ينطبق على العالم كله، منذ اختراع السينما ومن بعدها التلفاز، لكن هذه النقطة لم تفت الكاتب، فهو يتحدث عن ضجة أحاطت بشخوصٍ منهم بعضَ الوقت ثم لفَّهم النسيان. والمثل الصارخ لهذا نعمات أحمد فؤاد التي ذاع صيتها حين تصدت للرئيس المصري الراحل أنور السادات في قضية «هضبة الأهرامات»، لتتوفى بعد سنوات طويلة من هذه الواقعة وحيدة منسية في بيتها. وهناك أيضاً مَن لم يأخذ حقه كرائد في مجال النقد، مثل المعداوي الذي كان أول من كتب عن نجيب محفوظ. وهناك مَن لم يجد ما يستحقه إبداعه من نقد مثل حسن فتح الباب وبدر الديب ومحمد مهران السيد. وهناك مَن كان في وسعه أن يصل إلى مكانة كبرى في الأدب، لكنه توقف في أول الرحلة مثل عادل كامل، ويوجد من بذل جهداً فكرياً ونقدياً عميقاً، لكن ما لاقاه من اهتمام لا يكافئ ما حققه من إنجاز مثل الطاهر مكي. وهناك من باع أملاكه في سبيل الأدب، لكن العائد كان ضئيلاً مثل سيد خميس، ويوجد متعددو الموهبة مثل زهير الشايب وعلي شلش.

يبقى هؤلاء الذي يسعى الكاتب إلى الانتصار لهم مجرد أمثلة معبرة عن التهميش، إذ كان في وسعه أن يضيف أسماء أخرى أوردها بالفعل في مقدمة كتابه مثل فكري الخولي وشهدي عطية وإسماعيل أدهم وأمين عز الدين وصلاح حافظ، لكن النماذج التي طرحها تبدو كافية إلى حد بعيد، وهي التي يمكن اعتبارها الفئة المهجورة والمستبعدة بدرجات مختلفة.

وتتعدى جدوى هذا الكتاب مجرد طرح جانب من تاريخ الأدب المصري، لا سيما أن مؤلفه لم يقف عند حد البكاء على ما تبقى من أعمال وسير هؤلاء، إنما ربط سيرهم الذاتية وأعمالهم الأدبية والفكرية بسياقها الاجتماعي والسياسي. بل تمتد هذه الجدوى إلى تلقين كل من يكتب حول ما يجب عليه أن يفعله درساً حتى لا يبتلعه التجاهل والإهمال والنسيان في ما بعد، لكن هل بوسع أحد أن يفعل هذا بحق؟ وإن فعل في حياته، فهل يضمن بعد رحيله ألا ينضم إلى قائمة المنسيين؟ ومن ذا الذي في وسعه أن يراهن على البقاء إلا الذين كانت حياتهم مختلفة، وإنجازاتهم فارقة، وأعمالهم لافتة، وتصوراتهم عابرة للزمن؟ أوليس من مجافاة الواقع أن نقارن أياً من هؤلاء بطه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وعباس العقاد ويوسف إدريس، وهم الذين نجد أخباراً تتوالى عن أعمالهم، وترد أسماؤهم في مقالات ودراسات، وتعد أطروحات عن منجزاتهم؟

إن بعض ما نراه تهميشاً قد يكون راجعاً إلى الكاتب نفسه، إذ إنه يئس مع أول مشكلة صادفته في مساره الأدبي، فتوقف وانسحب مهزوماً مثل عادل كامل، أو أنه أبدع عملاً واحداً لافتاً وكفى مثل خليل قاسم وروايته البديعة «الشمندوة»، أو أن تراجع الاهتمام باللون الذي يبدعه أدى إلى إهمال ما تركه مثل حالة محمود دياب الذي تأثر بتراجع المسرح، أو أن سفره الطويل خارج مصر أثَّر في الالتفات إليه مثل حسن فتح الباب، أو تغير اتجاه الشعر جعل ما أنتجه يتوارى مثل مهران السيد. وهناك من أقعده المرض عن مواصلة النضال الذي ساعد على شهرته مثل نعمات أحمد فؤاد، وهناك من أهمل ورثته إعادةَ نشر أعماله أو تنازعوا عليها فتوقف نشرها، وفي هذا حدث ولا حرج. وبعضهم لم يستطع نصه جذب انتباه الأجيال الجديدة، علاوة بالطبع على موقف السلطة، ومؤسساتها الثقافية، والتي في وسعها أن تجعل كاتباً في دائرة الضوء إن أرادت حتى بعد رحيله بسنين طويلة، من خلال إعادة طباعة أعماله، وإدراج بعضها في المقررات الدراسية، وعقد الندوات والمؤتمرات حوله، ومع هذا ليس في وسعها أن تفرض أحداً على الناس كي يحبوه ويقدروه ويحرصوا هم طواعية وفي حرية كاملة على متابعة أخباره والاحتفاء بما ترك.

لكن يبقى الأهم، والأكثر ديمومة، هو مَن يرتقي إلى جدارة العيش في أذهان الناس وقلوبهم وضمائرهم، حيث يجدون في ما أنتجه، وخلاه وراء ظهره ورحل، قدرة على الإجادة الواضحة، والإفادة المطلوبة، وهذا لن يتحقق إلا بحرص الكاتب على الإضافة المستمرة، والتجويد الدائم، والإخلاص لما يكتب فقط، شرط أن يكون موهوباً أولاً، ثم دؤوباً ثانياً، وأن يجعل ما بينه وبين الناس عامراً بالكفاح من أجل أن تصبح الحياة أكثر جمالاً، والبشر أكثر حرية.

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)