السينما العمالية.. تكاد تختفي

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الخميس 02-05-2017
الصفحة : ثقافة
محمود صبحي


السينما العمالية.. تكاد تختفي


ستظل صورة شابلن هي الأقوى في الذاكرة، كعامل يتدرّب على تناول الغداء بتلك الآلة العجيبة


في العام الماضي، حصد المخرج البريطاني المخضرم كين لوتش جائزة السعفة الذهبية لمهرجان “كان” السينمائي عن فيلمه “أنا دانيال بليك”، في اعتراف وتتويج لنهجه الواقعي النقدي عبر أكثر من نصف قرن من حياته المهنية شهدت تقديمه لأفلام عديدة عن قضايا الطبقة العاملة ودفاعه عن حقوقها. ووفقاً لكثير من النقاد والمشاهدين، قدَّم لوتش في “أنا دانيال بليك” أحد أجمل أعماله وأكثرها تأثيراً، ونجح في الوصول إلى ذروة أسلوبه بجعل مشاهدي الفيلم يتماهون مع أزمة بطله، الذي يمثّل نموذجاً للإنسان العادي البسيط المسحوق بفعل اختلال النظام الاقتصادي المسيطر. دانيال بليك نجّار عجوز من نيوكاسل لا يستطيع العودة إلى عمله بسبب تدهور حالته الصحية فيتحوَّل إلى تلقي مساعدة الرعاية الاجتماعية، لكنه يواجه التعنت البيروقراطي ويتيه في دوامات الإجراءات إلى أن يموت بأزمة قلبية. هكذا يقدّم كين لوتش اليساري العتيد فيلمه، هادفاً لخلق ذلك الشعور بالتضامن والتكافل والحضّ على التغيير والتذكير دائماً بحقوق الطبقة العاملة.

كان للعمال نصيب في أولى اللقطات التي صوَّرتها السينما، ويتفق أغلب المؤرخين على أن بداية فن السينما كما نعرفها الآن كانت فى يوم 28 كانون الأول/ديسمبر 1895، عندما عرض الأخوان لوميير أول “مشهد تصويري متحرك” يظهر فيه خروج العمال من أحد مصانع مدينة ليون الفرنسية في تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً، للاستمتاع بفترة الاستراحة وتناول الطعام. بدأت سينما الأخوين لوميير أول عروضها العامة بمناظر إخبارية أو تسجيلية تعكس صوراً توثيقية لحياة الناس العاديين، أما في أميركا فكانت المناظر الإخبارية من النوع المثير، مثل مباريات الملاكمة ومصارعة الديوك وألعاب الأكروبات. هكذا شهدت السينما منذ مهدها تنافساً بين تيارين أساسيين، يعتمد أحدهما محاكاة حياة الناس الطبيعية ومحاولة نقلها أو تصويرها، فيما الآخر يسعى وراء الغريب والمثير. لكن الشيء الذي اتفق عليه الجميع هو أن السينما “فن شعبي” موجَّه للقاعدة العريضة من الجماهير البسيطة، ومعظمهم طبعاً من العمال الذين وإن كان لهم السبق في الظهور على شاشاتها، فإن قضاياهم ستغيب عنها كثيراً في السنوات اللاحقة.

بالطبع ليس بمقدور السينما أن تتجاهل وجود شخصية العامل، لكنها تمكّنت عبر تاريخها الطويل أن تتجنَّب قدر الإمكان همومه ومشكلاته، ولم تسع بشكل جاد إلى تناول قضاياه أو المساهمة في المطالبة بحقوقه. التساؤل عن أسباب غياب مشكلات العمال عن الأفلام يفتح الباب أمام احتمالات ربما يكون أولها وأكثرها إثارة للاهتمام هو اختيار العمال أنفسهم، ومن ثمّ فرض اختيارهم أو تزكيته لدى المنتجين، تنحية مشاكلهم عن الشاشة باعتبارهم المموِّلين الحقيقيين لفن السينما، ناشدي المتعة والتسلية في الصالات المظلمة السحرية التي تلهيهم عن هموم وضغوطات العمل، لكن بالتأكيد هناك عوامل أخرى أدت إلى اختفائهم عن الشاشة أو ندرة ظهورهم في أفضل الأحوال.

ربما تكون تحفة شارلي شابلن “العصور الحديثة” (1936) من أبلغ ما قدّمته السينما في إطار رؤيتها المتعاطفة مع العامل والساخرة من رأس المال الساعي لإحالته ترساً في آلة تسخِّره فقط لخدمتها. ستظل صورة شابلن هي الأقوى والأبقى في ذاكرتنا كعامل مسكين يتدرّب على تناول الغداء بتلك الآلة العجيبة المجنونة في أقل وقت حتى ينتهي من راحته سريعاً ويعود لمواصلة العمل.



لكن قبل “العصور الحديثة”، قدّمت السينما الروسية فيلمها الأهم في تاريخ مناصرة العمال وهو “المدرعة بوتمكين” (1925) لسيرغي آيزنشتاين، الذي قام بتمجيد الثورة العمالية روسيا في العام 1905 ضد نظام الإقطاع والتي قادت إلى الثورة البلشفية بعد ذلك العام 1917، حيث تتعالى القوة التأثيرية للفيلم مع المتتالية الشهيرة لمذبحة سلالم الأوديسة حين يقوم جنود القيصر بفتح النيران عشوائياً على الآلاف من المواطنين، لترصد الكاميرا لقطات تفصيلية بالغة القوة لضحايا أول مجرزة لقمع ثورة عمالية على الشاشة. ونتيجة لخطورة تأثير هذه المشاهد وخوفاً من انتشار فكرة مطالبة العمال بحقوقهم بالقوة في مواجهة النظم الديكتاتورية، أصبح “المدرعة بوتمكين” أحد أكثر الأفلام تعرّضاً للمنع والمصادرة لسنوات طويلة في كثير من بلاد العالم. وربما لهذا السبب لم يظهر حتى اليوم فيلم بشجاعته في دعوته الثورية، ولا في تصويره لوحشية وهمجية الاعتداء على العمال من أجل إخراس أصواتهم وقمع وإرهاب مَن يجرؤ على السير على دربهم.



وبعيداً من كلاسيكيات السينما العالمية، كان للسينما المصرية نصيبها من تقديم شخصية العامل في العديد من أعمالها، لكنها لم تتناول مشكلات العمال وقضاياهم المُلحّة إلا نادراً. وقد بدأ اهتمامها بهذا الأمر مبكراً نسبياً في فيلم يحمل اسم"الورشة" من إخراج ستيفان روستي العام 1940، ثم بعدها بثلاث سنوات جاء فيلم بارز هو"العامل" للمخرج أحمد كامل مرسي، ويدور حول الأسطى أحمد (حسين صدقي) وهو شاب يناضل من أجل زملائه العمال ولا يتخلّى عنهم مهما كانت العقبات أو التهديدات أو المؤامرات التي تُحاك ضده، حتى يصبح زعيماً بل ورئيساً عادلاً للمصنع بفضل تحريضه للعمال على القيام بإضراب كبير لتلبية مطالبهم وإرضاخ أصحاب المصنع. بالطبع ينتهي “العامل” نهاية سعيدة وتتحقق مطالب العمال، لكن الفيلم واجه اعتراضات من الرقابة المصرية ومُنع من العرض في البداية بأمر من الملك فاروق بعد مشاهدته إياه في اﻹسكندرية، ثم عرض لاحقاً بأمر من وزير الشؤون الاجتماعية عبدالحميد عبدالحق بعد حذف بضعة مشاهد منه، وبعد عرض الفيلم مباشرة، صدر أول قانون لنقابات العمال في مصر.

وإذا كان من الجائز أن تواجه العقبات في عهد الملكية والاحتلال فيلماً بتلك الثورية والمباشرة، إلا أن الأمر يتكرر بعد ثورة يوليو 1952 وفي فيلم لا يشكّل موضوع قوانين العمال وحقوقهم فيه إلا خطاً جانبياً من خلال شخصية “أبو سريع”، زعيم الشيّالين والمدافع عن حقوقهم في فيلم “باب الحديد” ليوسف شاهين. أكثر ما أثار مخاوف الرقيب في الفيلم هي المشاهد التي تدعو لتأسيس نقابة للشيّالين لتوحيد آرائهم وحلّ مشكلاتهم، وقد وصل قلق الرقابة من خطورة الفيلم إلى حد تعيين رقيب لمتابعة التصوير يوماً بيوم. ولكن يوسف شاهين استطاع بإصراره تمرير الفيلم الذي لم يتسبب عرضه في ثورة عمالية، بل كانت ثورة الجماهير على الفيلم نفسه الذي لم يلبّ حاجتهم للتسلية والترفيه، فقاموا بتكسير قاعة العرض! وخرج البعض منهم في غضب عارم متوجهين إلى مكتب “ملك الترسو”، فريد شوقي، القريب من صالة السينما لمطالبته بعدم تقديم هذه الأدوار مرة أخرى والعودة لأدوار العنف الجسدي وأفلام المعارك الشعبية.

في “النظارة السوداء” (1963) لحسام الدين مصطفى، يتوازي مع قصة الحب التي تجمع بين مادي (نادية لطفي) والمهندس عمر (أحمد مظهر) صراع الأخير مع صاحب المصنع الذي يعمل به ومناصرته لمطالب العمال في مختلف حقوقهم ضد الإدراة، وينجح مدير المصنع في استقطاب المهندس الشاب، تارة بإرساله في بعثة للخارج وأخرى بترقيته ثم بتشجيعه على التقدم لخطبة ابنته حتى يتخلّى تماماً عن مواقفه. وعلى الرغم من أن قصة مادي وعلاقتها بالرجال هي أساس موضوع الفيلم، المقتبس عن رواية لإحسان عبد القدوس، إلا أن الخط الدرامي المتمثل في علاقة عمر بالعمال له أهمية كبيرة في ضبط توازنات السيناريو، فهو يكشف عن ضعف المهندس أمام الإغراءات، رغم شخصيته القوية، وهو الذي يدعو مادي الارستقراطية المستهترة لمقاومة الإغراءات والتمسك بهدف في الحياة، ليصبح تخلّي المهندس عن مناصرته لمطالب العمال العادلة والشريفة معادلاً لسقوط الفتاة في عالم الضياع والانحلال.

وبعد وصول أنور السادات إلى الحكم وأخذه في سياسة الانفتاح الاقتصادي غير المدروس، ظهرت مجموعة من المخرجين المصريين الشباب، حملوا على عاتقهم توثيق التغيّرات الحادة في المجتمع المصري، فقدّموا بعض التجارب والأفلام المغايرة لم تعهدها السينما المصرية. سينمائيون مثل عاطف الطيب ومحمد خان وخيري بشارة وداود عبد السيد، كانوا نواة تيار السينما الجديدة في الثمانينيات التي خرجت من رحم الواقع المُعاش والقضايا المجتمعية الحسّاسة، فجاءت أفلامهم زاخرة بالكثير من شخصيات العمال الباحثين عن التغيير والثورة.

ربما لم تتناول أفلام مثل “طائر على الطريق” أو “سواق الأتوبيس” أو “أحلام هند وكاميليا” أو “يوم مر ويوم حلو” قضايا عمالية بالمعنى النقابي الشائع، لكنها عبّرت قدر ما استطاعت عن أحلام الطبقة العاملة وصراعاتها اليومية لاستكمال الحياة أو البحث عن حياة أخرى تستوفي شروط العيش الكريم تحت وطأة حياة المدينة الكبيرة.

في سينما الألفية الجديدة، تكاد تختفي قضايا العمال تماماً، بل إن شخصية العامل نفسه أصبح ظهورها نادراً في دور البطولة، وهو ما لم يتحقق سوى في أفلام ثلاثة، كلها كوميدية وكلها تافهة، أولها “بلية ودماغه العالية” لنادر جلال، وفيه يظهر محمد هنيدي كميكانيكي شاب في أحد الأحياء القاهرية الفقيرة، لكن مشكلاته كعامل وصاحب ورشة لإصلاح السيارات تتوارى خلف قصة حبه لفتاة غنية وانشغاله بمساعدة ثلاثة صبية من أطفال الشوارع. أما ثاني هذه الأفلام فهو “شيكامارا”، وفيه تقوم مي عز الدين بتجسيد شخصيتين إحداهما سائقة ميكروباص تواجه مشكلات تحرش زملائها في موقف السيارات ومعاناة متعلقة بطبيعة عملها، أما الشخصية الأخرى فهي صاحبة مصنع ينهبه عمّها الذي يديره ويعرّضه للإفلاس مما يهدّد عماله بالتشريد. في الفيلم تتوه المشكلات العمالية وسط أجزاء الهزل والاستخفاف المسيطرة والرغبة المبالغة في الاضحاك. أما الكارثة الثالثة فهي فيلم “شبه منحرف”، الذي يقوم فيه رامز جلال بدور ناصر معجزة، وهو عامل من طراز نادر يجمّل السيارات ويعطيها أشكالا غريبة وجذّابة للشباب، لكن الفيلم ينشغل في عملية تهريب ومطاردات وقصة حب غير منطقية تتوه معها شخصية العامل وتختفي أي ملامح أو معالم يمكن أن تبقيها في الذاكرة. أخيراً وبصرف النظر عن المسافة الشاسعة بين بدايات تناول السينما المصرية لشخصية العامل وما وصل إليه حالها، سيظل ناصر معجزة مع الأسف هو النموذج الأحدث لشخصية العامل كبطل في السينما المصرية حتى إشعار آخر.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)