تراث

الديبلوماسيون في الدولة الإسلامية

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ٢٦ أبريل/ نيسان ٢٠١٤
جريدة الحياة
أنيس الأبيض


لم تعرف الدولة الإسلامية وكذلك جيرانها من الأمم التمثيل السياسي بما هو شائع اليوم من حيث إعداد دور سفارات دائمة في شتى عواصم البلاد، وإنما كان السفراء المسلمون أشبه بما نعرفه اليوم بالسفراء فوق العادة الذين يوفدون في مهمات رسمية، وينتهي تمثيلهم الديبلوماسي بانتهاء العمل الذي يوفدون من أجله مثل عقد معاهدة، أو إجراء نداء أو حضور حفلة زفاف أو تهنئة بتولي العرش.

أما اختيار السفراء المسلمين فكان يتم وفق أدق القواعد التي لا تختلف عن النظم التي تتبعها الدول الحديثة اليوم عند تعيين سفرائها. فالسفير الإسلامي كان يمثل الخليفة، أو الملك يفاوض عنه ويبرم العقود والمعاهدات نيابة عنه.

وترتبط عملية اختيار الديبلوماسيين المسلمين مباشرة بالخلفاء الذين يقومون بأنفسهم باختيار المرشحين للسفارة، وذلك بعد الإجراءات الأولية التي يقوم بها الموظفون المختصون بالسلك الديبلوماسي السياسي.

وكان في الدولة الإسلامية ديوان يسمى ديوان الرسائل ويختص بالمكاتبات مع الملوك وغيرهم من رؤساء الدول المجاورة للدولة الإسلامية. وقام كاتب الرسائل في العصر الأموي والعباسي بالتمهيد لاختيار السفراء وإعداد الكتب التي يحملونها.

وإلى جانب الاختبارات التي أجراها الخلفاء والمختصون لانتقاء السفراء، فإنهم تطلّبوا في السفراء صفات مهمة ما زالت تلعب دوراً رئيسياً إلى اليوم عند اختيار السفراء في الدولة الحديثة.

وأولى تلك الصفات التي اهتمت بها الدولة الإسلامية هي الصفات الجسمانية التي جعلوا لها المكان الأول فقال رجال الديبلوماسية الإسلامية إنه «يستحب في الرسول تمام القد وامتداد الطول وعبالة الجسم، فلا يكون قميئاً أو ضئيلاً، وأن يكون جهير الصوت وسيماً لا تقتحمه العيون ولا تزدريه النواظر».

وأكثر أقطاب الديبلوماسية الإسلامية أهمية الصفات الجسمانية، على رغم ما يتحلى به السفير من الفصاحة وقوة الجنان، لأن تلك المواهب الأخيرة لا تظهر لأول وهلة، فقالوا: «وإن كان المرء بأصغريه» فخبؤاً تحت لسانه ولكن الصورة تسبق اللسان والجثمان يستر الجنان».

«وينبغي أن يجمل السفير بكل ما أمكن، لأنّ العامة ترمق الزي أكثر مما ترمق الكفاية. ثم إنّ أعين الملوك تسبق إلى ذوي الرداء من الرسل، وتطلب ذلك من سفرائها لئلا ينقص اختيارها خطاً من خطوط الكمال. لذا، لا بد من أن يكون السفير وسيماً جسيماً مملأ العيون المتشوقة إليه فلا تقتحمه «يشرف على تلك الحلق المتصدية له فلا تستصغره».

هكذا، تنبّهت الدولة الإسلامية إلى ذلك العامل النفسي، وأدركت أهميته عند اختيار سفرائها، فالمعروف أنّ العناية بالمظهر الخارجي من الجسامة والوسامة والقسامة والتجمل بأحسن الزي وألطفه ذات أثر كبير في نفوس الرائين.

واستلفت نظر أباطرة الروم ما كان عليه سفراء الدولة الإسلامية من مهابة في الجسم وأبهة في المظهر، فحدث أن أرسل الخليفة المعتصم بالله سفيراً إلى البلاط البيزنطي في القسطنطينية، وعندما رأى الإمبراطور هيبة السفير وكثرة تجمّله وما صاحبه في رحلته من مظاهر العظمة والثراء، قال للسفير: كم ترزق من مال سلطانك؟

قال السفير: أرتزق أنا وولدي في كل شهر عشرين ألف درهم أو نحوها... عندئذ قال الإمبراطور للسفير: لا بد أنك حصلت على هذا العطاء بسبب خدمة جليلة قدمتها للخليفة، كأن تكون قتلت عدواً خطيراً له، أو فتحت له إقليماً شاسعاً حافلاً بالخيرات.

فقال السفير: لم أفعل شيئاً من هذا قط.

فقال الإمبراطور: فبأي شيء تستحق هذا الرزق الكثير؟

فقال السفير: إنّ للخلفاء خدماً يتصرفون في أنحاء المملكة لكل طائفة منهم مهماتهم، فمنهم من يعدّ للفتوح فهو يلبس السلاح ويقود الجيوش، ومنهم من يعدّ للقضاء فهو يلبس القلنسوة، ومنهم مثلي من يصلح أن توفده الخلفاء للملوك، ويحمل رسائلهم إلى مثلك من أهل الجلالة والقدر والثناء والذكر، ولذا كان لا بدّ من اختيار الشخص الذي يكون أهلاً لهذه المهمة الرفيعة الشأن.

وقد أعجب الإمبراطور بلباقة هذا السفير الإسلامي وحسن مظهره.

وإلى جانب الصفات الجسمانية التي اشترطتها الدولة الإسلامية في سفرائها، صفات خلقية قلّ أن تتوافر جميعاً لرجل واحد، حتى إذا ما تجمعت لإنسان صار جديراً بالسفارة، وأن يمثل رأس الدولة في الخارج، ومن تلك الصفات الخلقية أن يكون السفير على درجة كبيرة من نفاذ الرأي وحصافة العقل تجعله يستنبط غوامض الأمور، ويستبين دقائق الصواب، ويستشف سرائر القلوب، ويأتي عمله عن بيّنة، ويدع ما لا يستحب عمله عن خبرة.

وقد راعت الدولة الإسلامية أن يتحلى السفير كذلك بالحصافة: «ليعجب السامع بطلاوة حديثه وبسحره وبحلاوة لسانه ويفتنه بخلابة لفظه، ثم ليكون كلامه ممتعاً أنيقا نافعاً لذّاً في الاستماع فإن للبيان من السحر ما لا ينكر وإن له في التوصل إلى البغية ما هو معروف».

ولا بد إلى جانب الفصاحة من ذكاء القلب والقدرة على فهم «الإيماء» حتى يدرك السفير حجة خصمه قبل النطق بها، ويستطيع أن يبرم ما نقض، وينقض ما أبرم، ويفعل ذلك كله بطبع لا تكلف فيه، لأنّ المتكلف أسرع الناس إلى الفضيحة، وعندئذ يسهل عليه أن يحتال في محاوراته ومكايده حتى يبلغ مراده.

وينبغي ألا يخلو السفير من جرأة وإقدام، لأنّ الجرأة أكبر جنة من المخاوف، وأقوى معين على النجاة، وأضمن سبيل لبلوغ الهدف. كما يحتاج السفير إلى الكثير من الحلم وكظم الغيظ مثل ما يحتاج إلى الصبر.

وقد فطنت الدولة الإسلامية إلى أمرين لهما شأن كبير في التعليمات التي زودت بها سفراءها:

الأول: أنها حذَّرت السفير إذا بلغ أرض المرسل إليه من شرب الخمر، لأنّ الخمر تفضح شاربها في أغلب الأحايين، وتطّلع على ما في نفسه من الأسرار، وألا يميل إلى النساء، لأنّ للنساء حيلاً بارعات يستخرجن بها الأخبار.

الأمر الثاني: أنّ الدولة الإسلامية أوصت سفراءها بعدم التدخل في شؤون المرسل إليه من أمور مملكته، وأن لا يحرّش الملك على الرعية، أو يتصل بشخصيات مشتبه في أمرها لدى سلطان الدولة المرسل إليه.

وساعدت هذه الصفات الخلقية الرفيعة على إيجاد طبقة ممتازة من السفراء المسلمين الذين كانوا عنواناً كريماً على سمو الدولة الإسلامية وتعاليمها الديبلوماسية الجيدة. وعجز حكام الدول الذين قابلوا السفراء المسلمين على التأثير بهم، أو خداعهم بالخمر والنساء. كما وجدوا منهم رجالاً على جانب كبير من الأدب الجم والروح الخفيفة الظل.

على أنّ الصفات الجسمية والخلقية لم تكن كل شيء خاص بمؤهلات السفير، وإنما أضيفت إليها الثقافة العامة التي تجنّب السفير من الزلل في قوله، وتقويه في محاوراته ومحادثاته، ولم يكن يطلب من السفير التدقيق في تحصيل كل علم، وإنما الهدف أن يكون له إلمام بكل علم بحيث يمكنه أن يتكلم به إذا ما اضطر إليه.

وأبلغ تعبير عن هذا المعنى قول الشُعيبي للخليفة الأموي عبدالملك بن مروان الذي اختاره سفيراً: «العلم أكثر من أن يحصى، فخذ من كل شيء أحسنه».

وكانت الثقافة العامة السائدة في تلك الأيام هي معرفة الأمور الدينية كالفرائض والسنن وأحكام القرآن. وهناك الأدب وما إليه من رواية الشعر وما يتبعه من جودة البيان. وهناك أصول الخراج، ثم السير والتواريخ التي توسع الأفق العلمي.

وجمعت الدولة الإسلامية تلك الشروط في هذه العبارة للسفير: «ينبغي أن يجمع الفرائض والسنن والأحكام والسير ليحتذي مثال من سلف في ما يورده ويصدره، وأن يعلم أصول الخراج وسائر الأعمال ليناظر كلاً بحسب ما يراه من صوابه وخطئه».

وأخيراً لاحظت الدولة الإسلامية أهمية النسب عند اختيار السفراء ففضلت السفير ذا المُحتد الكريم والأصل النبيل على غيره. إذ رأت في اختيار أصحاب الأصل العريق للسفارات سبيلاً للسلوك الحسن.

وقد جاء في شروط الدولة الإسلامية لاختيار السفير ما يأتي: «وليكن من أهل الشرف والبيوتات، فإنه لا بد مقتف آثار أوليته محبب لمناقبها مساوٍ لأهله فيها»

ولا شك في أنّ تلك الصفات من جسمه وخلقه وثقافته ومن الأصل العريق، قلّما تجتمع لشخص واحد، ما أدى إلى تشكيل السفارة في كثير من الأحوال من أكثر من شخص بحيث تكمل مواهب الواحد منهم مواهب الآخر، وكان يتولى رئاسة السفارة أكثر الأعضاء تحققاً للصفات السالف ذكرها وفي بعض الأحيان كان شخص واحد يبعث بالسفارة إذا توافرت فيه الشروط التي تتطلبها المهمة الموفد من أجلها.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عن الصورة المرفقة بالمقال

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)