الذين مسهم السحر، روزا ياسين حسن (سورية)، رواية دار الجمل - ٢٠١٦

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الإثنين، ٢٧ يونيو/ حزيران ٢٠١٦
جريدة الحياة
مهى حسن


السوريون الذين مسّهم سحر روزا ياسين حسن


تُنهي روزا ياسين حسن روايتها الجديدة «الذين مسهم السحر»، (دار الجمل)، وهي تورد طبقات المسحورين بغواية العصيان، غير مستثنية أي سوري، لتشمل الجميع: «كلنا، المعارض للنظام والموالي له ومن بينهما، الأبيض والأسود والرمادي والملّون، كلنا مسّنا السحر، وسيبقى يلاحقنا كذاكرة ملحّة».

في الرواية التي قسمتها روزا لا إلى فصول، كما هو المألوف غالباً في تقسيم الروايات، ولا إلى أرقام تفصل بين المقاطع والمشاهد والأحداث، بل اختارت تقنية جديدة مارستها خلال أكثر من أربعمئة صفحة من الرواية، متكئة على العناوين الفرعية، لتأخذ بيد القارئ منذ العنوان الفرعي الأول، وتنقله بهدوء وبعض التأني، الى آخر عنوان فرعي.

عبر أربعة وثلاثين عنواناً، تسرد روزا سيرة الحدث السوري الذي لا يمكن مقاربته، وهو مستمر الحدوث حتى اللحظة، إلا عبر تقنيات غير مألوفة. تحاول روزا، أو ريما العيساوي، إحدى بطلات الرواية، توثيق أحداث الثورة السورية وشخوصها، عبر السنتين الأوليين من وقوعها. تكتب روزا روايتها من منفاها، أو مهجرها، في مدينتي كولونيا وهامبورغ الألمانيتين، حيث تُنهي روايتها بتثبيت المكان، كما أنها بدأت روايتها متوجهة بالشكر إلى كل من مؤسسة هاينريش بول وهامبورغ شتيفتونغ، إذ لولا دعمهما، ربما، لما ابصرت هذه الرواية النور، كما تقول روزا.

روزا ياسين حسن، التي مسّها السحر بدورها، راحت تبحث عن خلاصها الروائي بتقنية مختلفة، إذ لم تعد الرواية بشكلها المألوف قادرة على تخفيف السحر، وفي الوقت ذاته، لا يمكن الروائي أن يجد خلاصه، إلا في الكتابة. هذا ما يستشفّه القارئ من رواية روزا الدسمة. هي رواية دسمة حقاً، تمتلئ بأسماء وأحداث وأمكنة، لكنها لا تُشبع نهم القارئ الذي ينتظر الاطّلاع على رواية تنقسم بطريقة مألوفة أو تقليدية، إلى حكاية وشخوص وتسلسل. فروزا مهتمة باللهاث خلف الجميع، محاولة اقتناص اللقطة كما هي، بطزاجتها، برائحة الدم والعرق والحب والعنف وكل مافيها من مباغتات، للانتقال إلى لقطة أخرى، مليئة أيضاً بإرباكاتها وتناقضاتها، فتبدو قاطعة للقطة التي قبلها، وهي في العمق، متمّمة لها، لأن المشهد السوري الحقيقي اليوم هو كذلك: متعدد، متقاطع، متشظّ، متناقض... لايمكن رصده في صيغة واحدة.

تبدأ الرواية من جرمانا، المدينة التابعة لمحافظة دمشق، حين يحاول ميفان حاجو فتح الكافتيريا، ليبدأ بالشتائم باللغة الكردية، فالمطر يملأ أرضية الكافتيريا، ويُغرق السجادة العجمية التي تزيّن المحل. جرمانا هي المدخل للرواية، إذ منها، وبدءاً من تلك الكافتيريا، ستدور الروائية بالقارئ لتفتح أمامه الأبواب التي تكمن خلفها بقية شخوص الرواية، وحكاياتهم.

البناء الذي يقع فوق الكافتيريا، تقطن فيه أم بيرو شاهين، وعائلة حمصية تقيم في الطابق الأول، وعائلة من الساحل، ورجل خمسيني عازب من الساحل أيضاً. ونتعرف لاحقاً على هؤلاء السكّان، والقصص التي جاءت بهم إلى هذا المكان. هذا المبنى شبه المهجور في جرمانا. بين صوت الرواي الغائب، وصوت الراوي العالم، تنوس أحداث الرواية. تمنح الروائية حقّ الكلام بصيغة الأنا، لغالب شخوصها، متناوبة معهم السرد.

من ميفان إلى صفوان الشيخ إلى ريما العيساوي... تخرج الشخصيات تباعاً، لا لنتعرف على حيواتها، بل لنتعرف خصوصاً على مواقفها ودورها مما يحدث الآن في البلاد.

لهذا وضعت الكاتبة عنواناً فرعياً تحت عنوان روايتها، أبرزته بين أقواس صغيرة «من شظايا الحكايات»، فهي تدرك أن الحديث عن الحكايات، يعني ملء آلاف الصفحات، حين يتعلق الأمر بسرد حكايات السوريين في الثورة، لهذا اكتفت الروائية بالشظايا، لاعبة على المفردة، لتحمّل الحكايات وشظاياها أكثر من معنى، تُشتُمّ منها على الأكثر، رائحة الحروب. ومن شظايا الحكايات، يلملم القارئ سيرة السوريين المُنهمكين بالثورة، بالصبايا الثلاث على الأخص، الصديقات المختلفات الانتماء: الفنانة التشكيلية ريما العيساوي القادمة من اللاذقية، هبة حداد المسيحية التي تقع في غرام شاب مسلم، ومريم محمود القادمة مع زوجها صفوان الشيخ هاربين من حمص.

حوارات سورية

نقاشات طويلة تملأ الصفحات، وتشغل اهتمام الشخوص المعنيين بالثورة. حوارات يتبادلها السوريون في كل يوم، بحيث تقتحم السياسة بيوت الجميع، ويخرج معظمهم في التظاهرات، وتتغيّر حياتهم. من شخوص الرواية، يمكننا أخذ عيّنات قليلة، قد تسلّط الضوء على الجو العام لرواية تضجّ بالشخوص والحكايات:

ميفان البسيط لم يكن يستوعب الكثير مما يحدث حوله، ولم يكن يفهم الكثير من الكلام المعقّد الذي يدور على مسامعه، ويسمع لأول مرة باسم مشعل التمو، وينوس بين مالكَي الكافتيريا، القديم عمران أبو العزم، والجديد عبد اللطيف مسعود، بين الأول الذي كان غالب زبائن المقهى القادمين إليه في ذلك الوقت من المعارضين، والثاني الذي يدافع عن الجيش السوري ويتّهم العصابات الإرهابية بتخريب البلد، في تلميح ربما من الكاتبة، الى انقسام السوريين، وتشتتهم. فهذا ميفان حاجو، العامل البسيط، بين وجهتي نظر كبيرتين، تقسمان البلاد إلى المزيد من الانقسامات والتفرقة وخلق الكراهية، والاختلاف حتى بين أبناء العائلة الواحدة، وبين الإخوة أنفسهم. ميفان يمسّه سحر التغيير، حين يعثر على الحل السحري ليتخلّص من الجمود القاتل، بعد إغلاق الكافتيريا، وبقائه من دون عمل. يعود ميفان إلى غرفة الخردوات في بيته في «الحجر الأسود» ليأخذ صندوق البخاخات التي كان يستعملها أخوه شيران في عمله، للإعلان عن عمله ورقم هاتفه في حفر الآبار، عبر كتابة ذلك على الجدران.

كان ميفان يراقب الشباب الذين يخرجون ليلاً لتدوين الشعارات التي تُقلق رجال الأمن، فيأتون في الصباح ويطلون العبارات بالطلاء الأبيض أو يبخّونها بالأسود لطمسها. هكذا يقرر ميفان، «كتابة ما يريد من الآخرين قراءته، والحيطان صفحاته البيضاء التي تنتظره بفارغ الصبر». أما ريما العيساوي، الفنانة التشكيلية المنخرطة في أولى التظاهرات في دمشق، مع صديقتها هبة حداد، وصديقها فراس الصفدي الذي كان زميلها في كلية الفنون التشكيلية، فقد مسّها السحر منذ بداية الثورة، وقررت ترك لوحاتها وانشغالها بالرسم، والتوجّه صوب عوالم أخرى، تكون فيها فاعلة مباشرة.

تتغير حياة ريما، حين تلتقي خالد الساعي عبر صديقيها فراس وهبة، وتحدثه عن أهمية توثيق الثورة، ويعدها هو بتزويدها بالقصص كطبيب تحصل معه قصص كبيرة في كل يوم، لتعثر ريما على معنى حياتها الجديدة: «شعرت اليوم بأني اكتشفت ما أريده، أريد أن أصور كل شيء: أن أسجن اللحظة في لقطة».

ريما القادمة من اللاذقية، تتعرض للنبذ من أهل البلدة، الذين يقف غالبهم مع النظام. وعبر سياقات متعددة في السرد، تقودنا شظايا الحكايات إلى مشهد عميق وموجع، حين تذهب ريما إلى عزاء أخيها، الذي قتله الثوار، وتواجه ذلك الكم الهائل من الكراهية. يحتويها والدها الذي كان قد طردها لأنها وقفت في صف الإرهابيين الذين يريدون قتل أهلها، لكن زوجة عمها توبّخها امام الملأ، وتصرخ بها: «انبسطت! مات خيك... ومن قتله؟ الإرهابيون الذين تدعمينهم يا خائنة، تقفون بجانب الذين يقتلون شبابنا يا خونة!».

تعود ريما إلى دمشق منكسرة بفقدان أخيها مهند، وتتعرض علاقتها العاطفية للفتور، فيشعر خالد الساعي حبيبها من المليحة بـ «تلك المسافة المزروعة بالشوك التي راحت تتنامى بينه وبين ريما منذ مقتل أخيها». ويرد على هبة، صديقتهما المشتركة، التي تقول له: «الثوار قتلوا أخاها، وأنت منهم في شكل أو آخر، لكن أقرباءها قتلوا أيضاً أقربائي ولم أكرهها»، وترد هبة : «الأمر أعمق من ذلك! إنه أخوها الوحيد يا خالد، ثم هي ما زالت في صفوف الثورة. ربما لو كانت امرأة غيرها لتركت نشاطها المعارض من وقتها».

الانقسام والتشظي

يخلق العصيان وسحره آثاراً سلبية في العائلات والصداقات، فلا تتعرض ريما فقط، لنبذ عائلتها في اللاذقية، بل كذلك لموقف مربك حين تزورها جارتها زوجة العميد، لتعزّيها بموت أخيها، فلتتعرض وتُعرّض أصدقاءها المعارضين لموقف قاسٍ حين يدخل العميد بهجت حسون بيتها، مع زوجته سميرة السليماني، ويُفاجأ بأنه دخل بيت «رجل يتضّح بأنه معارض، معارض بالتأكيد، وكل رفاقه من المناطق المتمردة»... يعتقد العميد وزوجته، بأن ريما متزوجة من صلاح عباس، الذي لا يعرف عنه أنه معارض علوي من حمص، سُجن لمدة إثني عشرعاماً في التسعينات.

صلاح عباس ذاته، يعاني من ذلك الانقسام العائلي، ومن خلافه مع أخيه عادل عباس، حين يتعرض لموقف مشابه لذاك الذي تعرضت له ريما، وحين تُقتل أخته نوال عباس على أيدي مسلحين مجهولين. وعندما يرى صلاح صورة بشار الأسد في خيمة العزاء، يطلب من والده إزالة الصورة : «هو وأزلامه من قتل أختي وأنت تضع صورته في عزائها؟»، فيقول والده: «من قتل أختك هم معارضوه، الإرهابيون الذين تدافع عنهم». وحين يهدد صلاح والده : «إن لم ترفع هذه الصورة من خيمة العزاء لن أحضر عزاء أختي»، ليرد عليه أبوه : «أفضل أن يبقى هو على أن تبقى أنت».

أما أبو الليث السني من بعلبة، وأبو جعفر العلوي من الزهرة، فعلاقتهما معتّقة، «تشبه تلك العلاقة القديمة كنبيذ معتّق بين أطياف السوريين»، وهي تستمر على رغم الاقتتال والتحريض الطائفي، إلى أن ينجح النظام بتحويل الثورة إلى حرب طائفية، كما يقول أبو الليث متحدثاً عن مقتل السائق وليد: «كيف سأقنع شبابنا ألا يأخذوا بالثأر؟! ...ثأر وراء ثأر، موت وراء موت، وسنجد أنفسنا في حرب شعواء لا نعرف نهايتها».

ومنذ ذلك اليوم، حين يطالع أبو جعفر ثلاث جثث، بينها جثة الشاب جعفر، المعفّر بالتراب والدم، «تنقطع العلاقة، تلك التي عمرها سنوات طويلة، بين الرجلين، أبي جعفر وأبي الليث، تماماً كما انقطعت الدروب التي تصل بين حارتيهما.

رواية «الذين مسهم السحر» هي رواية توثيقية تخييلية، توحي للقارئ بداية بأنها تتحدث عن شخصيات حقيقية، لكنّ هذا ليس بعيداً من هدف الرواية، فهي وإن لجأت إلى اختراع أسماء روائية محضة، تبدو شخصياتها موجودة في كل مكان في سوريا اليوم، في مثل هذا التنوع والتعدد والانقسام والانفصال والكراهية، وبعض الحب والأمل... انها شخصيات تحاول العيش والعمل، بانتظار العثور على «وطن مؤجل إلى زمن آخر للحب».

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)