القسطنطينية، تيوفيل غوتييه (فرنسا)، رحلة Constantinople, Théophile Gautier (1811-1872) - France

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الإثنين، ٢٠ أكتوبر/ تشرين الأول
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«القسطنطينية» لغوتييه: الفرنسي تفتنه الحياة الشعبية الشرقية


تشكل الكتابة في «أدب الرحلات»، ومنذ زمن بعيد جزءاً أساسياً من النتاجات الإبداعية لعدد كبير من الروائيين والكتّاب غير الروائيين. ومنهم من كان ذلك الأدب يكمن في خلفية أعماله الروائية نفسها (على غرار بيار لوتي الذي يصعب أحياناً التفريق بين رواياته ونصوص رحلاته، أي بين ما ابتدعه خياله وما عاشه حقاً). وتواصَل هذا التقليد في عصرنا الحديث بحيث نعرف أن كتّاباً مثل نايبول وويليام غولدنغ، من بعد أندريه جيد وجان كوكتو، يشكل متن نصوصهم في أدب الرحلات أعمالاً كبيرة. ومن كبار منتجي أدب الرحلات في القرن التاسع عشر، كان تيوفيل غوتييه، الفرنسي الذي عاد من بعض رحلاته - لا سيما إلى مصر - ببعض أقوى نصوصه الأدبية. غير أن هناك من الباحثين والنقاد من يرى أن النصوص التي كتبها غوتييه عن رحلاته، تنبض بالحياة أكثر مما تفعل نصوصه الأدبيـــة الخالصة. وغوتييه لم يكن بخيلاً في الاستفاضة في الكتابة عن رحلاته، إذ إنه خلّف كتباً عــدة في هذا الميدان، إثر رحلات ظلت تشغل وقته وهمه طوال أربعة عقود، وعايشت الحياة الثقافية الفــــرنسية وغير الفرنسية منذ ذلك الحين، ولا تزال تفعل حتى الآن. وبين هذه الكتـــب ما يتحـــدث عن رحلاته إلى إسبانيا وإيطاليا وروسيا، حيث إن كثيراً منها يعتبر أشبه بوثائق تصور الحياة الاجتماعية، وحتى أحياناً السياسية، في تلك البلدان أواسط القرن الذي عاش فيه غوتييه. ومع هذا، على رغم جمال النصوص التي ذكرنا وحيويتها، تظل كتب غوتيــــيه ونصوصه عن «الشرق» أجمل ما كتب، وهي مجموعة في ثلاثة كتب يجمع بينها ذلك الحنـــين الدائم إلى زرقة السماء وإلى إطلالة الشمس كل يوم على هذه الدنيا. وهي تحمل العناويـــن الآتية «الشرق» (1877) و «بعيدا من باريس» (1865) أما النص الذي يحمل عنوان «القسطنطينية» (1853) فيعتبر من جانب الباحثين أقدمها وأجملها... وهو الذي يهمنا هنا.

صدر كتاب «القسطنطينية» لتيوفيل غوتييه أول الأمر في شكل حلقات مسلسلة في مجلة «لا برس» بدءاً من أول تشرين الأول (أكتوبر) 1852، ثم ظهر في كتاب جامع في العام التالي. ولقد حقق الكتاب فور صدوره للمرة الأولى من النجاح ما جعله يطبع أكثر من 10 مرات حتى نهاية القرن الذي صدر فيه. ويصف غوتييه في الكتاب الرحلة التي بدأها أوائل صيف عام 1852 منطلقاً من مرسيليا، ليصل بعد 11 يوماً إلى اسطنبول حيث بقي حتى 28 آب (أغسطس) أي خلال الفترة الطويلة نسبياً، والتي أعطته المادة الغنية التي تشغل صفحات الجزء الأكبر من النصّ. أما عند عودته، فإنه نزل في أثينا وكورفو والبندقية، ليصل إلى باريس أوائل شهر تشرين الأول، وبعد أيام من بدء نشر حلقات الكتاب التي كان أرسلها قبل وصوله انطلاقاً من تركيا، وكان عنوانها العام أولاً هو «من باريس إلى القسطنطينية... نزهة صيفية».

إذا كان الكتاب لقي إقبالاً من جمهور القراء العريض، ورسّخ توجهات جديدة في الأدب الاستشراقي، فإن النقاد والباحثين لم يكونوا أقل حماسة له وإدراكاً لمرامي غوتييه من خلاله. وها هو واحد منهم يقول متحدثاً عن الكتاب: «إن الجهد الكبير الذي يبذله غوتييه هنا، إنما يطاول بحثه الحثيث عن عالم لم تلامسه الحضارة الغربية بعد. وبالتالي عن عالم لا تزال له براءته الأولية. فإذا كان المسافر اتّبع هنا مساراً أخرجه من المدينة - بالمعنى المعاصر الحديث لكلمة مدينة - فإنه كان من حظه أن عثر هناك، في البعيد، على شرق لا يزال على حاله. غير أن غوتييه، في الوقت نفسه، لم يكتفِ بالتمعن في شرق جامد حُوّل إلى مومياء، بل تجاوز هذا ليحاول أن يحدث النظرة إلى تركيا «الحقيقية» عبر قراءته الإشارات إلى الحياة اليومية والتي كانت لا تزال قابلة لأن تُقرأ». والحقيقة أن تلك الحياة اليومية بعبقها وبعدها الإنساني، هي ما كان يهمّ تيوفيل غوتييه أكثر من أي أمر آخر. من هنا، لم يعد نصّه نصّ مستشرق مندهش، ولا نصّ عالم إناسة يدرس ويحلل، بل صار نصَّ راءٍ يتمعّن ويصف الأمور كما هي، يصف نبض الناس كما هو.

والحال أن من حظ غوتيـــيه أن زار تركـــيا في حقبة كانتــ تعيش فيها تطورات إصلاحية كثيـــرة... كان نصّـه شاهداً عليها. لكن هذا النص يأتي كذلك شاهداً على انبهار غوتييــه بإسلام كانت لا تزال له هو الآخر براءته الأولى، بعيداً من الإصلاحات السلطوية ذات المنحى الأوروبي، والتـــي أتته من أعلى، أي من سلطات راحت تسعى أكثر فأكثر إلى استخدامه في تبرير ما تقـــدم عليه، كما بعيداً من استخدام سياسي أتى ليبرر ضروب عنـــف وكراهية للآخرين. ولـــعل فـــي نظرة نلقيها على عناوين فصول الكتاب، ما يكشف عن تـــوجّه تيوفيل غوتييه في تعبيره عن نظرته إلى تركيا التي يختلط فيها الدين بالحياة اليومية، والحـــداثة السلطوية بعفــوية الشارع. فهو بعدما يتحدث عن اجتيازه البحر المتوسط وتوقفه فـــي مالطا، وسيرا، ونزوله في إزمير، يتوقــف عند الدردنيل، ثم عند القرن الذهبي، قبل أن يغـــوص مباشرة في ليلة رمضانية، ثم تقوده خطواته إلى المقاهي فالحوانيت والبازار. ومن ثم كان لا بد من أن يلتقي الدراويش الدوارين ثم إخوانهم الدراويش الصارخين. ومن هناك يتجه إلى حيث حفلات الأراغوز. وبعدما يصف مظاهر الحياة الاحتفالية الشعبية، يفاجأ غوتـــييه بوجود السلطان في المسجد، ليدعى بعد ذلك إلى عشاء تركي تقليدي. وتكون هذه، بالنـــسبة إليه، مناسبة للحديث عن النساء التركيات. وإذ تحل في يوم تالٍ ساعة الفطور، يجد صاحـــبنا الرحالة لذة مطلقة في مشاركة الصائمين إفطارهم بعد يوم صيام شاق. وهو بعد ذلك يتـــوجه إلى أسوار اسطنبول لزيارتها «لا سيما في مناطق من اسطنبول نائية، كان يحدث نـــادراً للمسافرين الأوروبيين أن يصلوا إليها. فهؤلاء لم يكن فضولهم ليبعثهم إلى أبعد من بزستين وآكميدان وساحة السلطان بايزيد، حيث تتركز كل مظاهر الحياة الإسلامية...».

ومن الواضح هنا، أن فضول غوتييه يبعث به إلى أبعد من ذلك، إلى حيث يزور الفنار، ثم حماماً تركياً. ومنذ تلك اللحظة تتخذ رحلة غوتييه طابع التعمّق في الحياة - وليس فقط في المشاهد - التركية. هكذا، حتى إذا كانت خطواته التالية، بدءاً من توغله في احتفالات السكان بعيد الفطر (البيرم)، ستقوده إلى حيث تقاد عادة خطى غيره من الرحالة الأجانب، فإن نظرته ستبدو مختلفة تماماً. ذلك أن حنينه الدائم إلى الأزرق وإلى المجتمعات البعيدة، سيكسو نظرته تلك بألوان محلية غير مندهشة ولا مستغربة، بل ستكون نظرة شخص يعرف جيداً كيف يندمج في المكان وكيف يتأقلم. من هنا، في الكثير من النصوص التالية نجد تيوفيل غوتييه يصف المكان وإنسانه كأنه يصفهما من الداخل. ولم يفت هذا الأمر النقاد، إذ نجدهم دائماً يؤكدون أنه إذا كان غوتييه يقارن دائماً، وفي كل فصل بين هذا العالم المسلم الذي يكتشفه وبين سمات الحياة في أوروبا المسيحية التي يعرفها جيداً، فإن «الإسلام هو الذي يخرج في معظم الأحيان متفوقاً. وليس أدل على هذا من أن غوتييه يحدثنا في آخر فصول الكتاب عن أن «المرء بعد نهار صيفي حار، يجد جسده وقد عادت إليه الحياة، ويشعر بفرح الوجود عند المساء بحيث لا تعطيه العودة إلى السرير سوى الندم»، مع أن مستشرقين غيره كانوا لا يتوقفون عن وصف الإمبراطورية العثمانية بـ «الباردة»، «المترنحة» بل «المشلولة».

عندما نشر تيوفيل غوتييه (1811 - 1872) نصوصه هذه عن اسطنبول، كان قد تجاوز الأربعين من عمره، لكنه كان قد عرف المجد الأدبي ككاتب روائي رومانسي وغرائبي النزعة بأعمال مثل «السلسلة الذهبية» و «كوميديا الموت» و «إسبانيا» و «فورتونيو». أما مجده المرتبط بالشرق، فسيبزغ اعتباراً من صدور «القسطنطينية»، ليصل إلى ذروته مع أعماله التالية المرتبطة بالشرق - خصوصاً في مصر - مثل «حكاية المومياء».

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)