الرواي في روايات نجيب محفوظ، نجاة علي (مصر)، دراسة دار الهلال - 2017

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الخميس، ١٤ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٧
جريدة الحياة
صبحي موسى]


محفوظ يواجه بارت في كتاب نجاة علي


حينما تحدث الفرنسي رولان بارت عن «موت المؤلف» وانفصاله عن نصّه بمجرد أن ينتهي من كتابته، وضع الكثيرين في مأزق التعامل مع الجانب الإنساني للكاتب، وعلاقته بنصوصه ووعيه أثناء كتابته لها. لكن يبدو أن هذا الموت ليس أكيداً، فثمة طرق وآليات أخرى لإحياء المؤلف واستحضار وجوده داخل نصوصه الروائية، منها الطريقة التي اعتمدتها الشاعرة نجاة علي في كتابها «الراوي في روايات نجيب محفوظ» (دار الهلال)، وكان في الأصل موضوع دراستها لنيل الدكتوراه من جامعة القاهرة. يتألف الكتاب من أربعة فصول، الأول يخصّ الجانب النظري الذي عرضت فيه نجاة علي تاريخ المصطلح، وتعامل النقاد معه بدءاً من أفلاطون الذي قال - وفق جيرار جنيت- في كتاب «الثالث مِن الجمهورية»: أن الحكاية الخالصة هي التي يبذل فيها الشاعر الجهد لحملنا على الاعتقاد أنه ليس هو المتكلم فيها، بل شخصية أخرى. وهو ما سماه أفلاطون التقليد أو المحاكاة، مروراً بما قاله الشكلانيون الروس والبنيويون الفرنسيون، وصولاً إلى تمييز واين بوث بين الراوي الضمني (ذات المؤلف الثانية)، والراوي غير المعلن (غير الممسرح)، والراوي المعلن (الممسرح)، وينقسم الأخير إلى: الراوي المراقب، الراوي المشارك في الأحداث، الراوي الذي يعكس الحدث.

أما الفصل الثاني فحمل عنوان «الراوي وتحولات الخطاب الروائي في روايات نجيب محفوظ»، وقسمته الباحثة إلى ثلاثة مرتكزات أولها كان علاقة الرواي بتحولات الخطاب، وهو المرتكز الذي ذهبت فيه إلى أن معظم من درسوا نجيب محفوظ وأعماله أكدوا أن خطابه الروائي مرّ بثلاث مراحل: التاريخية والواقعية والمرحلة الفلسفية. لكنها رأت أنّ من الصعوبة الفصل الحدي بين مراحل تطور خطاب أي كاتب، لأن الكاتب تحكمه نظرة شمولية للحياة، فالأفكار التي يؤمن بها الكاتب لا تظهر فجأة ولا تختفي فجأة. ومن ثم قدمت قسمين آخرين، أولهما بعنوان «من الكاتب إلى الفيلسوف»، رصدت فيه تطور الخطاب لدى محفوظ الذي بدأ حياته بالكتابه عن العصر الفرعوني، ثم سرعان ما انتقل إلى المرحلة الاجتماعية في «القاهرة 30» و«خان الخليلي» وغيرهما، ثم تطور خطابه إلى المرحلة الرمزية في «أولاد حارتنا»، وغيرها، حتى وصل إلى الرؤية الفلسفية في أعمال كـ «الطريق والمرايا»، ليمرّ بعدها الخطاب الروائي لدى نجيب في تحولات عدة بدأت من رصد الحياة الواقعية إلى تأملها وفلسفتها والبحث عن الجوهر فيها.

أما المرتكز الثاني فكان «جماليات القبح» التي اعترفت الباحثة بأنها وجدت صعوبة في تعريفها، ومن ثم لجأت إلى تفرقة جابر عصفور بين القبح كموضوع للفن يتصل بمادة المبدع، وبين القبح كقيمة جمالية سلبية في الحياة. وذهبت إلى أن محفوظ كان لديه وعي ضدي بامتياز، جعله هذا الوعي في حالة مساءلة دائمة لكل شيء، ما مكنه من رؤية العالم في جوهره كمجموعة من المتناقضات المتصارعة.

اعتمدت الدراسة في جانبها التطبيقي على روايات «زقاق المدق»، «أولاد حارتنا»، «ميرامار»، «المرايا». وقد تلمست فيها الباحثة وجود الراوي وتطوره وأشكاله، فرصدت في الفصل الثالث «الراوي: الشكل والأيديولوجيا»، وقسمته إلى الراوي أو المؤلف الضمني، الذي يقف في منطقة وسط ما بين المؤلف الحقيقي الذي تحكمه أيديولوجيته، وبين الراوي بأنواعه المختلفة في النص. وذهبت إلى أن أبرز ملامح المؤلف الضمني لدى نجيب محفوظ هي انحيازه إلى عالم الفقراء والمهمشين عبر تسليط السرد عليهم، والتركيز على القاهرة بوصفها منطقة نشأته وعالمه الأثير، فضلاً عن تبنّيه قيم العدالة والمساواة، إضافة إلى وضوح الجانب الأخلاقي في أعماله، ونزوع المحافظ في السرد، إلى درجة إدانة شذوذ المعلم كرشة واختيار حميدة أن تكون فتاة ليل.

في هذا الفصل أيضاً درست الباحثة انتقال الرواي من المركزية إلى التشظي، حيث كان في «زقاق المدق» بمثابة الراوي العليم القابض على سلطة السرد، ثم أصبح الراوي الشاهد وصاحب الوعي الراديكالي في «أولاد حارتنا»، ثم الراوي المتعدد النازع إلى تداول سلطة السرد في «ميرامار»، وأخيراً الراوي المتشظي والمتجاوز للنوع الأدبي في رواية «المرايا». لقد درست ايضاً «الرواية وشعرية اللغة»، موضحة أن اللغة لدى الكاتب النوبلي لها مستويان، الأول هو المستوى المباشر الواضح، أما الثاني فهو المستوى الشعري الذي اعتمد تقنيات المفارقة والمجاز والاستعارة، وقد تطورت اللغة لديه من الكلاسيكية التي تهيمن عليها الجزالة والبلاغة القرآنية إلى اللغة الأبسط والأقرب إلى لغة الشارع مع الحفاظ على سلامة الأسلوب ووضوحه.

توقفت الدارسة في فصلها الأخير أمام علاقة الراوي بالزمن الروائي، موضحة أن الزمان والمكان من أبرز تقنيات الكتابة الروائية، ومن ثم لا يمكن دراسة الراوي من دون ربطه بالعلاقة الزمكانية في النص، ومعرفة كيف أثرت انحيازاته في السرد. هذه العلاقة التي رصدتها في ثلاثة مرتكزات هي علاقة الراوي بالمفارقة الزمنية، تلك التي تجمع بين زمنين في لحظة معينة، كالسرد الاسترجاعي أو السرد الاستباقي أثناء حدوث موقف معين، وثانيها هو علاقة الرواي بالزمان والمكان، إذ إن الحارة تم استخدامها في شكل مزدوج الدلالة لديه. فهي حارة واقعية تارة، ومعادل فلسفي للعالم تارة أخرى، فضلاً عن الترميز من خلالها إلى حالة العدم. فحين يغيب العدل ويسود الظلم تصبح الحياة بمثابة مقبرة كبيرة، ويقول نجيب محفوظ في هذا السياق: «كتبت عن الحارة كحارة، وكتبت عنها كوطن، وكتبت عنها كالوطن الأكبر أو البشرية». ومن ثم فالزمن في الحارة يقوم على دورات متكررة، بحيث يفتتح الراوي بداية كل دورة برسم صورة للتغيرات التي طرأت على الحياة، أما المقهى فكان بمثابة زمكان التحولات، سواء في أحداث الرواية أو الأحداث التاريخية والاجتماعية التي يرصدها النص.

كانت المدينة هي العالم الأثير لدى نجيب محفوظ، فهو بمثابة الابن البار لها، ليس فقط في عدم خروجه منها ولكن في الاحتكام الدائم لمنطقها وفلسفتها في الوجود والبقاء، ومن ثم فراوي نجيب محفوظ مدينيّ بامتياز، ومن ثم ظهرت تجليات وعيه المديني في تمثله لما تتمع به المدينة من قيم التنوع والتعدد، وهو ما اتضح في الأعمال البوليفونية القائمة على تعدد الأصوات، كما أن المدينة ظهرت لديه بتنوعاتها المكانية من حارات وأزقة وشوارع وأحياء، وكانت مركزية القاهرة واضحة بخلفياتها التاريخية وأبعادها الاجتماعية.

كان اختيار نجاة علي لدراسة عالم نجيب محفوظ من خلال زاوية الراوي ذكياً، نظراً إلى أنه يمثّل أحد المداخل غير المطروقة بوفرة عبر دراسات تناولت أدب نجيب محفوظ، فضلاً عن أنها استطاعت من خلال هذا المدخل المزج بين الأعمال الروائية لنجيب محفوظ وبين نجيب محفوظ كمؤلف، ولكن في صيغة الراوي بأشكاله المتعددة، من دون تعارض بين حضور الراوي الضمني ونظرية موت المؤلف لدى رولان بارت. وعلى امتداد الكتاب/ الدراسة نجد عوالم الأعمال الروائية وقياسها على الوقائع الحياتية للمؤلف وثقافته وانتماءاته الفكرية والحزبية، وهو ما يجعلنا نهتف مع رولان بارت بموت المؤلف وانفصاله عن نصه بمجرد نشره له، ثم نعود لنهتف مع نجاة علي بحياة الراوي أو المؤلف الضمني.

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)