الفكاهة والائتناس في مجون أبي نواس منشورات الجمل - 2017

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الأربعاء 03-01-2018
المدن - ثقافة
محمد حجيري


أبو نواس.. “الفاسق” المتمرد في ليل المدينة


كيف يبكي على الطللِ فى بيئة لم يعد للطلل أثر بها، بل القصور والحانات ؟


في تقديمه لكتاب “الفكاهة والائتناس في مجون أبي نواس”(*)، يقول الشاعر العراقي محمد مظلوم “يمكن أن نصِفَ أبا نواس بأنه أول شاعر مدينة في الشعر العربي، والمؤسس الحقيقي لقصيدة الكوميديا في هذا الشعر بمعناها المزدوج: الحياتي والفني”. لعلّ اتجاه الحسن بن هانئ الحكمي هذا، إلى الهزل والدعابة إلى جانب ما تمتّع به من جرأة وحرية في قول ما كان يخطر بباله، وصار حكاية شعبية تتراكم فيها الأخبار والأبيات الشعبية والهزلية، جَعَل الكثيرين ينسبون إليه النوادر والسلوك “الماجن” والشعر “الفاسق” كمهرب لهم من سيف السلطان وأمره ونوازعه والصاق بعض الركاكة اللفظية بالشاعر العباسي والمجدد الذي أعاد الاعتبار لـ"الخمر" محل “الأمر” الذي ارسته السلطة الدينيّة.

وأبو نواس المتعدد الصفات والثقافات، صوّر “ليلة المدينة العربية في أكثر جوانبها ألقا ومرحاً”، وإذا كان امرؤ القيس (بن حُجر بن الحارث الكندي)"مؤسس القصيدة الكلاسيكية في متن الشعر العربي وأيقونته الأشد بريقاً وسيد المعلقات"، فإن أبا نواس هو “الوجه الآخر من تلك الأيقونة وهو مؤسس الملهاة في الشعر العربي بامتياز”، إذ كثيراً ما اعتادت المصادر أن تنقل عن أبي عبيدة قوله: “ذهبت اليمن بجدّ الشعر وهزله، فامرؤ القيس بجده وأبو نواس بهزله”.

والحال ان أبا نواس نقل الشعر العربي من صورة البطل المأسوي المنعزل في صحراء أيامه وأطلاله الوحيدة إزاء مصيره، إلى مشهد الجماعة في المدينة، اذ اختلف ليل التراجيدية عن ليل الفكاهة، إذ إن ليل اليمني البغدادي ليس كليل اليمني - الصحراوي “ذي القروح” وبقية أترابه من شعراء جزيرة العرب، فالليل الآخر الجديد لدى النواسي متصل بأجواء ألف ليلة وليلة حتى أنه أصبح أحدى شخصياتها الحاضرة كمعادل للتسلية والعبث. وهو ولد يوم تأسست بغداد وترعرع بين البصرة والكوفة وباديتهما، حيث حواضر اللغة والفقة وجدل الافكار، حيث درس اللاهوت والمنطق والنحو والفقه، وجمع بين نزعة البصرة ونزعة الكوفة في التفكير والاختلاف ليصبّهما في قالب بغدادي خالص. وشخصبة أبي نواس معبّرة عن “روح العصر” اذ لا تقل بدائع أخباره عن روائع أشعار. فهو من جهة وصف بالزاهد وأثنى عليه الإمام الشافعي، ومن جهة أخرى قال عنه الباحث كلود أودبير، الأستاذ الفخري للغة العربية والأدب في جامعة مارسيليا الفرنسية، أنه كان يتلاعب “بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” ويطبقه في خمرياته سواء أكانت حججية أم سردية. وكان يستعمل لهذا الغرض صيغاً أدبية معروفة ويـضع نماذج سلوكية وإنسانية تناقض القيم الدينية والاجتماعية السائدة في مجتمعه. فالفتية مثلاً يصبحون المثل الأعلى الذي يجب اتّباعه. ويقلب الأوضاع عمداً فينتج من قلب الأوضاع هذا سخرية ومداعبة ومفارقة". و"شعره يقوم أساسا على الثقافة الكونية لزمانه". فهو ثار “على التقاليد العربية التى سار عليها سابقوه” وذهب البعض إلى أن السبب يرتبط بـ"الصدق الفني للشاعر"، فكيف يبكي على الطللِ فى بيئة لم يعد للطلل أثر بها، فالقصور والحانات هي البديل والصدق يحتم على الشاعر أن يهجر الطللَ متخذًا ألوان الحياة الجديدة ملجأ له ولشعره. وبالنسبة لروجير أرننديس، صاحب كتاب “عصور بغداد الكبرى” فإن أبا نواس كان مثقفاً بقدر كاف لكي ينظم الشعر في كل شيء وفي لا شيء. ولم يكن ينتج سوى أبيات صغيرة تجاري موضة الزمن. ولم يشفع له اسمه العربي الفصيح “الحسن بن هاني الحكمي” ولا كنيته التي تعود لأزمنة موغلة في الفصاحة والقم تيمنا بأسماء أجداده ملوك اليمن القدامى، فشاعت فارسيته لأمه الأهوازية جلبان رغم أنه ينحدر من أرومة عربية يمنية قحطانية كما تؤكد كتب ذات صدقية كـ"مختار الاغاني" لابن منظور و"تاريخ دمشق “لابن عساكر و”تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي حيث تشير إلى ان والده كان من أهل دمشق وكانت من جنة مروان بن محمد أحد ملوك الامويين، وتذهب احد المقالات الركيكة الى السؤال “هل كان أبو نواس يهودياً؟ فقيل إن اللقب يعود”لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقه". ويقول الكاتب حاولت تخيل صورة الشاعر، وإذا بي أرى رجلاً اشبه برجال اليهود المتدينين الذين غالباً ما يفعلون ذلك، اي أنهم يحافظون على جديلتين متدليتين من جانبي الرأس...



ويقول محمد مظلوم “عندما نقول إن أبا نواس شاعر عصره فمن المهم فحص طبيعة العصر واختبار مدى تفاعل الحيوي لقصيدة أبي نواس مع ذلك العصر”، فالسجستاني (أبو حاتم) يقول “كانت المعاني مدفونة حتى أثارها أبو نواس” وقد وضع الندمان في الحانات محل الفتيان في ساحات المعارك وأنشد الفروسية في أدب الشراب وأخلاقه، كما نقل الغزل من صورة المرأة النسوية القديمة الى صورته الانثوية المدنية الملتبسة بفعل اختلاطها مع الذكورة. واشتهر بالتغزل بالمذكر ويعزو بعض النقاد سبب هذا الميل إلى الصّد والبين الذي كان يلقاه من امرأة أحبها كانت تسمى جنان، وهي جارية لآل عبد الوهاب الثقفي، أحبها الحسن ابن هانئ وكتب فيها أرق شعره. لكن جنان لم تبادله هذا الشعور “فلم يكن هذا الحب إلا من جانب واحد فحسب، ويستفاد من أخبارهما التي ترويها كتب الأدب أن جنان كانت تنكر أشد الإنكار هذه العلاقة، فلم يحظ منها حتى بعطف الرثاء والإشفاق، وقالت لامرأة تعرضت لها بشيء مما يتحدث به الناس: واضيعتاه؟ لم يبق لي غير أن أحب هذا الكلب”.

ومنذ صدور الطبعة الأولى من خمريات أبي نواس، قبل أكثر من مئة وخمسين عاماً، بوصفها جزءاً أول من ديوانه، نشرت طبعات كثيرة لديوانه، أو تهذيبات أو مختارات منه، بيد أننا لم نجد من بين تلك الطبعات المتعددة، حتى نهاية القرن الناضي، طبعة واحدة من ديوانه تامة وصحيحة، قبل أن ينجز المستشرق الالماني ايفالد فاغنر وصدر في أكثر من طبعة، أما كتاب “الفكاهة والائتناس في مجون ابي نواس” الذي حققه مظلوم في طبعة جديدة، فكان صدر في 1898، ومنذ ذلك التاريخ ولم يتصد جهد من المحققين او الناشرين لتحقيق الكتاب تحقيقاً علمياً، ومن الواضح أن القصائد في الكتاب الذي منح هذا العنوان القابل لتأويلات شتى، كانت هي القصائد والأبواب المحذوفة خلال تحقيق الطبعة التي نشرها اسكندر أصاف على وجه التحديد. قال مظلوم فى مقدمة تحقيقه: “ظل هذا الكتاب لعقود طويل، المصدر الوحيد والنادر، لأشعار أبي نواس المحذوفة من طبعات ديوان، ومن الواضح أن التوجه كان ينحو إلى عزل أشعار المجون والتهكم وسائر قصائده المارقة عن الديوان لتطبع فى كتاب مستقل، ربما ليبقي ذا تداول محدود، بيد أنه ظل يفتقد للتحقيق العلمي، ويشوبه النقصان، ويمتلئ بالأخطاء في نقلها، ومن هنا كان من المهم إعادة الاعتبار لتلك الأشعار، بما أن بدت لفترة طويلة وكأنها ضرب من الأدب الشعبي، وذاكرة العامة، وليست جزءًا أساسيًا من ثقافة عصر ناهيك عن إتاحة الكتاب أمام القارئ العربي من جديد”. وبما “أن كتاب الفكاهة لم يضم جميع الاشعار المحذوفة من ديوان أبو نواس، إذ أخلّ بقصائد ومقطوعت وأبيات كثيرة من مختلف فنون المجون التي بلغت خمسة عشر فنا منه”. وديوان “الفكاهة والائتناس” المتوفر بطبعات قديمة على الانترنت، وسبق أن قرأناه بعنوان محرّف هو “النصوص المحرمة”، كنا نلهو بتعابيره السوقية، وفي لحظة نجد أن ما يجذبنا إلى شعره، هو نفسه يقتل قصائده الفاتنة، أو يجعلنا نهمش ريادتها.

وأبو نواس الذي بقي موته غامضاً وملتبساً بسبب كثرة الروايات، فهو متهم بالشعوبية والزندقة والمجون وهو الذي يقول عن نفسه: “وأمّا المجون، فما كلّ أحد يحسن أن يمجن، وإنّما المجون ظرفٌ ولست أبعدُ فيه عن حدّ الأدب. ولا أتجاوز مقداره”. ويؤكّد هذا القول قوله الآخر ممّا نقله محمد بن أبي عمير: “سمعتُ أبا نواس يقول: والله ما فتحتُ سراويلي لحرام قطّ”.

(*) أشعار أبو نواس المحذوفة المتجاوز فيه الحدّ وبعض نقائضه مع الشعراء، حقّقها وزاد عليها محمد مظلوم، وصدرت عن منشورات الجمل.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.


أبو نواس هو أبو علي الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصباح الحكمي المذحجي، من أبٍ عربيٍّ دمشقيٍّ وأمٍ فارسيّةٍ، ولد في مدينة الأحواز من بلاد عربستان سنة (145هـ / 762م).

بعد هزيمة مروان في معركة الزاب الأعلى، انتقلت أسرة الشاعر إلى البصرة، والطفل أبو نواس في الثانية من عمره، وقيل في السادسة، وما لبث أن مات أبوهُ، فأسلمته أمه إلى الكتاب، ثم إلى عطار يعمل عنده أجيراً، يبري عيدان الطيب.

توفي والده فانتقلت به أمه من أهواز إلى البصرة في العراق، وهو في السادسة من عمره، وعندما أيفع وجهتهُ إلى العمل في حانوت عطار وحين آلت الخلافة إلى بني العباس، انتقل من البصرة إلى الكوفة، ولم تذكر لنا كتب التاريخ سبب ذلك، غير أنه التقى والبة بن الحباب الأسدي الكوفي أحد الشعراء اللامعين في ميدان الخلاعة والتهتك، فعني به والبة أي عناية، إذ عمل على تأديبهِ وتخريجهِ. وصحب جماعةً من الشعراء الماجنين كمطيع بن إياس وحماد عجرد. ثم انتقل إلى بادية بني أسد فأقام فيهم سنةً كاملةً آخذاً اللغة من منابعها الأصيلة. ثم عاد إلى البصرة وتلقى العلم على يد علمائها أدباً وشعراً.

عندما توفي والده تلقفه شيخ من شيوخ اللغة والأدب والشعر، هو خلف الأحمر، فأخذ عنه كثيراً من علمهِ وادبه، وكان له منه زاد ثقافي كبير حتى أنه لم يسمح له بقول الشعر حتى يحفظ جملة صالحة من أشعار العرب ويقال: إن أبا نواس كلما أعلن عن حفظه لما كلفه به، كان خلف يطلب إليه نسيانها، وفي هذا لون رفيع من ألوان التعليم، حتى لا يقع هذا الشاعر الناشئ في ربقة من سبقه من الشعراء المتقدمين وقد روي عن أبي نواس قوله: “ما ظنكم برجل لم يقل الشعر حتى روى دواوين ستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى الأخيلية فما ظنكم بالرجال؟”

وما كاد أبو نواس يبلغ الثلاثين، حتى ملك ناصية اللغة والأدب، وأطل على العلوم الإسلامية المختلفة، من فقه وحديث، ومعرفة بأحكام القرآن، وبصر بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، وما أن تم لابن هاني هذا القدر من المعرفة حتى طمح ببصره إلى بغداد، عاصمة الخلافة، ومحط آمال الشعراء. ولكن نظرة سريعة في ديوانه تجد غلبة الخمر عليه، للحد الذي جعله يفضلها على كل شيء.

ولم يقتصر طلبه العلم على الشعر والأدب بل كان يدرس الفقه والحديث والتفسير حتى قال فيه ابن المعتز في كتابه ’طبقات الشعراء‘ : “كان أبو نواس ٍ عالماً فقيهاً عارفاً بالأحكام والفتيا، بصيراً بالاختلاف، صاحب حفظٍ ونظرٍ ومعرفةٍ بطرق الحديث، يعرف محكم القرآن ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه.”

متابعة القراءة على ويكيبيديا

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)