الفكر والسياسة في العالم العربي للدكتور جورج قرم منشورات دار الفارابي - 2017

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الجمعة 25 مايو 2018
جريدة الحياة
موريس أبو ناضر


جورج قرم في مقاربة جديدة للعلاقة بين الفكر والسياسة عربياً


يعيد الباحث والمفكر اللبناني جورج قرم في كتابه «الفكر والسياسة في العالم العربي» منشورات دار الفارابي، يعيد النظر بالطروحات النمطية الطابع التي أصبحت مسيطرة على الساحة الفكرية العربية، المتأثرة إلى أبعد الحدود بالإشكاليات الغربية الفلسفية والاستشرافية والجيوسياسية، وعلى الطروحات السياسية حول صراع الحضارات، والعودة إلى الالتزام بالإسلام ديناً ودنيا ونمط تفكير.

وإعادة النظر بالطروحات النمطية الطابع كما يشرحها قرم تطاول طرحا آخر قلما تعمّق المثقفون العرب بدرسه وبحثه، حول دور المفكرين المسيحيين الذين لعبوا دوراً مختلفاً عن دور المفكرين المسلمين منذ مطلع عصر النهضة وحتى اليوم، كما تظهر في كتابات مفكرين مبدعين هما اللبناني ألبرت حوراني، والفلسطيني هشام شرابي.

أصدر حوراني المستشرق البريطاني اللبناني الأصل كتاباً في الستينات من القرن الماضي بعنوان «الفكر العربي في عصر النهضة» وقد ترجم إلى العربية، وكان هذا الكتاب دائماً محل استيحاء من قبل العديد من المؤلفين والباحثين. استهل حوراني الحديث عن عصر النهضة بوصول نابليون إلى مصر عام 1798، والصدمة التي أحدثها في الدوائر الفكرية العربية، واختتمها عام 1939 عشية الحرب العالمية الأولى. كرّس حوراني الفصول الأولى من كتابه لتعريف سريع بالدولة الإسلامية ولقضايا السلطنة العثمانية، أما الفصل الرابع فهو عبارة عن لمحة موجزة عن الأفكار التي طرحها الطهطاوي في مصر، وخير الدين التونسي في تونس، وبطرس البستاني في لبنان، ثم خصّص الفصلان الخامس والسادس لشخصيّتين مهمتين في الإصلاح الإسلامي هما جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ويتناول في الفصل السابع الكتّاب الذين عملوا على التوفيق بين الإسلام والحداثة، أما في الفصول الأخيرة فيبتعد حوراني عن سياق الفصول السابقة حيث كان يستذكر من دون تمييز المفكرين العرب من مسيحيين ومسلمين، كي يضعهم فجأة في موقف تناقضي عبّر عنه في الحديث عن الدور الطليعي الذي اضطلع به الرواد المسيحيون في علمنة العالم العربي وبخاصة شبلي الشميل (1860-1917) وفرح أنطون (1874–1922).

يرفض المفكر اللبناني جورج قرم طروحات حوراني (وأنا معه) حول وجود فروقات هامة بين المفكرين المسيحيين والمسلمين، تتمظهر في كون المفكرين المسيحيين كانوا أكثر راديكالية من أقرانهم المسلمين في الدعوة إلى فصل الزمني عن الروحي. في الواقع أن القول أن هؤلاء المفكرين كونهم مسيحيين بالولادة هم أكثر قرباً من الأفكار العلمانية الأوروبية، وأكثر جذرية من المسلمين، لا تتطابق مع الكتابات التي طالب فيها المسيحيون والمسلمون على حد سواء بالفصل بين الزمني والروحي، وإعطاء الفرد قيمته وحريته بما في ذلك حرية المعتقد. تجدر الملاحظة أن التقسيم الثنائي ذي الطبيعة الجوهرانية بين المفكرين المسلمين والمفكرين المسيحيين الذي ابتدعه حوراني في كتابه، مستوحى من المقاربة الأنتروبولوجية التي طبّقها الاستشرا ق الأوروبي في دراسته للمجتمعات العربية.

في السياق نفسه أصدر المفكر الفلسطيني هشام شرابي (1927–2005) كتابه «المثقفون العرب والغرب» في السبعينات من القرن الماضي، واللافت في هذا الكتاب الهوة التي يظهرها وكأنها صعبة التجاوز بين المفكرين العرب المسيحيين والمفكرين المسلمين، ومع أنه قسّم المفكرين المسلمين إلى فئتين، أي السلفيين الإصلاحيين، أو المحافظين من جهة، والعلمانيين من جهة أخرى، إلا أنه اعتبر أن المفكرين المسيحيين هم وحدهم العلمانيون الحقيقيون، وأكثر ما يثير الدهشة هو أنه يضعهم في فئة واحدة يتكلّم عنها بطريقة مجرّدة ومنزوعة من سياقها التاريخي، كما لو كان يوجد ضمنياً ينى ذهنية مسيحية خاصة لم يؤثر فيها الوسط الإسلامي الذي عاش فيه العرب المسيحيون منذ مجيئ الإسلام إلى بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين ومصر، ويطلق على هذه الفئة تسمية «المسيحيون المستغربون» الذين يعتبرهم مقتلعين من جذورهم، لا يستطيعون أن يجيدوا إلا التطلع إلى أوروبا ومنظومة قيمها. وما يثبت هذا الاقتلاع من الجذور بالنسبة لشرابي هو الهجرة الكثيفة للعرب المسيحيين نحو أوروبا والأميركيتين.

في المقابل يرى شرابي أن المفكرين المسلمين الإصلاحيين حتى الذين بقيت ميولهم العلمانية سطحية، لم يترسّخوا فقط في وسطهم الثقافي الطبيعي، بل كان فكرهم خاضعاً للقيود التي فرضتها عليهم هذه البيئة، والمنظومة الفكرية الإسلامية التي تتميّز بها، ولا يمكن إعادة النظر فيها بعمق. إن فرضية شرابي حول التمييز بين المفكرين المسيحيين والمفكرين المسلمين كرّست صورة نمطية على ما يرى المفكر اللبناني كثيرة التداول تشير إلى بعض الأشكال الاستعمارية التي أفاد منها الاستشراق في قولته أنه ممنوع على العرب المسلمين إمكانية الخروج من عقلية جامدة ومنغلقة، بحيث يستحيل تغييرها مهما تغيّرت الظروف، وأنه محكوم على المسيحيين العرب بالبقاء في الهامش، أي أقليات ذات وعي جماعي بائس من دون الاعتبار أن المسيحيين العرب خلقوا الوعي القومي، لا بل هم قدّموا أعمالاً مهمة حول الدين الإسلامي، فيما يعتبر الكثيرون منهم أن كون المرء مسيحياً عربياً يعني أيضاً أنه مسلم على المستوى الثقافي من دون أن يكون بالضرورة، مسلماً على الصعيد الإيماني.

يعتبر قرم أن التقسيم الثنائي الذي أطلقه حوراني وتبنّاه شرابي بين فكر عربي مسيحي يعتبر مقتلعاً من جذوره ومرتهناً بكليته للفكر الأوروبي من جهة، ومن جهة أخرى فكر مسلم راسخ في هذا القدر من العمق التاريخي لدرجة لا يمكنه معها أن يعيد النظر بعمق في أوضاعه الذاتية بما يضمن له إصلاحها. إن طرحاً من هذا النوع لا بدّ أن يكون جذّاباً ضمن إطار المقاربة الأوروبية الاستعمارية الطابع التي لا ترى في المسيحيين سوى (أقليات) أي بقايا من تاريخ المسيحية النازحة من «الشرق السامي» كما يقول أرنست رينان إلى «الغرب الآري». إن فرضية شرابي كما يرى المفكر اللبناني فرضية مبتكرة ولا تتطابق مع الوقائع التاريخية الماضية. فالمسيحيون العرب عاشوا مع المسلمين في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين منذ مجيء الإسلام وحافظوا على اللغة العربية وحموها من التتريك وما زالوا حتى اليوم. والمسيحيون العرب كانوا في طليعة النضال ضد فرنسا وإنكلترا اللتين تعاقبتا على الانتداب على سورية ولبنان وفلسطين، وينسحب الأمر نفسه على المسيحيين العراقيين، أضف إلى ذلك أن قسماً كبيراً من العرب المسيحيين يتكوّن من ريفيين لهم جذور محلية فائقة المتانة بما في ذلك المصريين الذين يتديّنون بالعقيدة المسيحية القبطية، وبالتالي فإن فرضية «االلاتجذر» عند شرابي منافية تماماً للواقع.

ويبدو أن شرابي على ما يرى قرم لم يتعرّف إلى أعمال ثلاثة من كبار الأدباء المسيحيين العرب هم جبران خليل جبران (1883-1931) وميخائيل نعيمة (1889-1989) وجرجي زيدان (1861–1914) وقد أعلن الاثنان الأوّلان جهاراً تعلّقهما بروحانية الشرق العربي، مقابل الحياة الحديثة في الغرب بحيث داناها بشدّة على غرار العديد من المفكرين المسلمين، أما الثالث فقد عمّم في شكل واضح تاريخ الإسلام العربي وبسّطه من خلال سلسلة من الروايات التاريخية. هذا وقد تجاهل شرابي الدور السياسي الكبير في ما بعد الفترة التاريخية التي درسها للعديد من المسيحيين المعادين للإمبريالية، والمؤمنين بالقومية العربية في كل من مصر وسورية ولبنان وفلسطين بمن فيهم زعماء الحركات الفلسطينية من أمثال جورج حبش ووديع حداد ونايف حواتمة.

كتاب اللبناني جورج قرم يمكن النظر إليه كرحلة في الفكر العربي المعاصر يمتزج فيها الفكر بالسياسة، والتاريخ بالاجتماع، وهذا النهج في تناول الأمور لا يسلكه إلا القادرون من المفكرين الذين ينظرون إلى الوقائع والأحداث من خلال ارتباطها بمراحل التاريخ، وبالسياق الاجتماعي الاقتصادي الحي. كتاب قرم مرة أخيرة يكشف عن غنى الفكر العربي وتنوّعه بشيء من التفصيل غنى تفتح له القلوب والأذهان.

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)