العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية، جورج صليبا

, بقلم محمد بكري


جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط
الخميس - 7 رجب 1437 هـ - 14 أبريل 2016 م ـ رقم العدد [13652]
الصفحة : فضاءات
بني ملال : محسن المحمدي


«بيت الحكمة» العباسي.. نتاج تعريب الديوان

التنافس البيروقراطي كان محركًا لترجمة تراث الأقدمين عند المسلمين


يحكي لنا ابن النديم في كتابه «الفهرست»، وهو أشمل وثيقة أحصت لنا الأعمال الفكرية إلى آخر القرن الرابع الهجري، قصة عن الخليفة العباسي المأمون (813 – 833م)، بأنه رأى في منامه «رجلا أبيض اللون، مشربا حمرة، واسع الجبهة، مقرون الحاجب، أجلح الرأس، أشهل العينين، حسن الشمائل، جالسا على سريره. قال المأمون: وكأني بين يديه قد ملئت له هيبة. فقلت. من أنت؟ قال. أنا أرسطوطاليس. فسررت به وقلت: أيها الحكيم، أسالك؟ قال: سل. قلت: ما الحسن؟ قال: ما حسن في العقل. قلت ثم ماذا؟ قال: ما حسن في الشرع. قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور. قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم لا ثم؟».

تروى هذه الرؤيا عادة من أجل فهم لماذا قام المسلمون بترجمة العلوم المسماة «عقلية»، أو كما كانت تسمى أيضا «علوم الأقدمين»، أو «الأوائل»، أو «العلوم الدخيلة». وكما نلاحظ أنها قصة خرافية لا يمكن التعويل عليها لتفسير حركة هائلة من الترجمة، لنقل تراث الشعوب الأخرى إلى العربية، وبوعي شديد مخطط له، ومدعم من طرف الخلفاء، وبمؤسسة كاملة الأركان، لهذا الشأن سميت «بيت الحكمة». فما الأسباب العميقة لهذا الارتماء في حضن الثقافة العقلية العالمية آنذاك؟ لماذا كثرت الفلسفة والعلوم القديمة في التربة الإسلامية؟ ولم لجأ المسلمون إلى ترجمة العلوم من الأجانب؟ وما الحاجة إلى ذلك؟

لقد عرفت البشرية عبر تاريخها الطويل، منارات فكرية كثيرة كانت عبارة عن مراكز علمية قائمة الأركان، مثل «أكاديمية أفلاطون» التي تأسست سنة 387 ق.م، وليسيوم أرسطو الذي ظهر سنة 335 ق.م، ومدرسة الإسكندرية بمصر التي حافظت على تقاليد اليونان، وأنجبت كثيرا من العلماء ذائعي الصيت، مثل غالينوس في الطب، وإقليدس في الرياضيات.. بل إن التراث الإغريقي سينتقل أيضا نحو سوريا، خصوصا في مركز «نصيبين» و«الرها»، التي كانت من أشهر المدارس الطبية في أواخر القرن الخامس الميلادي.. ليرحل بعد ذلك بعض السوريين، خصوصا النساطرة منهم، نحو الدولة الساسانية هربا من اضطهاد أباطرة بيزنطة وأساقفتها للمذهب النسطوري (نسبة إلى البطريرك نسطور)، المخالف عقديا لتعاليم الكنيسة حول طبيعة المسيح. لتتشكل مدرسة كبرى في جنديسابور، لتصبح في أواخر القرن السادس الميلادي، أعظم مركز ثقافي، بل واسطة للتلاقح الحضاري بين النسطوريين بلغتهم السريانية (أي النسخة المعدلة عن الآرامية التي كانت لغة المسيح عليه السلام)، والثقافة الفارسية بلغتها الفهلوية.

وإذا علمنا أن مدينة جنديسابور قد فتحها المسلمون، فسيجعلنا هذا، نفهم كيف سينتقل التراث الإغريقي ممزوجا بالسورية والفارسية إلى الثقافة الإسلامية العربية.

في حقيقة الأمر، نجد أن الفاعلية العلمية لم تتوقف مطلقا.. فهي ظلت مستمرة وتبحث عن أرض يسودها الدعم والترحاب كي تنتعش، وهي ترتحل دورانا مع الحرية، وتضيق مع التشدد والاضطهاد.. فبؤر المدارس العلمية تسافر ولا يهمها اللغة أو الدين أو النموذج السياسي المتبع، بل العلم يبحث فقط عن مجال للتنافسية بحرية، والاشتغال دون خوف أو اضطهاد. فالرياضيات أو الطب أو الفلك.. وغيرها، تكلمت يوما باليونانية، ثم بعد ذلك بالسريانية، فالفارسية، ثم بالعربية، وبعدها باللاتينية. والإشكاليات هي هي. كما أن هذه العلوم، يمكن أن توجد بأرض مسيحية أو إسلامية.. بوذية أو مجوسية، فالانتماء الديني واللغوي لا يؤثر مطلقا على العلم.

لقد آن الأوان للحسم مع بعض المنطلقات الخاصة بالعلم، وعلى رأسها أنه يجب التفرقة بوضوح بين الأسباب المحركة للعلم والعوامل المساعدة في تحرك العلم، فالعلم سبب حركته في ذاته، فالإشكالات العلمية كما هي.. منطقها خاص، سواء أكانت عند ناطق باليونانية أو السوريانية أو الهندية أو الفارسية أو العربية أو اللاتينية، فما طرحه فيثاغورس وإقليدس بالإغريقية، من قضايا في الرياضيات، بقي كما هو عند الرياضيين العرب، وما أنجزه بطليموس الإغريقي في الفلك، بقي كما هو عند الفلكيين العرب، وما طرحه أبقراط أو غالينوس في الطب، لن يتأثر بنقله إلى العربية. والشيء نفسه يقال عن الانتماء العقدي، فالعلم لا يبالي بذلك، فالعلماء يتواصلون فيما بينهم، مهما اختلفت انتماءاتهم الدينية.. وهو ما يجعلنا نفهم لماذا مثلا، كان يلقب بطليموس من طرف الفلكيين العرب بـ«الفاضل» على الدوام، على الرغم من الاختلاف الجذري معه لغة وعقيدة.

أما أن للعلم عوامل مساعدة، فهذا يعني أن المؤثرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، إما أنها تدفع بالعلم أو تكبحه، فهي تلعب دور المسرع أو المبطئ. فكلما تم تخصيص هوامش للعمل العلمي، وتشجيع العلماء على العطاء، وتوفير جو العمل بتنافس لا يهدد الحياة، فإن هذا يؤدي إلى استقطاب الباحثين من كل أنحاء المعمورة، للانخراط في المشكلات العلمية التي لا انتماء لها، فهي عقلية، والعقل أعدل قسمة بين البشر، كما يقول ديكارت.

هذا بالضبط ما حدث في «بيت الحكمة» العباسي، فهو كان عاملا مدعما للانخراط في أكبر ورشة علمية عرفتها القرون الوسطى.. فكيف ذلك؟

اتصل العرب بعد الإسلام بالحضارات القديمة، وحرصوا على جمع مخطوطاتها، وشرائها، خصوصا الإغريقية منها، والتنقيب عن بعضها المهمل في الأقبية والسراديب، بل المثير هو التنازل للبيزنطيين عن تعويضات الحرب، مقابل تقديم المخطوطات العلمية، خاصة في العهد العباسي، وبالضبط في زمن المأمون. وبهذا يكون العرب وبحماسة منقطعة النظير قد قاموا بأكبر عملية إنقاذ للتراث الإنساني، خصوصا اليوناني منه، الذي كان عرضة للفساد والتلف جراء الإهمال.

وقد جند الخلفاء العباسيون، وبرعاية واعية ومستنيرة، جماعة علمية هائلة، معظمها من السريان، للقيام بمهمة تعريب العلم. ولعل أشهر المترجمين المشهود لهم بالدقة والنقل المنقح، هو حنين بن إسحاق الذي كان يقال إنه يأخذ وزن الكتاب المترجم ذهبا. ولم يكن «بيت الحكمة» يضم المترجمين فقط، بل النساخين والخازنين والمناولين، الذين هم حلقة الوصل بين «بيت الحكمة» ورواده. فبحق، كان «بيت الحكمة» ملتقى الحضارات آنذاك، وجمع في جوفه تراث البشرية. لكن يبقى لافتا للنظر أن الكتب المنقولة عن اليونانية، كانت محصورا في فنون العلم والفلسفة من دون أن تتعداها إلى الأدب والشعر أو الروحانيات، فلم يترجم العرب مثلا هوميروس أو سوفوكل، فهم كان لديهم ما يكفي من الفصاحة والبيان، ولديهم الإسلام.

ويؤكد جورج صليبا، في كتابه «العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية»، الذي ترجمه د. محمود حداد (ط.1، عن دار أبوظبي للثقافة والتراث/ كلمة، 2011)، على أن عملية الترجمة وإرادة استملاك المسلمين للعلوم القديمة، تمت مباشرة مع عملية إصلاح الديوان وتعريبه، من طرف عبد الملك بن مروان الأموي، فمن المعروف أن هذا الخليفة هو من سك الدينار العربي متخليا عن النقود البيزنطية، بالإضافة إلى أنه هو من أمر بتعريب الدواوين الذي كان يشتغل به الأجانب بالخصوص. وكما هو معلوم، فإن موظف الديوان يحتاج إلى عمليات حسابية معقدة لحساب الخراج، مما يجعل ترجمة الرياضيات أمرا ملحا، ناهيك بأن وقت دفع الضرائب مرتبط بالتقويم، مما يفرض المعرفة الفلكية. وهو ما يؤكد أن ترجمة الكتب الفلكية قد بدأ في وقت مبكر عن العصر العباسي. ولتأكيد هذا الأمر، يضرب جورج صليبا مثالا واضحا، وهو ترجمة الحجاج بن مطر لكتاب «المجسطي» لبطليموس، سنة 829م، فهو نعم تم في عهد المأمون، لكن الاطلاع على الترجمة يثير الدهشة، فقد تمت بلغة عربية سليمة ونقية، ومصطلحات تقنية ناضجة وممتازة، مع تصحيح للأخطاء، وسهولة في القراءة، مما يعني أنه لو كانت الترجمة قد تمت في عهد المأمون حقا، فلا محالة كانت ستكون رديئة كأي محاولة أولى في أي ترجمة جديدة، فأكيد أن الحجاج بن مطر كانت بين يديه ترجمات سابقة مكنته من أن يقدم ترجمته الأكثر دقة.

يرى صليبا أن تعريب الديوان كان محركا نحو مزيد من الترجمة، ويفسر ذلك كالتالي: فما دام أن الأجانب هم من كانوا يسيطرون على الدواوين، فإن التعريب أصبح يهدد عملهم، لأن العربي سيتمكن من احتلال مكانهم بسهولة، وهو ما سيجعلهم في بطالة، ويضطرهم إلى رفع الإيقاع والذهاب إلى معلومات أكثر دقة، وإلى مزيد من الاجتهاد لخلق حاجات جديدة، حفاظا على مواقعهم وضمانا لبقائهم، مما يستدعي الاتجاه صوب المصادر لاسترجاع مكانتهم. باختصار، يريد صليبا أن يؤكد على أن الترجمة كانت جراء تنافس كبير بين البيروقراطيين، فإصلاحات عبد الملك بن مروان الخاصة بالدواوين، أجبرت الموظفين، الأجانب بالخصوص، وتأمينا لرزقهم، على اللجوء إلى المعرفة الأكثر تخصصا، مما زاد من حمى الترجمة.

إن أطروحة جورج صليبا، توضح أن الترجمة لم تكن حركة من أجل تقليد ثقافة أرقى، بل الأمر انطلق وتم لدواع إدارية صرفة.

عن موقع جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط، صحيفة عربية دولية رائدة. ورقية وإلكترونية، ويتنوع محتوى الصحيفة، حيث يغطي الأخبار السياسية الإقليمية، والقضايا الاجتماعية، والأخبار الاقتصادية، والتجارية، إضافة إلى الأخبار الرياضية والترفيهية إضافة إلى الملاحق المتخصصة العديدة. أسسها الأخوان هشام ومحمد علي حافظ، وصدر العدد الأول منها في 4 يوليو 1978م.
تصدر جريدة الشرق الأوسط في لندن باللغة العربية، عن الشركة السعودية البريطانية للأبحاث والتسويق، وهي صحيفة يومية شاملة، ذات طابع إخباري عام، موجه إلى القراء العرب في كل مكان.
لقراءة المزيد


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)