السبت، ١٩ أبريل/ نيسان ٢٠١٤
جريدة الحياة
القاهرة - صلاح حسن رشيد
أخيراً اعترف أهل اللغة والنحاة بصواب رأي جبران خليل جبران عندما هاجمهم فقال تحت عنوان «لكم لغتكم ولي لغتي»: «لكم من لغتكم: البديع، والبيان، والمنطق، ولي من لغتي: نظرة في عين المغلوب، ودمعة في جفن مشتاق، وابتسامة على ثغر المؤمن، وإشارة في يد السموح الحكيم، لكم منها الفصيح من دون الركيك، والبليغ من دون المبتذل، ولي منها ما يتمتمه المستوحش، وما يغص به المتوجع، وما يلثغ به المأخوذ، وكله فصيح بليغ». بل زاد جبران فهاجم سدنة النحو العربي، وجهابذته، فقال: «لكم منها ما قاله سيبويه، والأسود، وابن عقيل، ومن جاء قبلهم، وبعدهم من المضجرين المملين، ولي منها ما تقوله الأم لطفلها، والمحب لرفيقته، والمتعبد لسكينة ليله». فاللغة لا تعيش بغير الأدب، والفن، كما يقول الدكتور حسين مجيب المصري في كتابه المخطوط «تذكار الصبا»: «اللغة لا تحيا بالنحاة فقط، بل بخيال الأديب، وجرأة الشاعر، وجسارة الفنان، وريشة الرسام، ولولا ذلك، لتحنطت اللغات، وماتت في رحم النحاة، فالنحو نافلة، والأدب، والفن فرض الخلود».
بل، من قبل ذلك بكثير، اعترف النحوي خلف الأحمر البصري في كتابه «مقدمة في النحو» عندما أحس بالثقل الذي ألقاه النحاة على الطلاب، وبالصعوبات التي يواجهها دارس النحو على أيامه الزاهيات، فقال: «ولما رأيت النحويين، وأصحاب العربية أجمعين قد استعملوا التطويل، وكثرة العلل، وأغفلوا ما يحتاج إليه المتعلم المتبلغ في النحو من المختصر، والطرق العربية، والمأخذ الذي يخف على المبتدئ حفظه، ويعمل في عقله، ويحيط به فهمه»، فقد وضع خلف هذا الكتاب قبل أن تدخل الفلسفة، والمنطق في النحو، بحسب كلام الدكتور يوسف عز الدين، رحمه الله، في كتابه «تراثنا والمعاصرة»، وقبل أن يصبح النحو دالاً على كراهية الصغار للفصحى.
والملاحظ، أن الكلمة تظل قروناً في المعاجم حبيسة اللغويين، موؤودة النحاة إلى أن تجد أديباً مبدعاً، لديه الجرأة، والحرية، كي يطلق سراحها من أسر الآسرين الغالين، فتصبح شائعة بين الناس، وعلى ألسنة العوام.
وعن هذه الوظيفة القمينة بالأديب وحده، دون النحوي، يقول الأديب الكبير أحمد حسن الزيات الكلمة في مجلة «الرسالة»: «وفي اختيار الكلمة الخالصة بالمعنى إبداع وخلق، لأن الكلمة ميتة ما دامت في المعجم، فإذا وصلها الفنان الخالق بأخواتها في التركيب، ووضعها في موضعها الطبيعي من الجملة، دبَّت فيها الحياة، وسرت فيها الحرارة، وظهر اللون، وتهيأ لها البروز. والكلمة في الجملة كالقطعة في الآلة، إذا وُضعت موضعها على الصورة اللازمة، والنظام المطلوب، تحركت الآلة، وإلا ظلت جامدة. للكلمات أرواح».
ويقول الدكتور محمود جاد الكريم في كتابه «الدرس النحوي في القرن العشرين»: «ويعتبر كتاب سيبويه أول وأهم عمل حداثي بالنسبة للدرس النحوي في هذا المضمار في حينه، لأنه عمل غير مسبوق في منهجه ودرسه، وإن وردت إشارات عن كتابي (الجامع، والإكمال) لعيسى بن عمر، ولكن أمثال هذه المؤلفات لم تصل إلينا».
ويرى جاد الكريم أن شخصية سيبويه كانت تحديثية مبدعة في تأطيرها للنحو العربي على منهجية جديدة، وهو يصفه بقوله: كانت له شخصية قوية ظهرت في ابتداع بعض القواعد، وفي ترتيب الكتاب حاوياً عناصر الفن كلها، وتبويبه وحسن التعليل للقواعد، وجودة الترجيح عند الاختلاف، واستخراج الفروع من القياس الذي امتلأ به الكتاب. ويعد كتاب سيبويه محطة حداثية مهمة في حياة النحو العربي، وعلى حد عبارة بعض النحاة القدماء: أصبح النحو منطق العربية بمجيء سيبويه.
وتأتي المحطة الحداثية المكملة لسيبويه وهي ثورة الأندلسي ابن مضاء القرطبي (ت592هـ) في كتابه «الرد على النحاة» الذين وصفهم بالتقليديين، وهو الذي رفض أن يستمر الدرس النحوي لثلاثة قرون يرتكز على مجموعة من القواعد التي نالت درجة التقديس عند كثير منهم، وكانت ثورة ابن مضاء دعوة حداثية تجديدية باكرة، لإعادة النظر في منهج النحو العربي، وهو في كتابه المختصر النافع لا يدعو إلى هدم النحو ونسف الماضي، بل يطالب بتجريد النحو من الشوائب وتخليصه من صناعة النحاة، فيقول: «إني رأيت النحويين - رحمة الله عليهم- قد وضعوا صناعة النحو لحفظ الكلام من اللحن، وصيانته من التغيير، فبلغوا الغاية التي أمّوا، وانتهوا إلى المطلوب الذي ابتغوا». وقد استوحى آراءه النحوية الجديدة من المذهب الظاهري في الفقه.
وينتقد جاد الكريم عدم اهتمام معاصري ابن مضاء وخالفيه بما قال وأبدع، حيث استمر الغلاة في النحو في تعقيد الصناعة النحوية بعد ابن مضاء، إلى أن قام العلامة شوقي ضيف رحمه الله بتحقيق هذا الكتاب العام 1947، وأصدر من بعده كتابه العمدة عن تجديد النحو، ومؤلفاته عن تيسير النحو، وغيرها من بحوثه الداعمة لهذا الاتجاه الجديد. المهم أن العربية وجدت لها في كل العصور أنصاراً يذودون عن حياضها، فأنشئت لأجل ذلك المعاهد العلمية والمجامع اللغوية، وظهر علماء في اللغة ألّفوا حولها المعاجم والقواميس الشهيرة، أمثال: ابن منظور، والخليل، والثعالبي، والزجّاج، والزبيدي، وابن فارس، وغيرهم من الأدباء الذين أتعبهم ما صنعه النحاة بالفصحى الخالدة.
يقول يوسف عز الدين: ولا ننسى محاولات السيرافي، وابن مضاء الأندلسي في العصور القديمة في تسهيل، وتطوير النحو، وفي العصر الحديث مؤلفات الأساتذة: حفني ناصف، وعلي الجارم، ومصطفى أمين، والغلاييني، وإبراهيم مصطفى، وأمين الخولي، وعبدالحميد حسن، وعباس حسن، وأحمد عبدالستار الجواري، فقد عُقدت مؤتمرات في تيسير النحو في القاهرة، والشام، وحلقات في دار العلوم بالقاهرة، لخدمة هذه الفكرة!
من هنا، وضع النحوي إبراهيم مصطفى يده على جُرح اللغة، وجرم النحاة، عندما قال: «ألا يمكن أن تكون الصعوبة من ناحية وضع النحو، وتدوين قواعده، وأن يكون الدواء في تبديل منهج البحث اللغوي للعربية».
لذلك، لا عجب أن كتب الصحافي أحمد بهاء الدين - رحمه الله- قائلاً عن حفاوة شعوب الأرض بالعربية الساحرة، لغة الأدباء، والفنانين، لا النحاة الجامدين: «كان من حظي أنني زرت كثيراً من البلاد الإفريقية، وعرفت الناس فيها، من الزعماء الكبار والحكام... إلى باعة الفاكهة في الأسواق الفقيرة... ووصلت إلى تومبوكتو وعرفت معرفة شخصية، الأشواق الهائلة لدى هذه الشعوب إلى اللغة العربية، وإلى العروبة، وإلى معرفة لغة دينهم. كنت أسير في الأسواق، فإذا عرف العامة أنني عربي قادم من مدينة الجامع الأزهر الشريف، أحاطوا بي، لا حفاوة فقط، بل تبركاً، يمسحون بأيديهم ثيابي ثم يمسحون بها وجوههم. فاللغة العربية - لأنها لغة دينهم – مقدسة، ومن يتكلمها كأنه من الأولياء الذين يتبركون بهم. كنت أحياناً أهرب من الأسواق حين أشعر أن الرجال والنساء البسطاء يعاملونني وكأنني «ضريح متنقل» لا ينقصهم إلا أن يربطوا في عنقي وأطرافي أحجبتهم وأدعيتهم».
والسؤال المهم الآن هو: ترى متى يدرس الطلاب في بلادنا لغة شوقي، والعقاد، والأخطل الصغير، وحافظ، وطه حسين، والرافعي، ومارون عبود، وزكي مبارك، وأمين الريحاني، ومي زيادة، ومطران، وبدوي الجبل، ونزار قباني، وغادة السمان... وليس لغة النحاة التقليديين، المتحنطين، الوارثين للغموض، والإلغاز، والأحاجي التي تقضي على جماليات اللغة، ومكانتها بين الأجيال الجديدة؟!
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.