القاهرة وما فيها للمصري مكاوي سعيد الدار المصرية اللبنانية - 2017

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الأحد 11-03-2018
المدن - ثقافة
أسامة فاروق


"القاهرة وما فيها".. جلسة أخيرة مع مكاوي سعيد


“أحب القاهرة لأني ولدت في عاصمتها الفخرية منطقة وسط البلد”..


في آخر كتبه يسأل مكاوي سعيد: لماذا أكتب عن القاهرة وقد كُتب عنها آلاف الكتب والدراسات من مصريين وأجانب في العصر الحديث على الأقل؟ هل لأنها أكبر مدينة عربية من حيث المساحة وعدد السكان! هل لأنها من أكثر المدن تنوعاً، حيث مرت بالعديد من الحقب التاريخية والثقافية والحضارية، ولاتزال آثار تلك الحقب باقية حتى الآن! أم لأنها عاصمة الوطن العربي كما يقول البعض؟

ثم وكأنه ملّ الأسئلة، أو وجد أنه لا يحتاج الى مبررٍ أصلا، فقال “أنا أحب القاهرة لأني ولدت في عاصمتها الفخرية منطقة وسط البلد”... ألا يكفي هذا؟

في "القاهرة وما فيها"(*) يكتب مكاوي من منطق العشق، عشق الأماكن التي عاش فيها وتابع تحولاتها، وتحولات ساكنيها التي تجوب أرواحهم طرقها وأسبلتها كل ليلة، يكتب “امتنانا لهذه البقعة المباركة” التي عشقها وأصبح هو نفسه أحد معالمها.

لذا لا ينصح بقراءة الكتاب مرة واحدة، الأفضل أن يتم ذلك على دفعات، صحيح أن معظم الكتاب تجميع من مقالات سابقة، وبالتحديد مقالاته في صحيفة “المصري اليوم”، لكن تجميعها بهذا الشكل الذي يغلب عليه الحكايات يجعلها أشبه بجلسات طويلة على المقهى مع مكاوي نفسه، يحكي في كل مرة عن شخص أو مكان وربما الاثنين في وقت واحد، فأحداث الكتاب غير مرتبة زمنياً، ولا رابط محدداً لجميع المقالات سوى القاهرة نفسها، فالكتاب لا يتناول أحداثا تاريخية بعينها ولا حوادث سارة أو مفجعة بذاتها، إنما كما يقول صاحبه “يجري كمياه المطر كيفما اتفق” بما يحويه من مقالات وتدوينات الكتب والأخبار، وما كتبه الأجانب والمصريون والمتمصرون عن القاهرة في عهد الفاطميين وعن القاهرة الخديوية، وعن السلاطين والملوك قبل عصر الثورة، في السياسة والعمارة والفن والحوادث الطريفة والمفجعة، عن فنانين أحببناهم كالريحاني، وأم كلثوم ومحمد فوزي، وبيرم التونسي ومحمد كريم وعلي الكسار والقصبجي وآخرين.

يبحث مكاوي عن عالم لم يعد له وجود، والكتاب في مجمله مرثية لزمن جميل مضى، لأماكن وأشخاص صنعوا جانباً مهماً من تاريخ هذا البلد المصاب دائما في تراثه، يبدأ مع انتهاك الغرب لمئات الألوف من المومياوات المصرية لطحنها وبيعها للأثرياء تحت دعوى أنها مقويات جنسية، غير البرديات التي كانوا يشترونها من التجار بأبخس الأسعار، حتى الفلاحات كانوا يحرقونها لتسوية الخبز! وصولا إلى تاريخ السينما المصرية الذي تفرق بين القنوات ورجال الأعمال، يحكي مكاوي عن الصور التي ضاعت والكنوز التي نهبت والذاكرة التي خسرت الكثير بسبب الجشع على مدى العصور والأزمنة، معتبراً ما كتبه بمثابة محاولة بسيطة لتسجيل بعض من تاريخنا المهدد بالمحو.

يبدأ بحكاية طريفة بطلها “بسي بك”، مدير المخابرات البريدية الذي لم يغادر مكتبه مدة 48 ساعة، لكي يكون أول المبشرين للأمير إسماعيل بوفاة عمه وصعوده لسدة جده العظيم محمد علي، وكانت قد جرت العادة أن ينعم بلقب “بك” على أول من يحمل إلى الوالي الجديد خبر صيرورة العرش المصري إليه، وأن ينعم عليه بالباشوية إذا كان يحمل لقب “بك”. لكن النعاس غلب “بسي” في نهاية الأمر وطلب من مساعدة أن يحل محله عدة ساعات ريثما يذهب هو إلى مخدعه وينام قليلا، وأوصاه أن يوقظه إذا جاءت البرقية المنتظرة، ووعده بجائزة قدرها 500 فرنك مقابل ذلك، ولم يكن الموظف الصغير يجهل عادة الإنعام السابقة، لذا لما انتصف الليل بين اليوم السابع عشر واليوم الثامن عشر من شهر يناير سنة 1863 وردت من الإسكندرية البرقية المنتظرة، فتلقاها الموظف الصغير وأسرع بها إلى سراي الأمر إسماعيل وطلب المثول بين يديه “فجثا الرجل أمامه وسلمه الإشارة البرقية الواردة، فقرأها إسماعيل وما إن أتى على ما دون فيها إلا ونهض والفرح منتشر على محياه، فوقعت الإشارة من يده، وشكر الله بصوت عال على ما أنعم به عليه من رفعة إلى سدة مصر السنية، ثم ترحم على عمه ترحماً طويلا” حصل الموظف الصغير على البكوية بالفعل، وعاد إلى “بسي” بالبرقية نفسها، فأخذها الأخير لإسماعيل الذي فاجأه “لقد أصبح هذا لدينا خبرا قديما”، ولم يخسر “بسي” اللقب فقط لكن خسر أيضا الـ500 فرنك التي وعد بها موظفه المكير الذي حصل عليها دون أن يخبره بفعلته وتركه يمضي إلى قدره بقدميه.



ومن علي مبارك وأعماله العظيمة في مصر، يقفز مكاوي إلى الحكايات الغرائبية للحاكم بأمر الله، ومنه لحكايات أخرى عن تقسيم القاهرة، فيقول إنه عندما نظم محمد علي مدينة القاهرة قسمها إلى ثمانية أقسام، وجعل في كل قسم منها مركزا للبوليس أو “قره قول”، وكلمة “قره” بالتركية معناها “أسود” و"قول" تعنى أن المركز يضم طابورا من الجنود الذين يرتدون الزي الأسود، وقد حرفت كلمة “قره قول” إلى “كراكون” التي كانت مستخدمة حتى وقت قريب في الإشارة إلى قسم البوليس، كما استخدم العامة كلمة “تمن” للدلالة على القسم، لأن القاهرة كانت بها ثمانية أقسام، وكان التهديد السائد وقتها هو “هاوديك التمن” مثلما كانت أقصى عقوبة (في عهد الخديو إسماعيل) هي النفي إلى مدينة “طوكر” فى السودان التي نادرا ما رجع من منفاها أحد المنفيين، وصارت كلمة “هاوديك في طوكر” كلمة بالغة القسوة.

لكن في بعض النفي فوائد أيضا، كما في حكاية مكاوي عن الزعيم أحمد عرابي. فبعد أن استقر في منفاه بجزيرة سيلان، بعد الثورة العرابية، أعجب بفاكهة المانغو التي لم تكن معروفة في مصر، فأرسل إلى صديقة المنشاوي باشا ألف شتلة من أشجارها، فزرعها في أطيانه، وأعجب الناس بها وسميت بمانغو المنشاوي، كما زرع أحمد تيمور باشا أيضا أشجار المانغو في مزارعه، وأطلق عليها “المانغة التيمور” وزرع درانت باشا وهو أحد الفرنسيين من حاشية الخديوي عباس حلمي، المانغو في مزارعه بالقرب من الإسكندرية، وسماها “الفونسو” واشتهرت أيضا بالاسم نفسه “ومن الطرائف التاريخية أنه عندما تولى السلطان برقوق حكم مصر حرم على الباعة النداء على فاكهة البرقوق حتى لا يستغل المعارضون والناقمون على حكمه اسم هذه الفاكهة في السخرية منه.. وهذا شبيه بما حدث في عهد الحاكم بأمر الله عندما حرم على المصريين أكل الملوخية، لأن خادمه الخاص كان اسمه ملوخية، ومازال موجودا في القاهرة حتى اليوم شارع اسمه درب الملوخية”.



ومن الملوخية الى كلوت بك الذي أرادت الدولة المصرية تكريمه فأطلقت اسمه في عام 1873م على الشارع الذي يبدأ من ميدان الخازندار بالعتبة إلى ميدان باب الحديد “رمسيس حالياً”، وكان هذا الشارع إلى ما قبل الحملة الفرنسية على مصر أحد أشهر أسواق تجارة الغلال والحبوب، لذا اختاره نابليون بونابرت عقب دخوله القاهرة محلا لإقامة جنوده، حتى يضمن لهم الإمدادات الغذائية، وأمام قسوة تعامل المحتل، هجره معظم أبناء الشارع، وحل محلهم أصحاب المصالح الذين فتحوا العديد من الحانات والملاهي وبيوت الدعارة المرخصة!

وفي فترة ما قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، أصبح هذا الشارع من أهم مراكز بيوت الدعارة المرخصة رسمياً في القاهرة، ولم تكن الداعرات مصريات فقط بل شملت الأوروبيات أيضاً للتخديم على الجنود الإنكليز والأُستراليين، ووصل عددهن في تلك الفترة إلى أكثر من ثلاثة آلاف فتاة أوروبية مرخص لها بممارسة هذا النشاط. من عجائب القدر أن الشارع الذي حمل اسم الطبيب عدو الداعرات كلوت بك أصبح ملجأً لهن!



يجمع الكتاب المقالات التي كتبها مكاوي عن الأزبكية وتحولاتها المعمارية، وعن أفراح أنجال أسرة محمد علي التي كلفت الدولة ملايين الجنيهات، وتغيرت بسببها مناطق كاملة في القاهرة، ورسمت منطقة وسط البلد تقريبا، عن عماد الدين وأشهر معالمه “كازينو دي باري” لصاحبته الغانية الفرنسية “مارسيل” التي استقدمت له أشهر الفرق الأوروبية وأجمل الراقصات الفرنسيات وأقدرهن على اصطياد القلوب والجيوب، فوفد إلى ملهاها رواد حي الأزبكية وملاهي “ألف ليلة وليلة” و"نزهة النفوس" من كبراء مصر وعظمائها وبعض أمراء الشرق، ممن كانوا مولعين بالليالي الحمراء، وكان ملحقا بالملهى “مسرح كازينو دي باري”، وكانت أول فرقة مسرحية تعمل عليه هي فرقة الممثل الكوميدي مصطفى أمين، ومن مآثره أنه أول من جاء بالفنان علي الكسار من مسرح الكلوب العصري في الحي الحسيني إلى شارع عماد وأشركه معه في أول مسرحية قدمها على هذا المسرح، وهي مسرحية “حسن أبوعلي سرق المعزة” وابتكر له شخصية “البربري في باريس” التي ارتفع أجره بسببها إلى 60 جنيها شهريا. وكانت مارسيل تدير إلى جانب الملهى والمسرح عدة بنسيونات، درّت عليها ثروة طائلة قُدرت بمليون جنيه حينها، ثم تبخرت ثروتها وعاشت على الكفاف، ورغم ذلك ظلت محتفظة بكمبيالة قيمتها مائة جنيه بتوقيع أمير الشعراء أحمد شوقي حرصت عليها ذكرى لأيام العز الزائل، وفي ضائقتها- بعد وفاة أمير الشعراء- عُرض عليها آلاف الجنيهات ثمنا لهذه الكمبيالة لكنها لم تفرط فيها حتى آخر يوم في حياتها.

من نوادر الفنانين أيضاً، يورد مكاوي حكايات عن أم كلثوم تكشف وجها جديداً لكوكب الشرق المعروفة بجديتها الشديدة، فيذكر أنها كانت “واخدة على خاطرها” من الكاتب الصحافي محمد التابعي، الذي كان في طريقه الى بيتها لمصالحتها فأسرع نحوها قائلاً: حضرتك رايحة على فين؟

أجابته قائلة: حدايق القبة.

قال لها: كويس قوي.. عشان تخديني في سكتك.

قالت له: بقولك حدايق القبة.. حدايق القبة.. مش حضايق نفسي.

وكان لها جار ثقيل الظل، بارع في فرض نفسه، يطب عليها ليرتشف معها قهوة الصباح، ومرة أخرى ليحتسي شاي الخامسة، وذات يوم وهو يجالسها دخلت مجموعة من الضيوف بيت أم كلثوم فبدأت تُعرّف جميع الأطراف بعضهم ببعض قائلة: أستاذ فلان.. أستاذ علان.. وحين جاء الدور على هذا الجار أشارت إليه قائلة: وده بقى جار ثومة “جرثومة”.

وصحبها في القطار ذات مرة الملحن محمد القصبجي في سفرة غنائية، وأثناء السفر أخرج القصبجي قلماً أسود وأخذ يلون شاربه. وتأملته أم كلثوم وقد أخذتها المفاجأة، لكنها سرعان ما قالت بسرعة بديهتها المعهودة: شوفوا الراجل رجع شباب بجرة قلم.

وكانت صاعدة سلم دار الإذاعة القديمة بشارع الشريفين وصادفت الشاعر أحمد رامي، الذي كان نازلاً من المبنى، فتوقف رامي وأخذ يد أم كلثوم بين يديه وظل يرحب بها قائلاً: إزيك يا روحي؟ إيه أخبارك يا روحي؟ إنتِ طالعة تعملي إيه يا روحي؟ ولما كانت أم كلثوم في عجلة من أمرها فقد تدخل ابن شقيقتها إبراهيم الدسوقي، الذي كان يرافقها، وقال لأحمد رامي: جرى إيه يا أستاذ رامي.. إنت مش نازل؟ فردت أم كلثوم بسرعة بديهة قائلة: وهو معقولة ينزل وروحه طالعة؟!

(*) رحل مكاوي سعيد في ديسمبر الماضي، وكتابه الأخير “القاهرة وما فيها” صدر بعد رحيله عن الدار المصرية اللبنانية.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)