المشّاءة، سمر يزبك (سورية)، رواية دار الآداب في بيروت 2017

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
السبت 15-04-2017
الصفحة : ثقافة
هيثم حسين


"المشّاءة" لسمر يزبك.. صرخة طفلة تعرّي وحشيّة الحرب


<article3966|cycle|docs=4704,4705>


تروي الكاتبة السوريّة سمر يزبك في روايتها “المشاءة” حكايات من واقع الحرب السوريّة المستعرة على لسان طفلة صغيرة ساهمت ظروف الحرب بإنضاجها قبل أوانها، ودفعتها إلى التحدّث بلغة الكبار واستخدام مصطلحاتهم الغريبة عليها. تحكي كيف أنّ الحرب شوّهت طفولتها وبراءتها وألقت بها في عتمة قاتلة، وأوقعتها ضحيّة إجرام عبثيّ يمارسه أشخاص تجرّدوا من إنسانيّتهم وتحوّلوا إلى وحوش بشريّة.

الطفلة التي تعاني كثيراً من المشاكل النفسية والجسدية، لا تستطيع المكوث في مكان بعينه، تبقى دائرة حول نفسها، ماشية من نقطة إلى أخرى. يمنحها المشي قدرة على التنفّس، يحقٌّق لها كينونتها المستلبة، ويبقيها على تواصل مع الحياة. وكأنّ المشي يكون بالنسبة لها صمّام أمان، أو كوّة تنفّس إجباريّة تفقد من دونها هويّتها وتوازنها وتقع فريسة مخاوفها والمخاطر التي تحيق بها من مختلف الجهات، لكنّها تفقد تلك المتعة واقعياً، وتسجن وتحاصر، فتسعى إلى التعويض في السرحان بالخيال والمشي في الأعماق المنفتحة على مآسٍ رهيبة..

الطفلة التي كانت تعيش مع أمّها العاملة البسيطة على في الغوطة الشرقية لدمشق، على أطراف بلدة جرمانا، في غرفة بائسة، تكابد مع أمها جراحها ومشقات العمل والاستمرار، تشاهد أمها وهي تضغط على نفسها، لا تفصح عمّا يكئبها، تحاول قمع ابنها الثائر على جرأته ومقاومته واستعماله مفردات الثورة المرعبة لها، والتي تكون كفيلة بدفعه إلى حتفه في حال تمّ القبض عليه أو الوشاية به من قبل النظام الذي يتعامل مع معارضيه بطريقة انتقاميّة بشعة.

تتناسل الحكايات، تتوالى، تتوالد كصور حية في ذهن الطفلة الراوية التي تشعر أنها موكولة بنقل مآسٍ تكون شاهدة عليها، تدوّنها للريح والزمن، تتوجّه إلى قارئ مفترض يمكن أن يعثر على أوراقها المتناثرة في المكان الذي احتجزت وحوصرت فيه، وكان الناس يتساقطون أمامها جرّاء القصف المستمرّ بمختلف أنواع الأسلحة عليهم من قبل النظام.

تتنقّل الطفلة الراوية في عوالمها السحريّة، تتحدّث عن كواكبها السرّيّة، تنقل أحلامها وكوابيسها، يتداخل لديها الواقع بالتخييل، تهرب من بشاعة المعاناة والتقييد إلى رحابة الحلم الذي يعيدها من جهة أخرى إلى واقعها العنيف الهشّ، ويغرقها بالفجائع. وتراها تتحرّر من الالتزام بحبكة متصاعدة، تختار الحكايات كدوائر تتقاطع وتتماس فيما بينها، تدور في فلك مأساتها الشخصيّة ومأساة بلدها العامّة.

تستعين الطفلة الراوية بكتب أثرت فيها بطريقة ما كـ"الأمير الصغير"، “أليس في بلاد العجائب”، “فقه اللغة”، تتماهى مع أبطال الحكايات التي تتذكّرها، وتعجب بمرونة اللغة وانسيابيّتها وقدرتها على التوصيف واختلاق المرادفات والتعبير عن المعاني، وتكون بحكم إدمانها على القراءة في المكتبة مطلعة على كثير من الأشياء والأفكار التي تكون غريبة على مَن بعمرها، ثمّ تحاول نقل تلك التجارب القرائية إلى حكايات مصورة ومكتوبة إلى قرّاء مفترضين، تبوح وتكشف عمّا ينخر روحها، وتتصدّى بالكتابة لجرائم الواقع، توثّق مشاهداتها، تؤدّي دورها في الحرب كشاهدة شهيدة.

تستنطق صاحبة “لها مرايا” الطفلة الصغيرة وتكلّفها بتأدية مهمّة كبيرة، وهي الانتصار للضحايا وتجريدهم من حالة الترقيم، والحديث عنهم كأرواح وبشر لا كأرقام ضائعة في لجّة الحرب والقتل والدمار. تكون الطفلة بائحة بهواجس محيطها، متقمّصة بدورها شخصيّات أكبر منها، وتكون أداة الروائيّة في لعن الحرب والاقتتال بالبراءة والأسى. تراها تحكي عن أجساد مقطّعة وأشلاء متناثرة وكأنّها تحكي كابوساً من كوابيسها التي تغرقها، لكنّها في الواقع تهرب من حصارها واختناقها وقيودها وتسرح بخيالها في عالم المشي المنشود الذي حرمت منه.

يحكم وثاق الطفلة إلى حديد النافذة في قبو بائس، تشهد من مخبئها دمار البلاد برمّتها، تشهد مجزرة الكيماوي المرتكبة في الغوطة، تكاد تكون إحدى ضحاياها، تصوّر المشهد المأسويّ المرعب بلغة اللون والصورة والرسم، لا تكاد اللغة تسعفها في نقل الخراب والعنف والإجرام والإرهاب الذي عاشته مع غيرها من أبناء الغوطة وضحايا الكيماويّ، تبتدع ألواناً للعذاب الذي تفشّى هناك ودمّر الحياة والطبيعة، وتخترع لغة تواصلها الخاصّة وأبجديتها المشفّرة التي تختصّ بها وتلجأ إليها.

تلتقط الراوية مفارقات عبثية ومشاهد أليمة ومريرة، تصوّر التغيير الذي اجتاح المكان؛ دمشق ومحيطها، وكيف أنّ الشوارع قطّعت أوصالها، وجعلتها جزراً بعيدة عن بعضها بعضاً، حبست أهلها وحاصرتهم بالحواجز التي بدأ عناصرها من الجيش والشبيحة بابتزاز الناس واستغلالهم والتقاط المشكوك بهم، ناهيك عن عرقلة حركة المرور وتلويث المدينة بممارسات قذرة وشعارات طائفيّة بغيضة.

تصرخ الطفلة الغافية المقيّدة معرّية وحشيّة الحرب وإرهاب المجرمين، تستغيث، تبحث عن بارقة أمل وسط الخراب المعمّم، تتشبّث بخيط الحياة، تنجو من عدد من المجازر التي تشهدها، تستذكر أشخاصاً صادفتهم أو صادقتهم لفترة ثمّ فقدوا بطريقة بشعة في القصف والتعذيب. تتخلّل إلى مخابئ النظام والمشافي التي حوّلها إلى سجون وأماكن تعذيب، تكشف ما يسود من رغبة انتقاميّة قاتلة لدى الشبيحة وحقد منقطع النظير على أبناء البلد الذين يرونهم أعداء ومجرمين فقط.

يكون هناك نوع من المحاكاة والتقاطع من قبل صاحبة “بوّابات أرض العدم” في “المشّاءة” مع كتاب “آخر الشهود.. لحن منفرد لصوت طفل”، للبيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش الحائزة جائزة نوبل للآداب سنة 2015، التي روت على ألسنة الأطفال مشاهداتهم وحكاياتهم وتصوّراتهم عن الحرب البشعة التي شهدوها وعانوا من ويلاتها، وكانوا أبرز ضحاياها، وحملوا معهم ندوباً غير قابلة للمداواة والتطبيب، وجراحاً دائمة النكء عبر الزمن، وظلّوا قابعين في أنفاق الخوف والفقد لعقود، وكان البوح وسيلة استشفاء نسبية لاحقة لهم.

• الرواية صادرة عن دار الآداب في بيروت 2017.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة


حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.



جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الثامنة والعشرون العدد 8794 الجمعة 14 نيسان (أبريل) 2017 - 17 رجب 1438 هـ
شادي بطرس - كاتب مصري


«المشاءة» لسمر يزبك: حكايات الاختفاء وكواكبها السرّية


لا تظن أنك تقرأ رواية الآن، فما أكتبه هو الواقع، وأنا أكتبه لمحاولة فهم ما حدث»

باستثناء ذلك التأكيد العابر، فإن الواقع الذي لا يبارح رواية «المشاءة» لسمر يزبك (دار الآداب، 2017) يبدو للوهلة الأولى وكأنه مجرد خلفية للسرد، لا هدفه أو موضوعه. لكن ما يلبث أن يتضح أن السؤال الذي واجهته يزبك وتطرحه ليس معنيا بفحص الواقع نفسه وأحداثه، بل إن كان الواقع مازال ممكنا بالأساس. فكيف لنا تصور الواقع الذي أضحت سرديته في كثافتها وتكرارها على شاشات الأخبار شديدة الاعتياد، إلى الحد الذي فقد معه قدرته على إثارة ما يستحقه من الرعب والصدمة؟

تنطلق المشاءة، التي تذكر لنا الرواية اسمها الحقيقي مرة واحدة عرضا، من «مجرد رحلة قصيرة، قمنا بمثلها عشرات المرات»، لكن تلك الرحلة التي تستوقفها حواجز المخابرات الجوية، والبراكات الخضراء التي تشبه بيوت الكلاب، وتتسع لعسكري واحد داخها، ويتخللها حصار «زملكا» في شرق دمشق، والانتقال إلى «دوما»، والقصف بالكيميائي، وأصوات الانفجارات التي لا تتوقف، تنتهي بسلسلة من حكايات الاختفاء. وفيما تختفى الأم أولا، وبعدها الفتاة الصلعاء التي قابلتها المشاءة في المشفى الذي يديره النظام، ولاحقا يذهب الأخ بلا عودة، وتتحول أم سعيد إلى تمثال نصفي من الطين ويتحول نصفها الآخر إلى غبار، وكذلك يختفى ملاكها الحارس «الشاطر حسن» وغيره، فإن مشاءتنا التي تنتهي مقيدة وملقاة في قبو مطبعة وحدها، بينما لا تتوقف القذائف عن السقوط من حولها، تكتب بلذة ما، لا يفسدها إدراكها لحقيقة أنها أيضا حكاية ستختفي.

لكن ما يصدمنا ليس كل هذه الاختفاءات، التي تبدو واقعية جدا، وتتلى بوصفها أرقاما لعدد المقتولين والمختفين في نشرات الأخبار وتقارير المنظمات الدولية عن سوريا بشكل شبة يومي، بل المدهش هو تشابك تلك الأحداث مع ظهورات «الأمير الصغير» وكواكبه السرية التي تسكنها المشاءة، وتتنقل بينها كما تتنقل بين المشافي والأقبية، وكذلك «آليس» وبلادها العجائبية التي تظهر بين جولات القصف، وتضيف لها راويتنا «سمكة بفراء أرنب» تقفز بين ضلوعها كلما رأت حسن. تتركنا يزبك مع سؤال بطلتها عن الواقع وإمكانه: «هناك وسط دمشق وفي حارتنا وبيتنا؟ ألا يزال العالم قائما ؟ هل اختفى وتحول إلى عالم من قصص ورسوم؟ وكيف يعيش الناس هناك بشكل طبيعي، ويحدث هنا ما يحدث؟».

يظن البعض بمشاءتنا أنها خرساء، مع أن الحقيقة أنها لا تحب تحريك عضلة لسانها أو لا تجد ضرورة لفعل ذلك، والبعض الآخر يظن أنها مجنونة، لكن كل ما في الأمر أنها لا تستطيع التوقف عن المشي، فهي تلحق بقدميها التي تقودها، هي أيضا لا تحب ولا تكره، وتظن أنها لا تملك أي مشاعر، وتحس وكأنها غريبة وعمياء وكل ما يحدث حولها غامض. فكيف لمشاءتنا التي يصعب الجزم إن كانت طفلة أو فتاة بالغة بجسدها الصغير وصدرها البارز الذي يجلب لها الإحراج، أن تكون جديرة باختيار يزبك لها كي تروي سرديتها؟

تمتلك راويتنا ما لا يملكه غيرها، فهي التي يصعب عليها فهم الكلمات المجردة دون تحويلها إلى رسوم، أضحت ترسم بالكلمات، فهي تكتب بأبجديتها الخاصة التي ألحقت جدولا لها في نص الرواية، هكذا فالمشاعر والمعاني والأحاسيس الجسدية تأخذ اشكالا هندسية وألوانا. فالجوع يشبه مثلثا، والخوف هو دائري الشكل، والموت نتيجة القصف بالفقاعات ذات الروائح الكريهة (الكيماوي) بنفسجي اللون، فلكل موت لونه الخاص، لكن الخوف لا لون له، لأن الكتابة نفسها هي الخوف، أما التشنجات التي تصيب المرء بعد استنشاق الكيميائي فهي غابة من الخطوط المنكسرة ذات الزوايا القائمة التي تتشابك في عقد عدة.

تهدي يزبك رواياتها إلى «رزان زيتونة في غيابها المر»، بينما تتسأل مشاءتها عن الفرق بين الاختفاء والموت، مغرقة إيانا في دوائر متداخلة من الحكايات الصغيرة التي لا تكتمل سوى بالإعادة والتفصيل، وتقودنا كل واحدة منها للمزيد من الدوائر، دون أن تعرف كيف تنهي حكاياتها. هكذا تتركنا راويتنا بلا نهاية، سوى رغبتها في الصراخ، وعشرات من الصور المتراكبة، من الحيتان بأقدام نعام، وقرود برؤوس زرافات، وأسماك طائرة، وأرنب بريش نعام، وكذا إجابة ملتبسة على سؤال الواقع وإمكانية سرده، فهي ترغب في أمر واحد، أن تنقل «صورة الحياة كما هي حقيقة، خاصة رسوم الأمير الصغير، وحيوانات كليلة ودمنة».

تتحول رسومات الأمير وحيوانات كليلة ودمنة وألوانها، التي لا نراها، بل نقرأ عنها فقط، ويمكننا تخيلها، إلى الحقيقة في أكثر صورها حميمية، لا كتعزية عن غياب رزان زيتونة المر، أو كاعتراف بغرائبية الواقع، بل كمحاولة لتكثيف الخوف المتضمن في فعل الكتابة، ومنح الواقع المفجع بعضا من الحقيقة التي فقدها بفعل الاعتياد، عبر نزع وقاره وواقعيته عنه قليلا، بما يكفى لتبين ألوان الموت والغياب وتخيل كيف من الممكن لنا أن نرسم بها.

عن موقع جريدة القدس العربي


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.



جريدة الحياة


السبت، ٢٥ فبراير/ شباط ٢٠١٧
جريدة الحياة
مايا الحاج


سمر يزبك تروي الحرب السورية بلسانٍ مربوط


«المشّاءة» (دار الآداب) رواية سمر يزبك الأولى بعد الحرب السورية، والخامسة في مسيرتها الروائية. هذا التحديد الزمني مهم جداً في التعامل مع هذه الرواية، التي انتظر كثيرون قراءتها لمعرفة رؤية يزبك التخييلية إزاء حربٍ وثّقتها بكتابين يحويان يوميات الحرب في سورية وشهادات من أهالٍ ومقاتلين، «تقاطع نيران» و «بوابات العدم».

قد يظنّ بعضهم أنّ من السهل على كاتبة متمرّسة بناء رواية نواتها الرئيسة حاضرة في واقعها وبين أوراقها، هي التي تسلّلت من تركيا إلى الشمال السوري في ريف إدلب (بين عامي 2012 و2013) وكتبت مذكرات تسجيلية للقاءاتها وانطباعاتها حول ما يجري في بلدها. لكنّ التحدّي الحقيقي يظلّ في انقياد الكاتبة نحو سردٍ قوامه التخييل الإبداعي، لا الواقع التسجيلي. ومع قراءة العمل، يلتمس القارئ قدرة الكاتبة على إذابة كل مشاهداتها (العينية) في قالب روائي يُعبّر- تخييلياً- عن الواقع الخارجي (المُتعيّن).

لم تُخالف سمر يزبك توقعات القرّاء حين جعلت من الحرب تيمتها الرئيسة. فالحرب جذر مشترك في كلّ ما كتبته وتكتبه منذ بداية الثورة، مقالة ونصّاً ويوميات ورواية. لكنّ الحرب لم تحضر في «المشاءة»، عبر نقلٍ مرآوي، شديد الالتصاق بالواقع. إنما أعادت تشكيلها من خلال حكايةٍ ترويها- بصيغة المتكلم- فتاة (مُصابة بداء المشي)، هي أبعد الناس عن حرب شعواء يتحكّم فيها وحوش الداخل والخارج. وهي تُشرك القارئ في «تشكيل» حكاية تنسجها من حكايات كثيرة، مستخدمةً جُملاً «توصيلية» من قبيل: «سنعود إلى حكاية الحاجز»، «أين كنّا؟»، «هل أخبرتك إيّاها»... فيعتقد كلّ قارئ (عبر هذا التكنيك) أنّه هو المُخاطب المجهول الذي تكتب اليه البطلة روايتها من «قبوٍ في قلب الحصار».

اختلاف

تستخرج الراوية أفكارها تدريجاً - بالطريقة التي تخطر لها - بحيث تلجأ إلى تقنية «التناوب»، فتتوقف عن سرد الحكاية الأولى لتروي جزءاً من الثانية ثم تعود إلى الأولى. ومن ثمّ نكتشف أنّ ثمّة مساراً زمنياً محدداً تتبعه الراوية، يحفظ تراتبية الأحداث وتدرّجها. ولعلّ المحطات التي تتوقف عندها الراوية مقرونة دائماً بفكرة «الاختفاء»: اختفاء الأب (البيت)، اختفاء الأم (حاجز الاستخبارات)، اختفاء الفتاة الصلعاء (المستشفى العسكري)، اختفاء الأخ (الحرب في الغوطة)، اختفاء صديقه حسن (القبو تحت الحصار). وهذا إن دلّ فعلى فكرة الطمس والمحو والانعدام. وماذا بقي من سورية في صراع البعث الشمولي مع المتطرّف العقائدي؟

نعود إلى النصّ حيث يبدو لافتاً جداً تكرار السرد. فالراوية ترجع مراراً في خطابها الى الحدث عينه كأنما لترسخه في أذهاننا (علاقتها بالأوراق والمكتبة، معصمها المقيّد بمعصم أمّها...). وإذا قرأنا عن معنى هذا التكرار في معاجم النقد، نجد غالباً أنّ «تكرار السرد شائع عند الأطفال. هم يطلبون دائماً إعادة الرواية التي رويناها لهم، وكثيراً ما يتمنون إعادتها في الحال». وتأتي هذه التقنية لتُرسّخ طفولية الشخصية (وهي شابة لم يُحدّد اسمها ولا عمرها)، المأخوذة بعوالم «أليس في بلاد العجائب» و «الأمير الصغير». وبالحديث عن هاتين الروايتين، نجد أن يزبك تُقيم علاقات ظاهرة مع نصوص عربية وعالمية أخرى، لكنّ هذا التناص يأتي تارةً حرفياً كما في الاستعانة بنصّ (فصل) من كتاب الثعالبي وعنوانه «في ضروب الألوان والآثار»، وطوراً محاكاةً بمعنى التقليد والتحويل كما في «الأمير الصغير»: «ترى الحياة كأنها عبارة عن مستطيل غريب الشكل، يشبه الأفعى التي تبتلع فيلاً» (ص 48).

حين نقرأ في مستهلّ الرواية «لا أعلم إن كنت مهتماً بملمس الأوراق... ولن يُفيدك أي تفصيل أضيفه حول أصابعي حين أمررها فوق الأسطر التي دوّنتها يداي»، ثمّ نقرأ في اختتامها «لم أعد أركّز في الحروف. عليّ أن أصرخ»، نفهم أنّ تلك «الأسطر» ليست أكثر من صرخة أطلقتها البطلة أخيراً بعد سنواتٍ من «الخرس» الاختياري. كأنها تعوّض بالكتابة عن فضفضة لفظية حُرمت منها (لا تحرّك عضلة لسانها)، وفضفضة بصرية ضاقت عنها (مقيدة داخل غرفة ضيقة). تصف الفتاة نفسها (في الصفحة الأولى) بأنّها «مختلفة عن بقيّة البشر»: «أقف وأنطلق بالمشي. أمشي وأمشي. أرى الطريق بلا نهاية. تقودني قدماي وأمشي. أنا ألحق بهما فقط» (ص7). لكنّ «المشي» هنا لا يحمل المعنى الفلسفي اليوناني، ولا يُقارب المفهوم الذي طرحه أنطوان أبو زيد في روايته «المشّاء»، وإن كان العنوان يُحيلنا عليها. ولعلّ «مشّاءة» سمر يزبك ليست سوى النموذج المتخيّل للسوري التائق إلى التحرّر والانطلاق بعد عقود من حياةٍ متشنجة، أو الأصحّ مكبلة، في السجون كما في الشوارع والمنازل التي تنمو على جدرانها الآذان.

تحافظ يزبك على مستوى كلام بسيط يتناسب وشخصية الفتاة، فتبدو ألفاظ الراوية أبسط من معانيها، هي التي اكتشفت مثلاً أنّ الحياة ليست أكثر من تمرين على الموت، تماماً مثلما نتمرّن على الخطّ واللون قبل الرسم والكتابة.

تحولات

ظلّت يد الابنة «المشاءة» مربوطة دائماً بيد أمّها حتى ارتسم على معصميهما سواران بلون الدم المتجمد. أما اختلافها عن الآخرين فجعلها في نظر الجميع «مجنونة». ولم يكن ممكناً أن تلتحق بمدرسة، فظلّت حبيسة غرفة ضيقة في مخيم جرمانا، أو في مكتبة الستّ سعاد.

البيئة الاجتماعية التي تنتمي إليها الفتاة وعائلتها معدومة. تعمل الأم في تنظيف حمّامات إحدى المدارس. كانت تصطحب ابنتها معها، تُقيّدها بأحد عوارض المكتبة بحبل طويل وتتركها تحت مراقبة أمينة المكتبة، الستّ سعاد. في ذاك المكان، وجدت الراوية «كوكبها السحري»، على طريقة بطل أنطوان دو سانت اكزوبيري. علّمتها الست سعاد على مدار سنوات الكتابة والقراءة حتى صارت المكتبة كلّ حياتها. وحين تعود الى البيت، تقضي وقتها بالرسم والقراءة والكتابة. فالورق متعتها الوحيدة، وإن كانت تستمتع أحياناً بمداعبات الشاب الذي يوصل اليهم الأغراض من دكان الخضرجي.

مرّة، أرادت الأم وابنتها تلبية دعوة الست سعاد الى بيتها في «ساحة النجمة». كان عليهما أن تقطعا محطتين (باصين) كي تصلا الى المدينة. توقف الباص الثاني عند حاجز تابع للاستخبارات، أخذ يدقق في الهويات. يسبّ بعضهم، ويُجبر بعضهم الآخر على النزول لأنّه من قرية لا يوالي أبناؤها جميعاً النظام. وفي خضم معمعة التنزيل، انقطع الحبل الذي يربطها بيد أمها، فكأنّ حبل السرة انقطع فعلاً بين الأم وابنتها. شعرت بأنها ولدت من جديد حين استقلّ جسدها عن جسد أمها، فراحت تمشي بحرية غير آبهة بصراخ أمها. قدماها تجرّانها بلا وعي والأم تلحق بها. أطلق العسكري النار عليهما فتموت الأم وتستفيق الابنة الجريحة في المستشفى العسكري على صوت ممرضة تقول «هذا جزاء من يتظاهر ضد سيادة الرئيس».

الذات

التقت هناك بنساء معتقلات سياسيات، سمعت منهنّ ما لم تسمعه يوماً. إحداهنّ كانت صلعاء بعينين دائريتين وواسعتين جداً. سألتها إن كانت بكماء، فأجابتها بالإيجاب، علماً أنّ خرسها كان خياراً لا قدراً. « أنا لست خرساء، وكنت أرتّل القرآن، لكنني لا أرغب في الكلام، وأحبّ قراءة كتاب «الأمير الصغير» بصوتٍ عالٍ عندما يغيب أخي وأمي عن البيت» (ص 55)، تقول الراوية. وحين أخذها شقيقها من المستشفى، ذهبا معاً الى الزملكا في الغوطة الشرقية. سكنت في بيت تجتمع فيه عائلات، علمت من الحياة معهم أنّها لم تكن تعرف شيئاً من حقيقة هذا العالم، «ولا حتى ظلال هذا العالم الذي اعتقدتُ أنّ الكتب أخبرتني عنه بكل شيء» (ص75). وراحت تعلّم الأطفال الرسم بالألوان قبل أن تقصفهم الطائرات بالكيماوي وتجعلهم جميعاً بلون واحد.

ترصد سمر يزبك الحرب السورية الراهنة من الداخل. تتفادى أيّ مقاربة عيانية - اجتماعية، وتغوص في ذات الفرد نفسه. تطلّ على مشهد الدمار الشامل بعين فتاة تنتمي إلى فئة الشخصيات التراجيدية المتروكة لأقدارها. أما البطل الحقيقي للرواية فيبقى «الغياب»، الذي يبتلع كلّ الشخصيات، بمن فيها الراوية التي تبقى وحيدة داخل قبو في مدينة محاصرة بلا أكل وشرب، فنتوقع أن تتيبّس في النهاية كما تيبّست التفاحة التي ظلّت تأكلها على مدار أيام. «وأنا حكاية سأختفي ربما... حلقي جاف، رأسي يدور، لم أعد أركّز في الحروف. وعليّ أن أصرخ» (ص 206). وهذه النهاية تأتي لتُضيء معنى الإهداء الذي كتبته يزبك «إلى رزان زيتونة، في غيابها المرّ».

تُضاف «المشّاءة» إذاً الى روايات كثيرة عن الحرب السورية الراهنة، ولكن هل يمكن هذه الكتابات المتكاثرة أن تؤسس لمرحلة جديدة في الأدب السوري؟ وبماذا عساها تُسمّى، أدب الحرب أم الثورة؟

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


مقال جمال شحيّد : الحكايات المتداخلة في رواية “المشّاءة” لسمر يزبك - جريدة العربي الجديد الصادرة في لندن بتاريخ 7 فبراير 2017.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)