شعر

الغربة في الشعر العراقي الحديث

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


الاثنين 1 تموز (يوليو) 2013 ـ
جريدة القدس العربي
عدنان الأحمدي، كاتب وفنان من العراق


عرف الشاعر العراقي الحديث الغربتين الروحية والجغرافية وعاشهما مُرغماً نتيجةً للظروف والأحداث السياسية التي عصفت بالعراق منذ تاسيس الدولة في بداية القرن العشرين حتى سقوطها في عام 2003 ولحد اليوم.

والغربة ومعايشتها والأحساس بها والحنين العاصف إلى الأوطان وألأرباع والعشيرة والقبيلة ليس جديداً على الشعر والشعراء العرب ومنهم العراقيون طبعاً. ليس هذا الأمر جديداً إذْ أن تاريخ الشعر العربي، منذ الجاهلية والاسلام بشقيه الأموي والعباسي ثم عصرنا الحديث هذا، يزخر بالغربة والشعراء الغرباء مثل الأموي مؤسس الدولة الأموية في الأندلس عبد الرحمن( الداخل) ابن معاوية ابن هشام ابن عبد الملك الذي أشْعرَ رائع الشعر في الغربة حين يناجي النخلة التي جلبت له من المشرق ليزرعها في رصافة الأندلس فيقول :

يا نخلُ أنتِ غريبة مثلي في الغربِ نائية عن الأصلِ
فابكي وهل تبكي مكبَّسةٌ عجماءُ لم تُطْبَعْ على خبْلِ
لوأنها تبكي لبكَتْ ماءَ الفراتِ ومنْبَت النخْل

ويقول كذلك :

تبدَّتْ لنا وسْطَ الرصافة ِنخلةٌ تناءِتْ بأرضِ الغربِ عن بلدِ النخْلِ
فقلتُ شبيهي في التغربِ والنوى وطول التنائي عنْ بنِّي وعنْ أهلي
نشأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غريبةٌ فمثلكِ في الأقصاءِ والمنتأي مثْلي

وله من رقيق الشعر وحرارة الغربة ما يُطْرب النفْسَ والروحَ ويُغذِّي العقل وهو الحنينُ العاصفُ إلى الوطن والأهل والأحباب :

أيها الراكبُ الميمِّمُ أرضي أقر بعضَ السلامِ عني لبعضي
إنَّ جسمي كما تراهُ بأرضٍ فؤادي ومالكيهِ بأرضِ
قدر البين بيننا فافْتَرَقْنا وطوى البينُ عنْ جفوني غمْضي
قدْ قضى اللهُ بالفراقِ علينا فعسى باجتماعنا سوفَ يقْضي

ولزوج معاوية ابن أبي سفيان ميسون الكلبية أم يزيد شعر رائع أيضاً في الغربة وعنها وعن الحنين الجارف إلى العشيرة وموطنها وتفضيلها الخيمة والصحراء على قصور الخلافة فقالت :

لَبيْتٌ تخفقُ الأرياحُ فيهِ أحَبُّ إليَّ مِنْ قصْرٍ منيفِ
ولبسُ عباءَةٍ وتَقَرُّ عيْني أحَبُّ إليَّ مِنْ لبْسِ الشفوفِ
خشونةُ عيشتي في البدْوِ أشهى فحسْبي ذاكَ مِنْ وطنٍ شريفِ

وهناك شعرٌ لأبي تمَّام في الغربة والحنين منه هذا البيت المكثَّفِ المعنى الذي يفي بالغرض المنشود في تبيان المشاعرالفياضة :

كمْ منْزلِ في الأرضِ يألفُهُ الفتى وحنينهُ ابداً لأوَّلِ منْزلِ

كذلك هناك شعر للعباس ابن الأحنف شاعر العشق والغزل في الغربة والحنين إلى الوطن إذْ يقول :

يا غريب الدارعن وطنهْ مُفْرداً يبكي على شجنِهْ
ولقد زاد الفؤاد شجى طائر يبكي على فننهْ
شفهُ ما شفني فبكى كلنا يبكي على سكَنِهْ

وكذلك عانى أبو العلاء المعري من الحنين للوطن والغربة وهو في بغداد فقال :

لقد زارني طيفُ الخيالِ فهاجني فهل زار هذي الأبلَ طيفُ خيالِ
فيا برقُ ليسَ الكرخُ داري وإنما رماني إليهِ الدهرُ منْذُ ليالِ
فهلْ فيكَ مِنْ ماءِ المعرَّةِ قطرةٌ تَغيثُ بها ظمآنَ ليسَ بسالِ

أما هذا البيت المنسوب لأمرىء القيس ففيه معنى عميق لمشاعر الغربة والحنين إذْ أن طبيعة الصحراء والبادية تفرض على الفرد شروط الانتماء الكامل للقبيلة أو العشيرة والألتصاق الكامل أيضاً بهما وبالربع أو الحيّ وذلك من أجل الحفاظ على النوع والبقاء في الحياة، فترى التغرب والابتعاد عن المكان يولِّد الشعور الحاد بالغربة والحنين.لذا اتسمت القصيدة العربية في كل العصور بهذاالنمط العاطفي الجياش والتغني بالأوطان والمواطن حيث تزخر القصيدة الجاهلية بهذا الغناء العشقي والتغزل حتى بالأطلال والمواطن المندرسة. ولقد تغرب امرؤ القيس في حياته وساح في الأرض طلباً للملك فأنشد قصائد الشوق والحنين والغربة ومنها هذا البيت :

أجارتنا إنَّا غريبانِ ها هنا وكلُّ غريبٍ للغريبِ نَسيبُ

من هذه النماذج الشعرية ربما يسعنا القول بأن العربي ذو عاطفةٍ جياشةٍ ومشاعر وحسٍّ راقيين. وذلك لأن الشعور بالغربة ،أنْ كانت روحية أم جغرافية، مع مشاعر الحنين الدفاق للأوطان هن علامات الرقي الحسّي. ويزداد هذا الرقي حجماً وتطوراً ونضجاً بازدياد قسوة عوامل الطرد من الأوطان والنفي الطوعي أو الاجباري للفرد وطول فترة الهجرة أو النفي. وأظن أن أقسى هذه العوامل التي يعاني منها الأنسان العربي هي في فلسطين المحتلة والعراق حيث غالباً ما تصحبها أفعال الدم بالقتل البشع والتفنن فيه. لذا نحسّ بلسع حرارة الشعر الاغترابي عند بدر شاكر السياب وسركون بولص وفوزي كريم أكثر بكثيرٍ من الشعر الاغترابي المكتوب من قبل عشرات الشعراء والشواعرخلال القرن الماضي ولحد اليوم .لقد كُتِبَتْ مئاتُ القصائد تتغنى بالمنفى والغربة والحنين للوطن وحمل أصحابها ألقاب شعراء المنفى، لكنني لااحسُّ إلا بحرارة وطاقة الشعرالغربوية والحنينية التي تحملها قصيدة السياب (غريب على الخليج) أو في قصائد سركون بولص وفوزي كريم. وسأتحدث عن هؤلاء الشعراء محاولاً الكشف عن هذه الخاصيَّة في شعر كل واحدٍ منهم. وسأبدأ بالسياب وذلك حسب العمر الزمني للشاعر وحسب الأسبقية في تجربته الشعرية الاغترابية والحنينية.

لقد عانى السياب من الغربتين الروحية والجغرافية في جيكور أو ببغداد والكويت ولندن . فهو يمثل الريفي وابن القرية الصادق المشاعر، حين يترك مكان مولده وعيْشه ومرتع الطفولة والصبا والشباب وعش الذكريات الحبيَّة والعلاقات الريفية الاجتماعية الطيبة وأهلها الأطيب.حين يهجر، هذا المجتمع الصغير المتجانس ذا العادات والتقاليد المغايرة نسبياً لمجتمع بغداد الهجين الصاخب المتفرد الشخصية المعقَّد العلائق الأجتماعيه، يصطدم بصخرةٍ صلبةٍ معقدة التكوين ذات طلاسم والغازٍ يصعب حلها وتفسيرها وهضم إفرازاتها الحضاريه.لذا تراه يصابُ بالاحباط العاطفي نتيجة فشله في حب النساء كما شرحتُ هذا الأمر في الفصل الثاني من الكتاب (سيكولوجية التشاؤم والاكتئاب). كما وانه اصدم بزيف العلاقات الاجتماعية ونفاق أصحابها كما وصفتهُ قصيدته (اغنيةٌ في شهر آب) ومقطع من (أنشودة المطر) : أتعلمين أي حزنٍ يبعثُ المطر : وكيف تنشج المزاريبُ إذا انهمر وكيف يشعر الوحيدُ فيهِ بالضياعْ.

فالشعور بالوحدة هو حالة اكتئابية تنتجها الغربتان الروحية والجغرافية أحياناً. ولقد جسدت هذه الحالات قصيدة (اغنية في شهر آب) :

مرجانه.. هل قُرِعَ الجرسُ.
.فتقول ويخذُلها النفَسُ..
في الباب نساء ..
الذئبُ يُدثِّرُ إنسانه ..

ومن نفس القصيدة يقول في وصف الليل :

وكأن الليلَ قطيعُ نساءْ..
كُحْلٌ وعباءاتٌ سودْ..
الليلُ خباءْ..
الليلُ نهارٌ مسدودْ.

فالتشاؤمُ والاكتئابُ وقتامةُ الصور الحياتية هي افرازات الشعور بالغربتين الروحية والجغرافيه. ففي هذا المشهدالذي تصورهُ قصيدة( سفْر أيوب لندن1963) نحسُّ بغربة الشاعر الروحيةحين يقول :

البردُ وهسهسةُ النارْ..
ورمادُ المدفأهْ.. الرملْ..
تطويهِ قوافلُ أفكاري..
أنا وحدي
يأكلني الليلْ..
برقٌ يتلامعُ في الآفاقِ يعرِّيها ويذريها كرمادِ المبخرةِ الثكلى..
في مقبرةٍ تهبُ الليلا..
ألوانَ الموتِ وآهات الموتى.

نلاحظ أن الغربة المكانية أو الجغرافية تؤثر في فن القصيدة عند الشاعر السياب،اي ان الظروف المحيطة به تؤثر في درجة رقيِّ الشعر والفكرة و بناء القصيدة الفنيِّ، فالشاعر في اغنية في شهر آب وسفر أيوب والأنشوده يبلغ أرقى درجات الفن والتطور الشعري الغربوي والشعر بصورةٍ عامة. كذلك تطور علائق الشاعر بالأشياء كالوطن والأنسان والكون والوجود ايضاً. فناقش في سنوات عمره الأخيرة في شعره مسألة الموت كنهايةٍ حتميةٍ مأساوية. لذا وصفَ الشاعر بالوجودي وهو في رأيي وصف ناقص من قبل النقاد.ولقد تكلمتُ على هذه النقطة في الفصل الثاني من هذا الكتاب.

نلاحظ فرقاً واضحاً في الشعر الغربوي السيابي ما بين قصائد العواصم الكبرى لندن وبغداد وبين قصائد الكويت والخليج (قصيدة غريب على الخليج). هذا الفرق يكمن في حرارة عواطف الشوق والحنين واندفاعها كالسيول الجارفة في صحارى الروح العطشى ساعة الظهيرة الحارقة، في عيني عالم الغريب العراقي الجالس على رمال الخليج، بالرغم من أن البعد الجغرافي بين الوطن العراق والكويت الخليجية ليس كبيراً. بل هو عشرات الكيلومترات .كما وان الناس والتقاليد واحدة ومتشابهة.وكذلك المناخ والجو بصورةٍ عامةٍ والبحر متشابهون لكن الشعور بالغربة كبيرٌ وحادْ. فهذه المشاعر طبيعية وغير متكلفة أو مصطنعة. كما قلت ووصفتُ أهل الريف وقراه. وفي رأيي انه من هنا جاءت عظمةُ السياب كشاعر،ولذلك أتهمهُ بعضُ الشعراء والنقاد العرب بالسذاجة الريفية والخيال الشعري القروي والريفي حيث يسيلُ الشعرُ منهُ بإفراط وبدون ضابط ومن هؤلاء (أنسي الحاج). فمثل هؤلاء يطلبون من الشاعر السياب أن يكتب بطريقة رامبو وبريتون وشعراء السوريالية الباريسيين والأوربيين وهو في قرية جيكور وابنها الذي أرعبتهُ بغداد وهزَّت شخصيته وأربكتها وبغداد في ذلك الفترة ليست باريس أو لندن أو غيرهما من عواصم العالم المتمدن. ولقد سقط الكثير من قرويي وريفيي العراق من أدباء وفنانين في هذا الفخِّ أو المصيدة حين راحوا يكتبون ويحاكون سورياليي العالم وهم لم يعيشوا في مجتمعاتهم علائق سورياليةٍ معقَّدةٍ بل هي علائق المجتمع الصغير البسيط والقبلي أو العشائري، ففشلوا ولم يستطيعوا المواصلة لذا نرى مئات الأسماء التي ظهرت قد اختفت إنْ بالعراق أو في الوطن العربي. في حين نجح الحقيقيون كالسياب في الاستمرار وتحقيق الهوية الأدبية والفنيَّة. فحين يقول في هذه القصيدة( غريب على الخليج) :

الريحُ تلهثُ بالهجيرةِ، كالجثام على الأصيلْ
على الرمالِ، على الخليج، جلسَ الغريبْ
يسَرِّحُ البصرَ المحِّير في الخليجْ
ويهدُّ أعمدةَ الضياءِ بما يُصَعِّدُ مِنْ نَشيجْ
صوتٌ تفجَّرَ في قرارةِ نفْسيَ الثكلى، عراق، كالمدِّ يصْعَدُ
كالسحابةِ كالدموعِ إلى العيونْ
الريحُ تصرخُ بي عراقْ
والموجُ يعولُ بي عراق، عراق، ليسَ سوى عراقْ
البحرُ أوسع ما يكون وأنتَ أبعد ما تكونْ
والبحرُ دونك ياعراقْ.

إنَّ منْ يقول هذا الشعر، هو العراقي الذي يشعر بالغربة في دول خليجية وعلى سواحلها، لم يكن كاذباً في هذا الشعور، لأن نظرة إنسان الجزيرة للانسان العراقي هي نظرة عداءٍ وتعالٍ، خصوصاً بعد اكتشاف النفط وتركهم الصيد البحري، وأظنها تأتي نتيجة الشعور بالدونية إزاء العراق الذي كان تاريخياً قائداً ومركزَ الأمبراطوريات والقوة. وما زال هذا العداء قائماً ويمارس بحق العراقيين المقيمين والعاملين في دول الجزيرة، حتى انهم يسمونهم المرتزقة.ولقد أحسَّ السياب بهذه الاهانات الظاهرة والمخفية حين وجوده هناك :

ما زلتُ أضربُ مترب القدمينِ أشعث،
في الدروب، تحت الشموس الأجنبيَّهْ
متخافق الأطمار،
أبسطُ بالسؤال يداً نديَّهْ
صفراء من ذلٍّ وحمَّى،
ذلّ شحَّاذٍ غريبٍ،
بين العيون الأجنبيَّهْ
بين احتقارٍ وانتهارٍ وازورارٍ أو خطِيَّهْ
الموتُ أهوَنُ مِنْ خطيَّهْ

ويمضي السيابُ قائلاً في نفس القصيده :

بالأمسِ حينَ مررْتُ بالمقهى سمعتُكَ ياعراق
وكنتَ دورة اسطوانهْ
هي دوْرة الأفلاك مِنْ عمري،
تكوِّرُ لي زمانهْ
هي وجهُ أُمِّي في الظلام،
وصوتُها يتزلَّقان مع الرؤى حتى أنامْ،
وهي النخيل أخافُ منهُ إذا ادلَهَمَّ مع الغروب
بين القرى المتهيبات خطايَ والمدن الغريبة
غنيتُ تربتكِ الحبيبة وحملْتُها.
فأنا المسيحِ يجرُّ في المنفى صليبَهْ.

إن أجمل ما في شعر الغربة لدى السياب هو الصدق والجدية في المعاناة وامتزاج هذه المشاعر بالكآبةِ والتشاؤم في العديد من القصائد وفي كل مراحل حياته الشعرية. حتى تحددت هوية القصيدة السيابية . وبالرغم من أن شاعرنا لم يعش الغربة والمنفى الجغرافي- المكاني فترة طويلة تحسب بالعقود من السنين مثل الشاعرين سركون بولص وفوزي كريم )لقد تكلمت عليهما في جريدة القدس العربي سابقاً)، رغم هذا إلا أنه عاش الغربة الروحية حتى أنفاسه الأخيرة. ويستطيع القارىء العاشق للشعر والراقي الأحساس أنْ يكتشف في قصائده الكثير الكثير من هذا اللون من المعاناة التي يمكن القول بأنها أحد عوامل الابداع إن في الأدب أو الفن.

عن موقع جريدة القدس العربي

 المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)