الطلاسم الزخرفية في قصر الحمراء... تأثير جمالي لا نظير له

, بقلم محمد بكري


إيلاف


الخميس 27 سبتمبر 2018
إيلاف - أول يومية إليكترونية صدرت من لندن عام 2001
فيء ناصر


الطلاسم الزخرفية في قصر الحمراء... تحفة فنية للعمارة الغرناطية


اعمدة بهو السباع وفيها نقوش لعبارت مثل (الحمد لله وحده) و(عز لمولانا ابي عبد الله)

نجح مهندسو وفنانو قصر الحمراء بغرناطة، في إحداث تأثير جمالي لا نظير له، فقد مزجوا في آن واحد بين فن تنظيم الحدائق وبرك المياه والقنوات الجارية وفن العمارة والزخرفة والفنون الشعرية.

فيء ناصر من لندن : عام 1212 وقعت معركة العُقاب، التي شكلت نقطة تحول في تاريخ شبه الجزيرة الآيبرية (إسبانيا والبرتغال حالياً)، وبهذه المعركة تحالف ملوك الدويلات المسيحية شمال الجزيرة ضد دولة الموحدين المسلمة التي إنحسرت سيطرتها على الجزء الجنوبي للجزيرة الآيبرية وشمال أفريقيا، مُنِيَّ جيش الموحدين بهزيمة ساحقة سقطت بعدها المدن الأندلسية مثل قرطبة وأشبيلية في يد ملك قشتالة.

يقول الشاعر ابن العسال وهو متصوف وزاهد هرب من طليطلة بعد سقوطها وإستقر في غرناطة ومات فيها:

حثوا رواحلكـم يا أهل أندلس*** فمـا المقـام بها إلا من الغلـط

الثوب ينسل من أطرافـه و*** ثوب الجزيرة منسولاً من الوسـط

من جاور الشر لا يأمن بوائقـه *** كيف الحياة مع الحيَّات في سفـط

أنشئتْ إمارة غرناطة بعد معركة العقاب وكان أميرها أبو عبد الله محمد الأول من بني نصر بن الاحمر، يرجع نسبه الى قبيلة الخزرج القحطانية.

ساعدت الجبال التي تحيط بمدينة غرناطة على تحصينها من غزوات الملوك المسيحيين، وقد كانت هذه الإمارة ملجأ للمسلمين الفارين من مدنهم بعد سقوطها، وكانت ايضاً منبراً للثقافة وملتقى للتجارة.

بلغ عدد نفوس غرناطة في أوج إزدهارها ما يقارب نصف المليون نسمة نتيجة هجرة المسلمين اليها. إستمرت هذه الإمارة لمدة 250 عاما وكان آخر ملوكها هو أبو عبدالله محمد الذي سلمها سلمياً (ولعل ذلك سببا في عدم تخريب قصور الحمراء) الى الملك فرناندو والملكة إيزابيلا عام 1492، وبذلك سقطت آخر القلاع الإسلامية في للأندلس.

إستولى الملوك الكاثوليك على قصر الحمراء الذي كان جلّ غايتهم، حتى إن فرناندو وإيزابيلا إستقبلا كرستوفر كولومبوس بعد عودته من رحلة إكتشاف أميركا في قصر الحمراء. وعندما توفيت الملكة إيزابيلا أوصت أن تدفن في الحمراء، بلا شاهدة تحمل علامة صليب.

"لا غالب إلا الله"

لما دخل محمد الأحمر مدينة غرناطة (ومعنى الإسم بالإسبانية الرمانة)، رحب به أهلها وهتفوا: “مرحبا أيها الغالب”، وكان جوابه : “لا غالب اليوم الا الله”، وهذا هو شعار بني الأحمر الذي يتكرر على جدران قصور الحمراء.

بدأ الأمير أبو عبد الله محمد بتشييد قصره على تل يسمى (تل سبيكة)، يشرف على مدينة غرناطة التي كانت محاطة بالجنان والبساتين. إستمر العمل في بناء القصر حتى سقوط الإمارة، ولم يتم تشييد هذا القصر وفقا لتخطيط مسبق، بل جاء نتيجة إضافات متتالية، فكل أمير يبني قصره الخاص أو يضيف فناءً الى فناءات الحمراء المتعددة مثل، فناء السباع والريحان وفناء السفراء وفناء الملوك وغيرها أو يشيد برجا أو اكثر من أبراج الحمراء التي يبلغ عددها 37 برجا ما يزال أغلبها قائما.

تنبثق تصاميم قصر الحمراء المعمارية من منابع إسلامية أصيلة، ففناءاته وصحونه الداخلية ذات الزخرفة والتصميم البديع، تنفتح إحداها على الاخرى، وهي تناقض تماما بساطة أبوابه المتعددة وأسواره.

القصر وحجراته المطلة على الفناءات الداخلية وأبراجه المنعزلة وحدائقه الخلابة وبرك المياه والقنوات، كل هذه العناصر تعبر عن توق المسلم للفردوس ومحاكاة وصف الجنة كما جاءت في القرآن والأحاديث الشريفة.

النقوش والزخرفة الخطية

من أهم مزايا فن العمارة والزخرفة الغرناطية إنه فن دنيوي، فقد كانت القصور والمساجد تزخر بالزخارف التي قد تلهي المسلم عن صلاته، وتجعل عينه تسبح في بحر من الزخارف البديعة دون كلل أو ملل. كأن من سكن تلك القصور أراد عيش حاضره بمنتهى الترف لأنه كان يشك في مستقبله.

نجح مهندسو وفنانو قصر الحمراء في إحداث تأثير جمالي لا نظير له، من خلال المزج المتناغم بين فن تنظيم الحدائق وبرك المياه والقنوات الجارية وفن العمارة والزخرفة والفنون الشعرية.

وإنصبَّ إهتمام الحرفيين الغرناطيين، على تغطية جميع المساحات مهما كانت صغيرة بالزخارف الخطية والنباتية والمقرنصات والزليج.

ورغم أن تجسيد الصور يُعد من الأمور المحرمة في الفن الإسلامي، لكنه من ناحية اخرى أدى الى إزدهار الزخارف الخطية والنباتية. فهناك الخطوط العربية القديمة في كتابات مائلة بخط النسخ الأندلسي، والخط الكوفى الأندلسي.

مـا زاد الحمراء روعة وبهاء، تلك الأشعار التي حُفرت على جنباتها، كأنها تحاكي تعليق المعلقات على أستار الكعبة قبل الإسلام، وهذه ميزة تفردت بها العمارة الاندلسية، وربما لإحساس ملوك بني الأحمر بالخطر الذي كان يهدّد إمارتهم، فقد دفعهم ذلك الى تكثيف الطراز العربي والإسلامي في قصورهم، لكي تحتفظ هذه القصور بعدهم بملامح عروبة الأندلس. فامتزجت مجازات الشـعر بأدوات البناء وخاماته من مرمر وخشب وجص وزجاج. وتناغمت تلك القصائد المنقوشة على الجدران إلى حد ما مع فلسفة الفن الشكلي التي شقت طريقها إستجابة لمضامين مستحدثة لفهم الجمـال، حيث يلبى فيها الشعراء ميلاً نحو نزعة زخرفية، وقد تجسدت هذه النزعة في فن الخط والتصوير والفسيفساء وصناعة الزجاج الملون وهندسة البناء، ثم سرت إلى صناعتي الشعر والنظم. لقـد وجـد الشـعراء الغرناطـيون في هذه القصور ما يثير قرائحهم، ويفجر كوامن مشاعرهم، فجاء وصفهم للقصور وما يحيطها دقيقاً. إن فناءات الحمراء كانت تحتوي على 53 قصيدة عربية، إنمحتْ منها 13 قصيدة بفعل التقادم الزمني وعمليات الصيانة غير الدقيقة. ومن أبرز الشعراء الذين نُقشت قصائدهم في فناءات الحمراء: الوزير والشاعر لسان الدين إبن الخطيب، وإبن الجياب الغرناطي الذي نقشت قصائده في القاعة الرئيسية لبرج الأسيرة أحد ابراج الحمراء ومطلع القصيدة:

برجٌ عظيم الشأن في الأبراج *** قد باهت الحمراء منه بتاج
فيها بدائع صُنعةٍ قد نوظرت*** نسباً من الأفراد والأزواج
من آل سعد من بني نصر ومن*** نصروا وآوّوا صاحب المعراج

كما نُقشت قصيدة الوزير الشاعر ابن زمرك على محيط النافورة المائية في بهو السباع، وقد مثلت هذه النافورة إنجازاً علمياً كبيراً لعلماء الأندلس ولا سيما في ما يتعلق بسرِّ الساعة المائية حيث تتدفق المياه من أفواه أسودها ساعة بعد ساعة وأسداً بعد أسد. القصيدة في 12 بيتا، وفيها مدح السلطان محمد الخامس ووصف النافورة والقصر. أمام كل أسد بيت منها، ومطلعها:

تبارك من أعطى الإمام محمدا***مغانىَ زانت بالجمال المغانيا
وإلا فهذا الروض فيه بدايع ***أبى الله أن يلقى لها الحسن ثانيا

الطلاسم الزخرفية وما يحيطها

لكن الزائر المنبهر ببهاء وفخامة قصور الحمراء سيواجه صعوبة فك طلاسم الزخرفة الخطية، وربما يصل إلى نتيجة أن هناك إستلهاماً زخرفياً للحرف وبعض المفردات، دون أن تكون له دلالة واضحة. فهناك نقش لآيات من القرآن الكريم أو عبارات أو كلمات مثل (بركة، يمن) لكن من دون تنقيط الحروف حسب ما كان متبعا قبل تطور إسلوب كتابة الحروف العربية إلى الحروف المنقوطة، وهو ما يشكل الصعوبة الأولى في فهمها.

أما العقبة الثانية فهي: أن تلك الكلمات تم نسخها بأسلوب المرآة المعكوسة، بمعنى أن الكلمة نفسها كتبت تارة من اليمين، وأخرى من اليسار، لإيحاءات فلسفيـة مستوحاة من فكرة انعكاس ظلال الكلمـة على أسطـح المرايا الملساء، مثلما تنعكس ظلال الأقواس والمقرنصات في برك المياه المتعددة في الحمراء.

كما ان البناء الهندسي للحروف وتداخله مع ما يحطيه من زخرفة نباتية دقيقة، تحول أيضا دون إكتشاف معنى تلك الزخارف بسهولة. ان الخطاطين الذين أبدعوا تلك الزخارف الحروفية قد منحوا الحروف العربية إمتدادات فنية لم يسبقهم اليها أحد، عبر تحوير الحروف إلى أشكال تستلهم صور النباتات أو تكون إمتدادا لها، على نحو أبعد الحروف كثيراً عن رسمها التقليدي. ونُقِشَ الحرف العربي بشكل تجريدي ضمن صورة جمالية كاملة مع ما حوله من نقوش ومزججات وتذهيب.

قصور الحمـراء الأسطورية هي متحف لا نظير له للعمارة والفنون الأسلامية في الأندلس، وهي الشجرة الذي خرجت منها أغصان الفن الإيطالي الكلاسيكي، وقد ألهمت روعة هذه القصور الكثير من الأدباء والشعراء، منهم الفرنسـي فرانسـوا شاتوبريان(1768/1848) والمستشرق الأمريكي واشنطن أرفنج(1783/1859) الذي ألف كتاباً بعنوان (قصص الحمراء) بعد أن سكن أحد ابراج القصر، والشاعر الإسباني غاريثيا لوركا(1936/1898)، والروائي الإسباني أنطونيو جالا الذي إستوحى روايته (المخطوط القرمزي) من حياة ابي عبدالله الصغير آخر ملوك غرناطة.

عن موقع ايلاف على الإنترنت

حقوق النشر

ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.

تم نقل هذا المقال بناء على ما جاء في الفقرتين 4-2 و4-3 من حقوق الملكية الفكرية المذكورة في شروط الأستخدام على موقع إيلاف :

  • مسموح لك بنسخ أو تنزيل المقالات المنشورة على الموقع من أجل إعادة عرضها على مواقع أخرى بشرط أن تعرض تلك المقالات بنفس تنسيقها وشكلها.
  • يجب وضع رابط للموقع بين عنوان المقالة والفقرة الأولى منها.
  • كما يضاف البيان التالي في نهاية المقالة : ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.

عن صورة المقال : بكري

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)