الذئاب لا تنسى، لينا هويان الحسن (سورية)، رواية دار الآداب - الطبعة الأولى 2016

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الخميس، ٢١ أبريل/ نيسان ٢٠١٦
جريدة الحياة
مايا الحاج


لينا هويان الحسن تبكي بعويل «ذئبة»


ليست الصحراء في روايات لينا هويان الحسن فضاءً جغرافياً تلتقي فيه الشخصيات لتنطلق نحو أقدارها ومساراتها المتشعبة، بل إنها تيمة متجددة تلتقطها بعينها الأنثوية لتُسجّل تفاصيل الحياة البدوية «الخفية» عن كل من لا ينتمي إليها. ولا يأتي فعل الانتماء هنا عبثاً، لأنّ الصحراء المتدثرة برمالٍ وكثبانٍ ومساحات قاحلة تظلّ محصنة، فلا تتراءى بوجهها الحقيقي الساحر إلّا أمام أبنائها.

من السحر والتنجيم إلى الحبّ والثأر فالمغامرة والترحال، كتبت الحسن عن باديتها في روايات عدة، منها «سلطانات الرمل»، «بنات نعش»، «ألماس ونساء»، «البحث عن الصقر غنّام» (للفتيان)، حتى ليظنّ القارئ أنّ الكاتبة «البدوية» ستدير ظهرها إلى بيئتها الصحراوية بعدما استهلكت موضوعاتها المختلفة. إلّا أنّها أثبتت العكس في رواية جديدة تستحضر فيها عالم الصحراء، بدءاً من العنوان الرئيس «الذئاب لا تنسى» (دار الآداب).

يسير الخطّ الدرامي في رواية الحسن بين «المدينة» و«البادية»، عبر رحلة إلى قريةٍ على تخوم بادية حماه، حيث مدفن الشقيق المقتول، ياسر. وبموازاة هذه الحركة المكانية، تشهد الرواية حركة في الزمان بين واقعٍ راهن (الحرب السورية) وزمنٍ ماضٍ (طفولة في البادية الرحبة). وليس جديداً على الكاتبة، وريثة الحياة البدوية المتقلبة، أن تتحرّك في المكان، وهي التي أُهديت في عيد ميلادها درباً شقّها لها عمها باسمها، بدلاً من أن تكون هديتها لعبة أو علبة شوكولاته، على غرار سائر بنات المدن في سنّها. وليس مستغرباً أن تتمسّك بماضٍ محفوظ في ذاكرة البدوي لعلّها تحقّق عودة مشتهاة إلى «الجذور»، في ظلّ حياة من السفر والترحال الدائمين. «هنالك بشر مفطورون على النسيان وتسطيح الأشياء والأحداث والأماكن، بينما أنا فُطرتُ على التذكّر، على اجترار الحزن». (ص160).

الغائب

تُمسك الكاتبة بطرف السرد عبر تداعي ذاكرتها في سياق محادثة داخلية تتوجّه فيها إلى ذاتها مرّة، وإلى ياسر مرّات أخرى. تنطلق الراوية في رحلة بـ«البولمان»، على طريق دمشق- حمص، برفقة شقيقيها، وائل ومرام. لكنّ الغائب بينهم ظلّ هو الأقوى حضوراً على امتداد الرحلتين، الزمنية والمكانية. فكان ياسر هو الموجود في ذكريات الكاتبة وفي أحلام شقيقتها وفي دموع أمها وصمت والدها وعزلة زوجته وأسئلة أطفاله...

«ياسر مات»، من هذه الجملة الخبرية المقتصدة تنطلق أحداث الرواية. فالفاجعة لا تحتمل كلاماً وتفسيرات. إمّا ذهول أو صراخ. لكنّ الكاتبة اختارت الاحتمال الثاني: «صرخت وصرخت وصرخت» (ص19) حتى أعادها صراخها إلى عواء ذئبة سمعته في طفولتها، إثر فقدانها وليدها، فظلّ صدى صوتها يسكن أذنيها طوال ثلاثين عاماً. «الذئبة تعوي وتُعلن أنها موجودة، وحزنها موجود، ولا تنسى ولا تصفح... تعوي كبطلة خرافية مرسوم قدرها سلفاً، مكبّلة بمصير مكتوب سلفاً» (ص54). تتجدّد صورة «الذئبة» في أنين أمّها المفجوعة و «عويلها»، وفي «عواءات» مديدة وصاخبة كنحيب الأسر السورية المحزونة: «كلّ السوريين يبكون. لا استثناءات. البكاء قدرنا» (ص24).

ولأنّ الحياة في الصحراء جعلتها تُدرك أنّ «الدروب» التي تُشق في الذاكرة لن تُمحى، فإننا نلتمس تماهياً بين «الكاتبة» وبين «الذئبة». فالذئاب ليست وحدها من لا ينسى، بل إنّ ذاكرة السكّان الرحّل هي دائماً ذاكرة متينة وعميقة، ربما تعويضاً عن غياب التجذّر في المكان. هكذا تغدو «الذئبة»، بحزنها وعويلها، معادلاً «وحشياً» للإنسان المتألم، وإن كانت «الذئاب» أكثر آدمية أحياناً من الإنسان: «الذئاب لا تنسى. أيضاً لا تخون بعضها. الخيانة ميزتنا نحن البشر. الخيانات لنا» (ص13).

وعلى رغم أنّ «الذئبة» (البطلة) تُشكّل في مكانٍ ما قرين الكاتبة، بـ «وعيها» المنفرد المستقلّ (على طريقة فرويد) وبـ «لاوعيها» الجماعي أيضاً (على طريقة يونغ)، فإنّها تستذكر أيضاً كائنات البادية الأخرى ممن عايشتها وراقبتها وتبعتها، هي وشقيقها ياسر، في طفولتهما. فتعترف بأنّ البدو «تعلموا تكنيكاتهم اليومية من الحيوانات التي حولهم». من الأسود والنمور ضرورة الهجوم بدلاً من البقاء في موقع الدفاع، ومن الثعلب استخدام الخدع والحيل لبلوغ الهدف، ومن الغزالة سرعة التنقّل وعدم الالتفات إلى الوراء، ومن الصقور فنّ الصمت والهدوء...

قد تكون لينا هويان الحسن قرأت كتاب «نساء يركضن مع الذئاب» للأميركية- المكسيكية كلاريسا بانكولا بترجمته العربية عن المركز القومي للترجمة، وربما لا، إلّا أننا في كلتا الحالتين نلتمس فكرة مشتركة تقضي باستخراج قوتنا الأنثوية الحقيقية عبر العودة إلى طبيعتنا الأصلية وإطلاق طاقاتنا المبدعة التي طمستها مظاهر «التمدّن». ويتجلّى ذلك في نصٍ تقول فيه الكاتبة الأميركية: «المرأة والذئبة ترتبطان بعلاقة قرابة، كلتاهما فضوليتان تتمتعان بقدر عظيم من الإخلاص والتفاني والإدراك الداخلي والمشاعر العميقة تجاه صغارهما. وكذلك تتوافر لهما خبرة التكيف مع الظروف المتغيرة والشجاعة الفائقة والثبات بقوة على الموقف».

رحلة الأحزان

يتقصّى القارئ رحلة الأشقاء لينا ومرام ووائل وهم يشقّون دربهم بين قوافل «المحزونين». الخوف يتملّك الركّاب، مع أنّ جميعهم اتخذوا الاحتياطات اللازمة. ارتدت الكاتبة حجاباً وعباءة مع نظارتين، درءاً لمخاطر قد يتسبّب بها سفورها عند نقاط التفتيش التابعة لمسلحين متطرفين. تشعر فوق رعبها وحزنها بأنها مكبلة في ملابس لم تعتد أن ترتديها. تراقب العالم الكابوسي من خلف نظارتيها السوداوين. الموت يرتسم على الطرقات وفي وجوه الناس وملابسهم. لذا فإنها تهرب من حاضرها المحاصر بالخوف والفقد إلى ماضٍ سعيد قضته برفقة شقيقها ياسر، المشاكس، الوسيم، الضحوك، عاشق الصيد والتقليد وسماع الأساطير.

وفي عودتها إلى زمن الطفولة، تلجأ هويان إلى المخزون التراثي في صوره الموروثة، فتُقدّم المرأة نموذجاً للأصالة الإنسانية وحالةً تحوي داخلها كل قوى الطبيعة والحدس. فتحكي عن «فريال» المبدعة في سرد الحكايات والقصص، وعن «ونسة» الأيزيدية الجميلة التي قُتلت بعدما تزوجت من خارج بيئتها، وعن خاتون عمشة التي سمعت عنها أخباراً كثيرة، هي التي أُلقي بجثتها في الآبار الرومانية القديمة. فالموت لم يكتب نهاية تلك النسوة اللواتي تمرّدن بلا خوف من سلطة «العشيرة» وذكورها.

«الذئاب لا تنسى» تموج بين الرواية وسيرة الذات والمكان، تكتبها لينا بمستويين من اللغة، تقريرية - توثيقية مرة (عن نساء البادية مثلاً) وشعرية مؤثرة مرات (عن ياسر). إذن تتداخل ذكريات الراوية عن شقيقها المقتول «ظُلماً»، بذكرياتها عن البادية، كأنما تاريخ عائلتها لا ينفصل عن تاريخ باديتها، تماماً كما أنّ مأساتها «الشخصية» لا تنفصل عن مأساة وطنها، سورية.

ياسر، شقيق الكاتبة، من ضحايا المحرقة السورية الكبيرة. قُتل بذنب أنّه موظف دولة. وما حزن عائلته عليه سوى قصة «منسوخة» من آلاف القصص المحزنة في سورية. لكنّ شقيقته اختارت أن توثقها، لا لكي تُدين قاتلاً (كلّهم مجرمون آثمون) أو تحتفل به شهيداً (الجميع قتلى بالمجان)، إنما رغبةً منها في التحرّر من قهرها، من حزنها الأبدي.

تختتم هويان روايتها في بيروت حيث ترتشف قهوتها وتكتب بينما ينهمر المطر غزيراً. تختار «الورقة» درباً جديداً تشقها لتسير فيها بلا خوف وريبة. تتخذها أرضاً جديدة تقتل فيها «وحوش التذكّر» لعلها تشفى من حزنها الدفين. تكتب روايتها عن ياسر بينما يتردّد في أذنها صوت خالها وهو ينادي صقره «غنّام». وأيّ روحٍ تحتمل ذاكرة متخمة بالحزن والفقد. فقدان الأخ والوطن والأمن والسلام؟

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)