الذكرى المئوية الاولى لوفاة الأديب والروائي والمؤرخ والصحفي اللبناني جرجي زيدان

, بقلم محمد بكري


تمر اليوم 21 تموز/يوليو 2014 الذكرى المئوية الاولى لوفاة الأديب والروائي والمؤرخ والصحفي اللبناني جرجي زيدان (1861-1914) مؤسس مجلة الهلال التي مازالت تصدر حتى اليوم.

نقدم فيما يلي بعض ما كتب بهذه المناسبة في الصحف العربية.


 رائد تنويري أثارت أفكاره جدلاً نهضوياً


الإثنين، ٢ يونيو/ حزيران ٢٠١٤
جريدة الحياة
كرم الحلو


جريدة الحياة


في احدى عشيات تموز (يوليو) عام 1914 سقط المؤرخ والأديب والروائي جرجي زيدان بين أوراقه وأقلامه فيما هو يسابق الزمن في انجاز أبحاثه الادبية ورواياته التاريخية الضخمة، فرثاه كبار الشعراء من امثال احمد شوقي وحافظ ابراهيم وخليل مطران.

ولد جرجي زيدان في بيروت عام 1861 بعد الفتنة الطائفية التي زلزلت لبنان عام 1860، وكان نموذجاً للعصامي الذي شق طريقه في عالم الفكر والأدب بإرادة صلبة وهمة عالية على رغم ظروفه الصعبة. فقد كان ابوه حبيب رجلاً أمياً يمتلك مطعماً في ساحة البرج في بيروت يتردد عليه رجال الادب واللغة وطلاب الكلية السورية الانجيلية – الجامعة الاميركية اليوم. تعلم زيدان اللغة الانكليزية في مدرسة مسائية، وعمل لمدة عامين في صناعة الاحذية، ثم تركها ليساعد أباه في ادارة المطعم، حيث احتك برجال الصحافة وأهل الادب والفكر مثل يعقوب صروف وفارس نمر وابراهيم اليازجي وسليم البستاني، وكان هؤلاء يدعونه لحضور احتفالات الكلية السورية الانجيلية فقرر الالتحاق بها لدراسة الطب، ولكنه ما لبث أن تحول بعد اقل من عام الى الصيدلة.

وبعدما ألقى ادون لويس الاستاذ في الكلية عام 1882 محاضرة اشاد فيها بمذهب داروين في النشوء والارتقاء، عمدت الكلية الى فصله فتضامن معه بعض الطلاب وعلى رأسهم جرجي زيدان الذي تعرض للطرد، فاضطر للهجرة الى القاهرة مستديناً لهذه الغاية ستة جنيهات من احد اقربائه. لكنه لم يستطع متابعة دراسة الطب هناك، فعمل في جريدة «الزمان» ثم في مكتب البعثة البريطانية في القاهرة، بحيث سافر مع الحملة الانكليزية الى السودان عام 1884. بعدها عاد الى بيروت حيث درس العبرية والسريانية. ثم زار انكلترا وفرنسا وسويسرا وعاد الى مصر منقطعاً الى التأليف والصحافة، فأدار مجلة «المقتطف» مدة من الزمن.

ولم يلبث ان اصدر عام 1892 مجلة «الهلال» التي كان يقوم بتحريرها بنفسه، لتصبح في ما بعد اوسع المجلات انتشاراً. وقد كتب فيها زيدان مقالات تنم عن سعة اطلاعه على كتب اوروبية في العلم والتاريخ والاجتماع والادب يصعب حصرها على حد تعبير نازك سابا يارد في «الرحالون العرب وحضارة الغرب». من هذه الكتب «سر تقدم الانكليز الساكسونيين» لديمولان و«العوامل الاخلاقية في تكوين الامم» لغوستاف لبون، و«الجمهورية» لأفلاطون، فضلاً عن مؤلفات توماس مور وفورييه وسان سيمون وماركس وباكون وفنلون وديماس ووالتر سكوت.

كتب جرجي زيدان في التاريخ فأصدر «العرب قبل الاسلام» و«تاريخ التمدن الاسلامي» و«تراجم مشاهير الشرق» وغيرها، وكتب في اللغة وآدابها فأصدر «تاريخ آداب اللغة العربية» وغيره، وأصدر سلسلة روايات تاريخ الاسلام ومنها «فتاة غسان» و«عذراء قريش» و«الحجاج بن يوسف» و«فتح الاندلس» و«الامين والمأمون» و«صلاح الدين الايوبي» و«فتاة القيروان» و«شجرة الدر» و«المملوك الشارد» وغيرها. وقد ترجمت رواياته الى الفارسية والتركية والاذربيجانية وترجمت ست روايات منها أخيراً الى الانكليزية. اراد زيدان من خلال رواياته ان يقدم للقارئ العربي بأسلوب ادبي مشوق، مزيداً من المعرفة بماضي الحضارة العربية والاسلامية وخصوصاً بالشخصيات النسائية القوية مثل شجرة الدر.

وكان على حد تعبير ألبرت حوراني «واحداً من اكثر الذين عملوا على إحياء وعي العرب بماضيهم بكتاباته التاريخية المباشرة او سلسلة رواياته الادبية التي نهج فيها منهج الكاتب الانكليزي والتر سكوت، ورسم على غراره لوحة رومنطيقية عن الماضي».

في كتابه «تاريخ التمدن الاسلامي»، تناول زيدان احوال العرب منذ الجاهلية الى العصر العباسي من النواحي الادارية والعلمية والسياسية والاقتصادية، واستعرض تاريخ آداب اللغة العربية من شعر ونثر وأدب منذ العصر الجاهلي حتى القرن العشرين، داعياً في كتاباته الى اصلاح احوالنا الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن ترقية اخلاقنا لأنها سبب اساس في نهضة الامة او سقوطها. وقد شدد دائماً على معرفة الحقيقة وتجريدها من الاوهام، إن في الدين او في العادات والتقاليد والمعاملات السياسية. ويبرز الحس العروبي عند زيدان اذ يرفض الفكرة القائمة على استبدال العامية بالفصحى ويحض على تأييد اللغة العربية لأنها قوام الامة العربية.

هذا كله جعل مارون عبود يصنف زيدان من الرواد الاركان، فقد اعتبر في «رواد النهضة الحديثة» روايات زيدان التاريخية ارقى فناً من روايات سليم البستاني، وإن لم تكن في المستوى القصصي الرفيع. كما رأى انه اول من فصّل كتابة «تاريخ الادب العربي» على «هنداز» الكتب الاوروبية، فقسم عصوره على غرار تاريخ الادب الانكليزي، ما يؤكد ان «لزيدان فضلاً جزيلاً على النهضة الحديثة، وأنه من اركانها الكبار، فقد علم الناس تاريخهم وسلاّهم في وقت معاً».

وفي رأي المستشرق الروسي الكبير ز.ل. ليفين ان جرجي زيدان هو مؤسس الروايات التاريخية في الادب العربي الحديث، وأن كتاباته المستمدة من تاريخ العصور الوسطى العربية، تتميز باتجاه تنويري واضح وبهدف تربوي هو ابراز انتصار الخير والعدالة والتنوير على قوى الشر والجهل. وهو يلجأ الى التاريخ العربي، شاجباً الطغيان ومؤيداً النضال ضد الاستبداد الإقطاعي في كل مظاهره، بكل ما أُوتي من قوة.

اما بروكلمان فيقول «إنّ روايات زيدان وكتبه التاريخية يعود الفضل اليها في تعريف العالم العربي للمرة الاولى بأساليب البحث الاوروبي ونتائجه على رغم ما فيها من اخطاء».

ويذهب بعض الباحثين من دون إثبات او توثيق الى ان جرجي زيدان هو اول من نبّه الى الخطر الصهيوني على الامة العربية في مجلته «الهلال» خلافاً لما أورده ألبرت حوراني في «الفكر العربي في عصر النهضة» من أن نجيب العازوري هو اول من حذر من مطامع اليهود في فلسطين، في كتابه «يقظة الامة العربية» عام 1905.

وعلى رغم كل هذا الدور الريادي الذي اضطلع به وكل انجازاته الباهرة في الصحافة والرواية والادب والتاريخ، لم يسلم جرجي زيدان من الافتراء والتجريح والانتقادات المسيئة والظالمة. فاتهم بالمشاركة في المنظمة الماسونية مع يعقوب صروف وفارس نمر وشبلي الشميل وغيرهم من الطوالع الاولى لمعاهد الارساليات. وكانت له في رأي رشيد رضا مواقف مع الاتحاديين العثمانيين، فقد «زار الاستانة ولقي فيها بعض زعماء «جمعية الاتحاد والترقي» ثم عاد متشبعاً بالنهضة التركية مستنكراً مجاراة العرب لإخوانهم الترك بالقيام بنهضة عربية مستصوباً خطة الاتحاديين الاولى في تتريك العناصر وإدغام العرب في الترك، وقد كتب في «الهلال» ما يشعر بهذه النزعة فهاج ما كتبه جماعات فتيان العرب في الاستانة وسورية، وكانوا يحملون عليه في الصحف». واتهم زيدان كذلك بالتسرع في تأليف كتبه وكتابة مقالاته ودانه بعضهم بتحقير الامة العربية وإبداء مساوئها، وبأنه تعمّد الكذب والخيانة في النقل والاستشهاد بمصادر غير موثوقة.

في المقابل، عدّ بعضهم كتاب زيدان «تاريخ التمدن الاسلامي» ثورة في التاريخ الاسلامي الحديث ومن اهم مصنفاته، وبعضهم اعتبر الكاتب من اوائل الاصوات الصارخة في براري العرب منذراً ومحذراً في مرحلة مبكرة من اغراض الصهيونية في فلسطين، لكنّ احداً في ذلك الوقت لم يأخذ تحذيراته مأخذ الجد، فيما نظر اليه البعض «نظرة ملؤها الارتياب والشك بسبب هويته الدينية». إلا ان قسماً اكبر ارجع الى الرجل حقه وفضله في السنوات الاخيرة، بحيث قررت «دار الهلال» عام 2004 اعادة إصدار رواياته في تاريخ الاسلام التي كتبها لمواجهة التشويه المتعمد للتاريخ العربي. وكما صرح محمد الشافعي رئيس تحرير الدار: «تتضمن اعمال زيدان كثيراً من الاسئلة المهمة التي تواجه العرب والمسلمين في الوقت الراهن الذي يتهمنا فيه الغرب بالارهاب والتطرف، في حين اكد زيدان المسيحي المستنير في رواياته مدى تسامح الحضارة الاسلامية».

عن موقع جريدة الحياة



 جرجي زيدان رائد التمثيل السردي للتاريخ


الإثنين، ٢ يونيو/ حزيران ٢٠١٤
جريدة الحياة
عبدالله إبراهيم


جريدة الحياة


أصدر جورجي زيدان (1861-1914) ثلاثاً وعشرين رواية في غضون ثلاثة وعشرين عاماً. بدأ تلك السلسلة الطويلة بـ «المملوك الشارد» في عام 1891، وختمها بـ «شجرة الدر» في عام وفاته. وكان يمخض قدراته كل شهر لإشباع حاجة مجلة «الهلال» إلى درجة أنه لم يكن يعرف من رواياته التي يكتبها إلاَ خطوطها العامة، فهي أمشاج تتركب في لحظة الكتابة، فلا غرابة أن تفتقر للتماسك السردي، وتغيب عنها الحبكات المُحكمة، ولا تعرف الشخصيات النامية إنما النمطية؛ فالغاية منها تمثيل التاريخ سردياً برؤية تقوم على ثنائية الخير والشر، وليس ابتكار الأحداث والشخصيات على وفق مقتضيات الصناعة السردية الحديثة.

ظهرت تاريخيات زيدان لتقدم أول سلسلة شبه متكاملة، تقوم على تمثيل سردي تاريخي للأحداث العربية-الإسلامية منذ العصر الجاهلي إلى الانقلاب العثماني في نهاية العقد الأول من القرن العشرين، وعلى رغم أن العمر لم يسعف المؤلف بإكمال السلسلة، فظلت بعض العصور من دون تغطية، إلا أنه كان يعلن باستمرار أنه في سبيله لإعادة تفريغ التاريخ العربي-الإسلامي من مظانه الكبرى وتقديمه مبسطاً ومتتالياً.

بعد أن أتم سبع روايات تاريخية وجد زيدان أنه من اللازم عليه تقديم تفسير لطبيعة الكتابة التاريخية-السردية لديه، وبذلك استنبط القانون العام الذي سار عليه، جاء ذلك في عام 1902 ضمن المقدمة المهمة التي وضعها كمدخل لرواية «الحَجاج بن يوسفَ الثقفي»، وبين فيها تصوره لمجموعة من القضايا، ومنها وظيفة الرواية التاريخية عنده، ووظيفتها عند الكتاب الأوروبيين، ووظيفة الحكاية الفنية داخل النص، وأخيراً كشف النقطة الأساس في كل مشروعه الروائي، وهي عد رواياته مرجعاً، شأنها شأن كتب التاريخ، فقال: «رأينا بالاختبار أنَ نشر التاريخ على أسلوب الرواية أفضل وسيلة لترغيب الناس في مطالعته، والاستزادة منه، وخصوصاً لأننا نتوخى جهدنا في أن يكون التاريخ حاكماً على الرواية لا هي عليه، كما فعل بعض كتبة الإفرنج. وفيهم مَن جعل غرضه الأول تأليف الرواية، وإنما جاء بالحقائق التاريخية لإلباس الرواية ثوب الحقيقة، فجره ذلك إلى التساهل في سرد الحوادث التاريخية بما يضل القراء. وأما نحن فالعمدة في روايتنا على التاريخ، وإنما نأتي بحوادث الرواية تشويقاً للمطالعين. فتبقى الحوادث التاريخية على حالها، ندمج فيها قصة غرامية، تشوق المطالع إلى استتمام قراءتها، فيصح الاعتماد على ما يجيء في هذه الروايات من حوادث التاريخ مثل الاعتماد على أي كتاب من كتب التاريخ من حيثُ الزمان والمكان والأشخاص، إلا ما تقتضيه القصة من التوسع في الوصف مما لا تأثير له على الحقيقة».

التبست الفوارق في ذهن زيدان بين التاريخ باعتباره وثيقة لإثبات الحقائق، والسرد بوصفه وسيلة لتشكيل الأحداث المتخيلة، وكان إحساسه بتلك الفوارق باهتاً، فلم يظن أنه بوساطة السرد سينزلق ترتيب الأحداث ودلالتها إلى سياق غير سياقها، وإعادة تشكيلها لن يحافظ على أبعادها الموضوعية أو شبه الموضوعية، فانتهى به عمله إلى الانقسام على نفسه. ففي الوقت الذي أراد فيه أن يجعل «التاريخ حاكماً على الرواية لا هي عليه كما فعل بعض كَتبة الإفرنج»، لم يألُ جهداً في بث المواعظ الاعتبارية المتعددة الأبعاد والأغراض في تضاعيف رواياته، وبذلك كان يستخلص عبرة من أحداث التاريخ الذي غادر ميدانه كسلسلة من الوقائع المتضافرة، وأعيد تركيبه ليكون مصدر عظة، في حين كان يريده أن يكون مرجعاً.

لكن زيدان سرعان ما قام بتعديل الوظيفة الخاصة بالرواية التاريخية كما فهمها وكتبها، وبدا في تعديله أقل تشدداً مما صرح به من قبل، حينما قال: «لا نريد بالرواية التاريخية أن تكون حجة ثقة يرجع إليها في تحقيق الحوادث وتمحيص الحقائق، ولكننا نريد أن تمثل التاريخ تمثيلاً إجمالياً بما يتخلله من أحوال الهيئة الاجتماعية (المجتمع) على أسلوب لا يستطيعه التاريخ المجرد إذا صبر الناس على مطالعته. فإذا جردت روايتنا من عبارات الحب ونحوه كانت تاريخاً مدققاً يصح الاعتماد عليه، والوثوق به، والرجوع إليه، وإن كنا لا نطلب الثقة بها إلى هذا الحد، وإنما نعرف لها مزية هي تشويق العامة لمطالعة التواريخ باطلاعهم على بعضها على سبيل الفكاهة».

وذهب زيدان إلى أكثر من ذلك حينما فصل وظيفة الرواية التاريخية بشكل عام، فقال: «بالروايات التاريخية نهيئ الناس لمطالعة التواريخ، وإن يكن في تأليف الرواية من المشقة أضعاف ما في تأليف التاريخ مع ظهور فضل مؤلف التاريخ أكثر من ظهور فضل مؤلف الرواية، ولكن غرضنا الفائدة العامة وأقرب الطرق إليها من حيثُ التاريخ الطريقة القصصية التي نحن سائرون فيها. زد على ذلك أن لهذه الطريقة في نشر التاريخ مزية لا تتأتى لنا في التواريخ المحضة، نعني بها تمثيل الوقائع التاريخية تمثيلاً يشخص تلك الوقائع تشخيصاً يقرب من الحقيقة، تتأثر منه النفس فيبقى أثره في الحافظة، فضلاً عما يتخلل ذلك من بسط عادات الناس وأخلاقهم وآدابهم، مما لا يتأتى بغير أسلوب الرواية إلا تكلفاً».

اهتدى زيدان، في تاريخياته، بالموروث السردي القديم الذي جهزه بالنسق الدلالي العام القائم على الاستقطاب الثنائي المتضاد بين الفضائل المطلقة والرذائل المطلقة، فهو يضع شخصياته في منازعة أخلاقية أولية قوامها مناصرة الخير ومعاداة الشر، ويفصلها على أساس الطبائع الثابتة، ولا يدخل تغييراً يذكر عليها إلى النهاية، إذ تظهر وتختفي وهي حاملة لطبائعها القارة، فكأن الخير والشر ليسا مفهومين زمنيين، إنما هما طبعان لهما ثبات مطلق. ولم يسمح بالتحول من هذا إلى ذاك، فشخصياته نماذج مقفلة في مسارين لا تخرج عنهما؛ لأنَ التداخل والتحول سيفسد ثبات النسق الأخلاقي.

أضفى الانقسام الدلالي والحكائي، أي الانقسام الخاص بالقيم والآخر الخاص بالمناوبة بين المادة التاريخية والتخيلية، نسقية ثابتة على روايات زيدان، فكان مثار نقد تقدم به نخبة من الدارسين، منهم «المازني» الذي قال: «إن الحكاية عند جورجي زيدان مشوشة مضطربة؛ لأنه لم يتولها بروية، ولم يتعهدها بنظر وتدبر... وهو لا يحلل أخلاق أبطاله، ولا يشرح لك شخصياتهم... ولم يعنَ بتمييزهم، كما لم يعنَ بالقصة (الحكاية) ولم يعنَ باللغة». ثم شوقي ضيف الذي رأى أن رواياته ليست روايات بالمعنى الدقيق «إنما هي تاريخ قصصي تدمج فيه حكاية غرامية، وهو تاريخ يحافظ فيه الكاتب على الأحداث من دون أي تعديل، ومن دون أي تحليل للمواقف والعواطف الإنسانية». وسهيل إدريس الذي فصل الأمر بوضوح أكثر، مبيناً مظاهر الضعف المتوطن فيها، لأن «تحليل نفسيات الأبطال يكاد يكون معدوماً، فهو يبدأ بإعطاء صفات الشخصيات التي تقوم بالأدوار الرئيسية، وهي صفات عامة لا يراعى فيها الشعور البشري المتقلب، وإنما يحتفظون بأخلاقهم وعاداتهم إلى النهاية، ثم إنه يحرص على وصف جميع أبطاله، وكشف الستار عن شخصياتهم وصفاتهم بحيث إن حس المفاجأة لدى القارئ يصاب بضربة، فيتنبأ بكل شيء ويزهد بالقراءة. ثم إنَ تعليقات المؤلف وعظاته ودروسه تبدو نابية في سياق السرد، من غير أن تشرح شيئاً».

انصرفت هذه الملاحظات الانتقادية إلى المظهر السردي لروايات زيدان، ولكنها لم تحجب التقريظ الواضح للمظهر الأسلوبي فيها، فقد وصفه رشيد يوسف عطا الله وهو من معاصريه، بأنه «كان يرسل لفظه مسوقاً للمعنى المطلوب، من دون تكلف أو صنعة»، فيما أكد مارون عبود أنه «كان يرسل عبارته على السليقة بلا تكلف ولا تصنع». وكل هذا سيفضي بنا إلى القول بأن كل رواياته إنما هي تنويع محدود لحبكة واحدة، ولا يقود تغير نوع الأحداث وزمانها ومكانها وشخصياتها إلى تغيير في نظام العلاقات السردية في ما بينهما، فهنالك نسق تكراري مغلق في البناء والدلالة. إذ تظهر الشخصيات حاملة لأفكار وملامحَ وأفعال لا تعرف التغير، وهي تصور منذ البدء على أنها أنموذج فكري وأخلاقي، وليس إنسانياً. وكل الأحداث إنما تُنضد لدعم خصائص النموذج فتجعله في تضاد مع أنموذج مناقض.

لاقت السلسلة التاريخية التي كتبها زيدان صدى طيباً لدى المتلقي، وظلت لمدة طويلة تحظى بالاهتمام، وامتصت رحيق الموضوع التاريخي، فانتهت بها الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث، والمحاولات التي جاءت بعد ذلك ظلت إلى حد بعيد تدور في الأفق البنيوي والدلالي لها، لأنها ظهرت تلبية لحاجة أخلاقية وثقافية تريد نوعاً من معرفة الماضي، وبتوافر البدائل انحسرت الظاهرة نفسها؛ لأنها غيرت ترتيب المكونات، فبدل أن تتحرر من قيد المادة الوثائقية، فتجعلها مرجعية للتفسير والفهم، جعلتها الهدف الأول، وذلك أمر لا يستقيم مع التمثيل السردي بدلالته الفنية، فكان أن جرى تحديث لوظيفة الرواية التاريخية، ومادتها السردية، فاتخذت منحى جديداً يشمله مصطلح «التخيل التاريخي» وليس «الرواية التاريخية».

*خلاصة بحث بالعنوان نفسه قدم في مؤتمر»جورجي زيدان: الماضي في عهدة الحاضر» الذي أقامته أخيراً جامعة البلمند في لبنان بين 15-17 /5/2014

عن موقع جريدة الحياة



 روائي لا يستحق «القتل»


الإثنين، ٢ يونيو/ حزيران ٢٠١٤
جريدة الحياة
عبده وازن


جريدة الحياة


كان جرجي زيدان روائي الصفوف المدرسية المتوسطة. رواياته التاريخية كانت مدرجة في لائحة كتب المطالعة التي لا بد من قراءتها للتمكن من الإنشاء العربي والتمرس في أسراره. وكانت هذه الروايات تجذب التلامذة بما تحمل من قصص حب عذري غالباً ما يشوبها مقدار من التشويق في الأحداث المسرودة بسلاسة وبساطة تامة، بعيداً من التعقيد والحبك المحكم. وكانت لغته تجري كالماء، نضرة والقة، ولكن على متانة وقوة. كان صاحب «المملوك الشارد» يكتب برخاء وارتياح، لا يتكلف ولا يصطنع وكانت اللغة تسلس له وتسخى عليه.

في الذكرى المئة لوفاة جرجي زيدان التي بدأت القاهرة وبيروت الاحتفال بها، أتذكر أنني لم أُعد قراءة رواياته التاريخية الشهيرة منذ أكثر من ثلاثين عاماً، مع أنني أذكر جيداً كيف قرأته بشغف ومتعة، روائياً ولغوياً، مثله مثل سائر كتاب جيله من لبنانيين ومصريين. هذه الروايات التي كنت أملك معظمها ضاعت، ومن أعماله لم يبق لديّ سوى كتابه الرائد «تاريخ آداب اللــغة العربية» بأجزائه الأربعة. وهذا الكتاب غالباً ما أعود إلـــيه بحثاً عن معــــلومة أو عن لحظات من القراءة الممتعة. هذا كتاب لا يمـــكن الاستـغناء عـــنه، حتى خارج الدراسة الأكاديمية والنقد. كتاب فــريد بما يحوي من فوائد جمة، تاريخية وأدبية، ناهيك باللغة الزيدانية التي باتت نادرة في زمن النقد الراهن. غير أن كتب هذا العلامة النهضوي لا تقتصر على هذا الكتاب الضخم ولا على رواياته، فهو كان موسوعياً ومغزاراً وخصباً، على رغم عمره القصير الذي لم يتعدّ الثالثة والخمسين، ومتعدد الشواغل والهموم، وقد كتب في التاريخ وفلسفة التاريخ، وفـــي فن الســـيرة، وفــي اللــغة العـــربية والأدب الــعربي على اختلاف مشاربه، وتطرق إلى علم الاجتماع والفلسفة والرواية، ناهيك عن الصحافة التي كان في طليعة صانعيها النهضويين. وله من المؤلفات ما لا يزال يعدّ مرجعاً يعاد إليه اليوم نظراً إلى رسوخه المعرفي.

كان جرجي زيدان أول من أرسى قواعد السرد التاريخي في مفهومه الجديد. قرأ الروائي الإسكتلندي ولتر سكوت (1771-1832) على ما بدا، وتأثر به. ومثلما وضع سكوت نظريته الروائية التاريخية في مقدمة روايته الشهيرة «إيفانويه» سعى زيدان إلى وضع ما يشبه النظرية في مقدمة روايته «الحجاج بن يوسف». وهذه المقدمة تمثل رؤية زيدان إلى الفن الروائي التاريخي، وهي رؤية أضحت قديمة قدم روايات زيدان نفسها. فالرواية التاريخية بنظره إنما تكتب لتهيّئ القراء ليطالعوا التاريخ، وهي تهدف تالياً الى «تمثيل التاريخ» كما يقول، فيكون التاريخ «حاكماً» عليها لا هي عليه، على غرار ما فعل بعض الروائيين الغربيين، كما يعبر أيضاً. أما ولتر سكوت فهو هدف في روايته التاريخية إلى الجمع بين الشخصيات الواقعية والمتخيلة ليضعها في سياق تاريخي ويجعلها تحيا في قلب الأحداث الكبرى التي تعدّ بمثابة محطات رئيسة في تاريخ البلاد أو الأمة.

رغب جرجي زيدان في استعادة التاريخ الإسلامي عبر حقباته المتعددة ليعاود كتابته روائياً ويحييه سردياً وثقافياً، ولكن في طريقة لا تخلو من المتعة والتشويق. شاء أن يجعل من التاريخ مادة للقراءة الممتعة و»المسلية» إن جاز التعبير. ولعل نظرية الناقد جورج لوكاتش التي وضعها في كتابه «الرواية التاريخية» لا تنطبق البتة على صنيع زيدان، ومفادها أن من يكتب الرواية التاريخية يجب عليه أن يلتفت إلى التاريخ من خلال الحاضر وقضاياه، والرواية لا تكون تاريخية إن لم تحمل هموم الزمن الذي تُكتب فيه، وشواغله وقضاياه. لم يهتم زيدان بـ «مساءلة» التاريخ وقراءته عبر الواقع الراهن بمقدار ما كان همه استعادة التاريخ سردياً، وجعله في متناول القراء كما هو. فقراءة التاريخ حاجة ملحة في مسار الأمم ولا بد من الأمانة في سرده.

استعرت بعض روايات جرجي زيدان أخيراً لأتصفحها وأقرأ مقاطع منها وشعرت أنني عاجز عن قراءتها كاملة كما فعلت أيام الدراسة المتوسطة على رغم حبي الدائم للغته الفريدة. إنها فعلاً روايات مدرسية، روايات تخاطب التلميذ كما تخاطب القارئ العادي الباحث عن لحظة تاريخية ممتعة. أصبحت هذه الروايات الأمينة على التاريخ والشاهدة له، من شغل الماضي. لــكنّ مـاضـويتها لا تعني موتها بتاتاً، بل على العكس.

قيل مرة إن أمين معلوف هو خير من ورث جرجي زيدان. هذا حكم قابل للنقاش كثيراً. قد يكون زيدان جد معلوف، لكنه الجد الذي تخطاه الحفيد أشواطاً. لكنه يظل الجد الذي وضع أولى مداميك الرواية التاريخية العربية وفتح الطريق امام كل من جاء بعده. جدّ يستحق الحياة لا التجاهل أو التناسي ولا القتل على طريقة فرويد.

عن موقع جريدة الحياة



 جرجي زيدان (1861 - 1914) مؤسس النهضة العلمية في الشرق


السبت ٢٤ أغسطس / آب ٢٠١٣
جريدة الحياة
علي عفيفي علي غازي، كاتب مصري


جريدة الحياة


فقيد الأدب العربي في الشرق، مؤسس نهضته العلمية، مؤسس مجلة «الهلال»، ومؤلف العديد من الكتب التي تداولتها الأيدي في الشرق والغرب، بل أجمع المثقفون على أنها خير ما ألف باللغة العربية في القرن التاسع عشر، حيث كتب في التاريخ الإسلامي كتبه في شكل روايات كانت لها ضجة كبرى في الأدب العربي، وترجمها الغربيون والشرقيون إلى لغاتهم، وبذلك رفع شأن الأدب العربي.

ولد جرجي زيدان في مدينة بيروت في 14 كانون الأول عام 1861، وتلقى مبادئ العلوم في بعض مدارسها الابتدائية، اضطرته الظروف لمغادرة المدرسة صغيراً لمساعدة والده في أشغاله، وهو لم يبلغ الثانية عشرة من عمره، وكان في خلال أشغاله لا يترك فرصة من دون أن يستفيد منها بمطالعة ما تصل إليه يده من الكتب، ودرس الإنكليزية في مدة خمسة أشهر في إحدى المدارس الليلية مع مزاولة عمله طوال نهاره وبعض ليله.

في عام 1881 صحّت عزيمته على ترك شغله وطلب العلم، فلاح له أن الطب خير وسيله تقربه من العلم وتساعده على الكسب، فدرس العلوم الإعدادية كلها على أحد أصدقائه بمدة لا تتجاوز الشهرين ونصف الشهر، ولما حان أوان افتتاح المدرسة تقدم للامتحان واجتازه بنجاح باهر، واجتاز السنة الأولى الطبية بتفوق على أقرانه، ولما وافت السنة الثانية عاد إلى المدرسة، وبعد مرور شهرين حدث اضطراب واختلال في الكلية الأميركية أفضى إلى خروج معظم تلاميذها ومن بينهم جرجي زيدان، وبعد خروجه قدم امتحاناً في فن الصيدلة مع بعض رفاقه أمام لجنة من أشهر أطباء سورية كان بينهم مراد بك حكيم باشي العسكرية، والدكتور فانديك الشهير فأحرز الشهادة بالعلوم الآتية: اللغة اللاتينية والطبيعيات والحيوان والنبات والجيولوجيا والكيمياء العضوية والمعدنية والتحليل الكيميائي والمواد الطبية.

وهاجر بعد ذلك إلى مصر لتكملة الطب في مدرسة القصر العيني، ولكنه عدل عن ذلك واشتغل بالعلم وتولى تحرير جريدة «الزمان»، وهي إذ ذاك الجريدة اليومية الوحيدة في القاهرة، ولبث يحررها مدة سنة إلى أن كانت الحملة النيلية إلى السودان عام 1886 لإنقاذ غوردون باشا، فسار برفقتها مترجماً بقلم المخابرات فقضى في هذه الوظيفة عشرة أشهر حضر في خلالها المواقع الحربية كلها، وكوفئ على شجاعته وإخلاصه في الخدمة بثلاثة أوسمة. ولما عاد من الحملة سافر إلى بيروت عام 1885 لطلب العلم فمكث عشرة أشهر يدرس اللغات الشرقية مثل العبرانية والسريانية، ووضع على إثر ذلك كتابه في الألفاظ العربية والفلسفة اللغوية وانتدبه المجمع العلمي الشرقي عضواً عاملاً.

وفي صيف عام 1886 زار لندن، وتردد فيها على أندية العلم ودور الآثار، لا سيما المتحف البريطاني الشهير، ثم عاد إلى مصر، حيث تولى إدارة أشغال مجلة «المقتطف»، لبث في هذه الوظيفة حتى أوائل عام 1888 حيث استقال وانصرف إلى الكتابة والتأليف، فألف «تاريخ مصر الحديث» في جزءين ضخمين، و «تاريخ الماسونية العام» وغيرهما.

وفي أواخر عام 1889 تولى إدارة تدريس اللغة العربية في المدرسة العبيدية الشهيرة، ولبث في هذه الوظيفة مدة سنتين، ثم تركها وأنشأ مطبعة صغيرة، وانصرف إلى الكتابة والتأليف، ثم أصدر مجلة «الهلال» في أواخر عام 1892 وكان في أول نشأته يتولى كل شؤونها بنفسه من إدارة وتحرير ومكاتبات حتى إنه كان بنفسه يغلفها ويلصق طوابع البريد، ولما اتسع نطاقها عهد بإدارتها إلى شقيقه متري أفندي زيدان، ورحل رحلات عدة إلى الأستانة وأوروبا وفلسطين، وأنشأ مكتبة الهلال الشهيرة، وعهد إدارتها إلى شقيقه إبراهيم أفندي زيدان.

وفي مساء الثلثاء 21 آب (أغسطس) 1914 وافته المنية فجأة عند الساعة الحادية عشرة ليلاً، ولم يكن يشكو علة ولا أصيب بمرض، وكانت جنازته عظيمة تليق بعلمه وأدبه وفضله وسمو مكانته، اشتركت فيها الحكومة المصرية ورجالها، وجماهير لا يحصى عددها من مختلف الطوائف، وبعد أربعين يوماً من وفاته أقيم له حفل تأبين أبّنه فيها كبار الشعراء والخطباء، وعددوا فيها مناقبه الغراء وذكروا الخسارة الجسيمة التي أصابت الشرق بوفاته.

كان جرجي زيدان تلوح على وجهه معالم الذكاء والهمة والنشاط، يشع من عينيه الضوء والفطنة، ولا تفارق الابتسامة ثغره، وجمع إلى سمو المكانة والجلال البساطة والتواضع، فكان لا يأنف من مجالسه من هو دونه، وكان أنيس المحضر لطيف المعشر يجتذب إليه محدثيه بقوة، كان يجلس تقريباً عصر كل يوم في قهوة الشانزيليزية بالفجالة، وينضم إلى مجلسه الشيخ إبراهيم اليازجي وسليمان البستاني، وفريق من الشعراء والأدباء أمثال خليل مطران وغيره، فكان مجلسه علمياً أدبياً راقياً، من يرتاده يجد أطيب الأحاديث وألذ المسامرات.

كان يُجيد تسع لغات قراءة وكتابة، وكانت له مراسلات مع أكثر مستشرقي أوروبا وأميركا، وكان عضواً في جمعيات علمية وشرقية عدة منها الجمعية الآسيوية الإيطالية والإنكليزية والفرنسية، منحه باي تونس نيشان الافتخار من الدرجة الأولى فضلاً عن أوسمة حرب السودان، وأنعم عليه خديوي مصر برتبة التمايز الرفيعة، ومنحته الكلية السورية - الأميركية في بيروت لقب شرف من ألقابها العلمية.

وأصدر «الهلال» مدة اثنتين وعشرين سنة انتشرت خلالها انتشاراً عظيماً لم يعهد له مثيل بين الصحف والمجلات العربية، وكان يطرق فيها المواضيع الشيقة التي تستلفت الأنظار وتثير علمية فكرية في النفوس.

كانت أسرة زيدان في بيروت من الأسر العاملة النشيطة التي تكسب رزقها بعرق جبينها، ولما استقر في مصر، استدعى أخوته واحداً تلو الآخر، فعهد إلى متري أفندي إدارة «الهلال»، وأحضر أخوه يوسف أفندي واشتغل بخياطة الملابس وتجارة الأجواخ، واستدعى شقيقه إبراهيم أفندي وعهد إليه بإدارة مكتبة «الهلال»، فسار بها في مضمار الرقي التدريجي حتى أصبحت المكتبة الأولى ليس في مصر فقط بل في جميع أنحاء الشرق، ولم تكتف بنشر مطبوعات جرجي زيدان صاحب «الهلال» بل إنها طبعت مؤلفات الكتاب المبرزين والمؤلفين النوابغ وغيرهم، وولدت مكتبة «الهلال» مكتبتين أخريين هما مكتبة زيدان العمومية لصاحبها الأديب حبيب أفندي نجل الأديب متري أفندي زيدان، ومكتبة الضياء لصاحبها الأديب ميشيل أفندي رحال، فكان تأثير جرجي زيدان على أسرته، أن دربهم على الأعمال الحرة وبث فيهم روح النشاط والإقدام والاستقامة والحزم والعزم.

وأنجب نجلين أصبحا كوكبين لامعين في سماء الفضل والفخر بل غرتين في جبين الدهر هما أميل أفندي وشكري اللذان شمرا عن ساعد الجد والهمة وبما أوتياه من فضل غزير وعلم وفير وفطنة وذكاء سارا في مضمار العلم سيراً مطرداً مقروناً بالنجاح مؤيداً بالفلاح فوسعا نطاق «الهلال» وجعلاها مضماراً تتجارى فيه جياد الأفكار ولم يقفا عند هذا الحد بل إنهما أنشأ مطبعة كبرى لا نظير لها في مصر، وأصدرا مجلات: «المصور»، و «كل شيء»، و «الفكاهة»، وهي مبتكرات في اللغة العربية جاريا فيها أكبر دور الطباعة في أوروبا وأميركا، واقتفيا في عملهما خطوات والدهما في السير بالعمل بهمة ونشاط وفخر.

هذه لمحة موجزة عن جرجي بك زيدان، ذلك الرجل العصامي العبقري الذي ظهر صغيراً ومات كبيراً وخلّد له ذكراً حميداً في قلوب الناطقين بالضاد وغيرهم مقروناً بالاحترام والإجلال والوقار.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.



 روايات جورجي زيدان...قيم تقدمية في عصور الإسلام الذهبية


موقع قنطرة للحوار مع العالم الإسلامي
24-3-2013
مارسيا لينكس كويلي


موقع قنطرة للحوار مع العالم الإسلامي


في رواياته التاريخية الميسرة والمسلية، التي لم يقم أحد لمدة قرن من الزمان بترجمتها إلى الإنكليزية، أراد الكاتب اللبناني جرجي زيدان أن يقدم للقارئ العربي مزيداً من المعرفة بماضي الحضارة العربية وخاصة بالشخصيات النسائية القوية من أمثال شجرة الدر. وفي السنتين الماضيتين تُرجِمَت ست روايات منها إلى الإنكليزية، ليجد القارئ الغربي أنها تجسد قيماً مألوفة لديه كما تبين لنا: مارسيا لينكس كويلي.

كاد جورج زيدان يقضي حياته بأكملها دون أن يقرأ رواية واحدة من الروايات الشهيرة لجده المؤلف جُرجي زيدان. فالحفيد كان منشغلاً طوال حياته بأشياء أخرى. ففي البدء كان مشغولاً بدراسته الجامعية والعمل في دار النشر الخاصة بعائلته، وبعد ذلك بوظيفته في البنك الدولي.

ورغم أن الاثنتين وعشرين رواية لجرجي زيدان هي جزء مهم من تاريخ العائلة، إلا أن حفيده جورج، الذي ولد بعد خمسة وعشرين عاماً من وفاة الجد، كان منصرفاً إلى أشياء أخرى. فقط في عام 2009 بدأ الحفيد جورج، بناءً على اقتراح من زوجته، بقراءة روايات جده.

والسعادة التي غمرته بعد قراءتها تشبه سعادة آلاف القراء العرب في يومنا هذا من المعجبين إعجاباً كبيراً بروايات جرجي زيدان ـ إعجاب يشبه إعجاب القارئ الإنكليزي بروايات روبرت لويس ستيفنسون والقارئ الفرنسي بروايات ألكسندر دوما. لذا قرر الحفيد جورج أن يترجم بعض روايات جده إلى اللغة الإنكليزية.

طريقة عيش أوروبية

ولد المؤلف والمربي والناشر الاستثنائي جرجي زيدان (1861- 1914) لدى عائلة لبنانية فقيرة في بيروت، وتعلم القراءة والكتابة في سن صغير. ولكنه اضطر إلى ترك المدرسة من أجل أن يساعد والده الذي كان أمياً في إدارة حسابات مطعمه في بيروت.

وقد كان تعليم الفتى جرجي نقطة خلاف دام سنين طويلة لدى عائلة زيدان. فأمه كانت تريد أن يكمل الفتى دراسته، أما أبوه فقد كان يقول، كما ورد في سيرة ذاتية لجرجي زيدان لم تُنشر بعد، أن التعليم سيحول ابنه إلى شخص يتبع “عادات الغرب ويأكل بالشوكة والسكين وربما يرتدي أيضاً الملابس الغربية”.

وبالفعل استقى جرجي زيدان بعض الأفكار من الثقافة الغربية وارتدى أيضاً الملابس الغربية. وقد قام لاحقاً في سعيه من أجل نهضة ثقافية عربية بدمج أفكار أوروبية وعربية. ويقول الناقد أوريت باشكين عن روايات زيدان، إنها “تشير إلى استحالة اعتبار الشرق والغرب كيانين منفصلين”.

تجسد هذه الروايات كثيراً من القيم المعروفة لدى القارئ الغربي، ولكن أحداثها تجري في أزمنة أخرى كعصر الحكم الإسلامي في الأندلس، أو العصر الذهبي للإسلام أو في زمن أول حاكمة مسلمة في التاريخ.

وبالرغم من أن زيدان كان قد اضطر إلى ترك الدراسة لعدة أعوام، إلا أنه عاد إليها بحماس كبير، وقـُبل في كلية الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت، و لكنه سرعان ما اضطر إلى تركها مجدداً.

فقد قاد زيدان حركة احتجاجات طلابية، احتجاجاً على إقالة غير عادلة لأستاذ في الجامعة. وبعدها أغلقت الجامعة لمدة عام، فسافر جرجي زيدان إلى مصر لإكمال دراسة الطب هناك.

هنا تنتهي السيرة الذاتية التي كتبها زيدان ولم ينشرها، إذ إنه لم يكمل كتابتها حين وصل إلى أكثر النقاط تشويقاً فيها، وهو ما فعله أيضاً في كثير من رواياته.

لم يُقبَل جرجي زيدان وصديق له لدراسة الطب في مصر، وبغض النظر عن السبب، بدأ زيدان بالعمل صحفياً في القاهرة وأسس مجلة دار الهلال هناك، ونشر فيها أفكاره الإصلاحية ورواياته بشكل متسلسل.

ولم تلقَ هذه الروايات آنذاك فقط إعجاب الكثير من المثقفين والأدباء المعروفين مثل طه حسيين، بل وكذلك إعجاب الكثير من المواطنين العاديين. غير أن الأكاديميين تجاهلوا روايات زيدان عندما بدأوا بصياغة تاريخ الرواية العربية.

ويقول روجر ألن، الخبير في تاريخ الأدب العربي وأحد رياديي ترجمة أعمال جرجي زيدان: “لقد التقيت بجورج زيدان (الحفيد) قبل خمسة أعوام، وهو قال لي إن روايات جده قد تم تجاهلها بالفعل عندما كان تاريخ الرواية العربية في طور الصياغة”.

فقد كان علماء الأدب العربي لمدة طويلة يصرفون النظر عن الروايات التاريخية، وهذا أدى، كما يقول الخبير ألن، إلى تقليل فادح من شأن أعمال جرجي زيدان وذلك سواء من قبل المترجمين أو علماء الأدب.

ولكن وبعد هزيمة عام 1967، بدأ المثقفون والعلماء بإعادة النظر في كثير من الأشياء، ومنذ ذلك الحين بدأ الاهتمام بروايات جرجي زيدان يزداد. روجر ألن معجب بشكل خاص بكتب زيدان، لأنها “سهلة القراءة، كما أن ترجمتها ممتعة جداً. إنها بشكل عام كتب رائعة”.

ومع أن حفيد المؤلف، جورج زيدان، كان قادراً على التعامل مع دور نشر تقليدية، إلا أنه قرر نشر روايات جده المترجمة بنفسه، باستثناء كتاب واحد. هذا القرار نبع من إيمانه بأنه بهذه الطريقة سيظل مسيطراً على هذا المشروع.

كما أن ذلك يسمح له بأن “يكمل من خلال هذه الترجمة رسالة جرجي زيدان التثقيفية، وذلك عن طريق إرفاق مواد تسهل دراسة هذه الروايات وإضافة تقييم أكاديمي لها في بعض الحالات”.

تفاصيل تاريخية دقيقة

واقتداءً بجده، يُعنى جورج زيدان جداً بدقة تفاصيل الأحداث التاريخية التي ترد في روايات جرجي زيدان. وهذا ما يؤكده خبير الأدب العربي روجر ألن، ويضيف :"كلما ركزت في بحوثاتي على الأحداث التاريخية في روايات زيدان، أجد أن كل تفاصيلها صحيحة وأنها وقعت فعلا. حتى قصة الحب".

لكن هذه الروايات تبدو اليوم من وجهة نظر القارئ المعاصر وكأنها قديمة، وتحمل طابع نصوص توجيهية، وفيها أيضاً بعض من الحذلقة فيما يخص العلاقة بين الرجل والمرأة.

ولكن بغض النظر عن هذا فإن حبكة الروايات ممتعة وقراءتها مسلية. ولذا فإنه من الغريب أن أحداً لم يترجمها إلى الإنكليزية حتى الآن، رغم أنها كانت قد ترجمت إلى بعض اللغات الأوروبية والآسيوية.

ويعزي روجر ألن السبب في هذا إلى أن معظم الترجمات الأدبية من العربية إلى الإنكليزية جرت ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأن أغلب أعمال الترجمة حتى الآن نتجت عن علاقة معرفة شخصية بين المؤلف والمترجم. ويضيف ألن: “باحثو الأدب العربي في الغرب كانوا مهتمين بالواقعية الاجتماعية في الروايات أكثر من التعامل مع الأحداث التاريخية فيها”.

قبل فترة وجيزة، فازت ترجمة رواية “شجرة الدر” لجرجي زيدان إلى الإنكليزية بجائزة، وتم نشرها في دار نشر جامعة سيراكوس. وتقول المترجمة سماح سليم أنها عملت سنين طويلة على هذه الرواية التي أصبحت من كتبها المفضلة.

وتضيف المترجمة: “أحب الطريقة التي يربط فيها زيدان السياسة بالمؤامرات الجنسية والحقائق التاريخية والشخصيات القوية، وخصوصاً الشخصيات النسائية”.

حكاية الرواية العربية يتم الآن سردها من جديد، كما يقول خبير الأدب العربي روجر ألن، ويقتبس المؤلف الإيرلندي الشهير أوسكار وايلد: “واجبنا الوحيد تجاه التاريخ هو إعادة كتابته”، ويضيف ألن على ذلك: “وهذا ينطبق على كل شيء وبالأخص على تاريخ الرواية العربية”.

مارسيا لينكس كويلي
ترجمة : نادر الصراص
تحرير : علي المخلافي
حقوق النشر : قنطرة 2013

عن موقع قنطرة للحوار مع العالم الإسلامي


قنطرة للحوار مع العالم الإسلامي موقع فضاء إعلامي إلكتروني رصين ينشر مقالاته منذ عام 2003 باللغات العربية والألمانية والإنجليزية ويدعم الحوار البناء والانفتاح على الآخر والتواصل المثمر بين الثقافات والحضارات من أجل التأسيس لثقافة إنسانوية كونية. لقراءة المزيد عن قنطرة.



 مقالات أخرى منشورة على موقعنا


موقع اللغة والثقافة العربية



سيرة حياة جرجي زيدان باللغة العربية من ويكيبيديا

عن الصورة المرفقة بهذا المقال

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)