الحكايات العجائبية في السرد العربي القديم نبيل حمدي - الهيئة المصرية العامة للكتاب - 2018

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
السبت 2018/12/08 - السنة 41 العدد 11193
الصفحة : ثقافة
ممدوح فرّاج النّابي - كاتب مصري


كتب سبقت “ألف ليلة وليلة” وفاقتها أهمية


نبيل حمدي الشاهد يكشف من خلال كتابه عن قدرة هائلة لتوظيف ممكنات السرد والتقنيات والآليات التي دشنها الراوي الشعبي لشحذ وجذب جمهوره من المتلقين.


شخصيات ملحمية أكثر منها درامية


فرضت حكايات “ألف ليلة وليلة” سطوتها على القرّاء من مختلف شعوب العالم، بما أثارته من قصص وحكايات مثيرة، وعجيبة في آنٍ واحدٍ، وامتدت سطوتها إلى حقل الدراسات النقدية، حيث أضحى “النص الألفليلي” حجرة عثرة أمام بقية النصوص التراثية، كما استقطب جهود الباحثين في التراث العربي، وسدّ الطريق أمام غيره من نصوص سردية، لا تقل أهمية عنه في ما أورده من حكايات ترتبط بالخارق والمعجز والعجائبي.

يأتي كتاب “الحكايات العجائبية في السرد العربي القديم” لنبيل حمدي الشاهد، ليفتح المجال أمام نصوص أخرى غير “ألف ليلة وليلة” تكشف عن ثراء العقلية العربية، وارتقاء المخيّلة إلى آفاق رحبة في التخييل، ومن جانب آخر يكشف عن قدرة هائلة لتوظيف ممكنات السرد والتقنيات والآليات التي دشنها الراوي الشعبي لشحذ وجذب جمهوره من المتلقين.

اختبار المقولات السردية للبنيويين من أمثال رولان بارت وتزيفتان تودوروف وغيرهما على الكتب التراثية، واحدة من الظواهر التي اشتغلت عليها المدونة النقدية العربية، ومن ثم فالمؤلف يختبر هذه الإجراءات على كتابين من التراث العربي القصصي، أولهما هو كتاب “مئة ليلة وليلة”، وثانيهما “الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة”.

يحوي كتاب “مئة ليلة وليلة” على ثلاث وعشرين حكاية، وإن كان الكتاب بقي مخطوطا لعدة قرون كما يذكر المؤلف إلى أن اكتشفه قودفروا ديموميين المستشرق الفرنسي ونشره لأوّل مرة عام 1911، أما النص العربي من المخطوطة فلم ينشر إلا عام 2005 بعد أن قام التونسي محمود طرشونة بتحقيقه. ويمتاز الكتاب بخصوصية تاريخيّة تضعه في موضع سابق لكتاب ألف ليلة وليلة، بل يُعد النواة التي تطورت ليبزغ منها النص الكبير. أما كتاب “الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة” فقد دونت حكاياته في القرن السابع الهجري.

طرائق السرد

يكشف المؤلف، وهو يختبر المقولات التي أفرزتها السرديات الحديثة، عن جماليات التشكيل لهذه الحكايات التي تمتد لأزمنة قديمة، فيتوقف عند الاستهلال باعتباره عنصرا يؤسس لظهور الوظائف، ويفتح به الراوي خبيئة الحكاية ومن ثم يفرّق بين الاستهلال الخارجي الذي هو بمثابة بنية مفصولة عن بنية الحكاية الأصلية، وهو ما يجعله أشبه بمطلع طللي في القصيدة الجاهلية، فيسند الرّاوي الحكاية إلى الغير بحيل تظهر عبر استخدامه لصيغ أفعال من نحو “قال ـ بلغني ـ ذكروا ـ حكى ـ حدثني”. أما الاستهلال الداخلي فهو الذي ينسجم في بنية الحكاية ليوطئ لها تتابع الأفعال القصصيّة.

قد لا يختلف حضور الراوي في الحكايات الشعبية عن الحكايات الرسميّة، فالراوي يأتي بكافة صيغه، فهو تارة راوٍ غائب يأتي في الاستهلال لتدشين الحكاية ثم يتوارى ويفسح الباب للراوي الخارجي ليستكمل مهمّة الروي، وحضوره ماثل عبر هذه التمثلات: روى، ذكر/ أخبرنا / دعموا / حُكي…” وإن كان الراوي الخارجي يعتمد على تغييب هذا الراوي لينفرد هو ذاته بصيغة الحكي المعلن.

في بنية النص العجائبي الأحداث تقتصر على عدد محدود من الشخصيات فيما ينفرد البطل بالاهتمام الأكبر

وتكشف الدراسة أن النص الحكائي الخرافي يتسم بتعدد الحكايات وتشعبها فيه. ومن ثم يعتمد على آلية التضمين لتوسيع المدار الحكائي أمام المروي له، وهو ما يستلزم تعدّد الرّواة. كما يكشف الراوي بتدخلاته السوسيو-ثقافية عمّا يتبناه من توجهات أيديولوجية تحمل قيمه الفكرية في المجتمع.

فمثلا لا يرى الرّاوي من خلال تصوّره الشعبي وطبقا لمنظومة القيم السائدة في المجتمع سوى الدين الإسلامي دينا وحيدا وواحدا للمجتمع، فلا أثر للدين اليهودي، وبالنسبة إلى الدين المسيحي فحضوره باهت يتمثّل في أسماء الشخصيات. كما تبدو عنصرية الراوي في نظرته إلى الإنسان لا بوصفه إنسانا وإنما من ناحية عرقه ودينه، ومن ثم نرى كما يقول المؤلف نظرته المتدنّية للأسود والتي تصل إلى تحقيره وإهانته ووصفه بأبشع الصفات حتى يبدو السود وكأنهم جواميس. كما أنه يقارن بين العبد الأسود والخيانة.

أما بالنسبة للمروي فحضوره في الكتابين اللذين درسهما حمدي الشاهد طاغ، حيث يتموقع في موقع مرئيّ ويحضر باسمه وشخصه وكينونته، بل يأخذ حضوره صيغ الأمر على نحو “حدثني يا سهل، هات حديثك ما قصتك.. إلخ”. وهذا الحضور يتأتى لما توليه الكتابات الشفاهية من دور مؤثّر للمروي لهم حيث هم الجمهور الحقيقي للحكاية، وبهم يُنمّى السرد ويدفع إلى الأمام أي بمثابة التحفيز السردي. بل بإمكانه إيقافه إن لم تكن لديه قابلية للسماع، وعلى النقيض إذا سعد وهنأ بالحكاية، فإنه يرضى عن الراوي ولا يبخل عليه بالإنعام والمكافأة. وأحيانا يستخدم نفوذه لاستكمال الحكاية وإخراج ما لدى الراوي من سرد.

تنبّه الدراسة إلى الآليات التي اعتمد عليها الراوي داخل السرد، كآلية الإطار بما تحققه من توالد سردي بإدخال قصة في قصة، وهي آلية شفاهية في الأصل تعتمد على السماع. وتلي هذا الإطار الرحمي الذي يحيط بالحكايات إحاطة تامة، كما أنه يوفر البيئة المناسبة لنمو الحكاية.

وهناك الوظيفة التنسيقيّة وهي الوظيفة الأكثر أهمية في عملية بناء النص، فيعدُّ الإطار علامة نصيّة دالة على بداية الحكايات ونهاياتها، وأخيرا الإطار المشيمي، وهو إطار فرعي يتوسط بين الإطار الرحمي من أعلى والحكاية المفردة من أسفل ومن وظائفه التوكيد، التلهية حيث تعدّ المتعة الغاية الرئيسية لهذه الحكايات. ومن الآليات المهمّة في السّرد وتناميه الصدفة، حيث يتخذها الراوي وسيلة ليخلّص نفسه من عناء إقامة ترابط سببي ومنطقي للأحداث.

رحلات في أزمنة المجهول على أجنحة الخرافةرحلات في أزمنة المجهول على أجنحة الخرافة

الحكي العجائبي

من سمات النص العجائبي أن تقديم الأحداث يقتصر على عدد محدود من الشخصيات، وعلى قلتها ينفرد البطل بالحظ الأوفر من الاهتمام والمتابعة، فهو محطّ اهتمام الراوي وبؤرة تركيز المتلقي. وكانت الشخصيات الحكائية عامة توصف بأنها شخصيات ملحمية أكثر منها درامية، لأنها تبتعد عن تصوير الجوانب السيكولوجية وما يمور بها من صراعات ورغبات.

لكن المؤكد، كما يقول، أن التراث القصصي العربي القديم لم يعرف عملية خلق الشخصيات على أنها إنتاج الشخصية المكتملة أو النامية، وإنما ارتكز على عملية التنميط في خلق الشخصيات القصصية، الرئيسية والثانوية، فإذا بها شخصيات مسطحة أو نمطية. وهي شخصيات ثابتة لا تتغير، وهذا راجع إلى طبيعة السرد الشفاهي.

يشير المؤلف إلى أن الزمن في الحكاية العجائبية عنصر هلامي لا يمكن القبض عليه. ويتداخل مع المكان بوصفه الشكل الأكثر محسوسية وواقعية لينتجا معًا زمكانيات الحكي العجائبي الذي يهيم في أزمنة المجهول وفوق أرض الخرافي.

كما تتعدد الأفضية داخل هذه الحكايات ما بين فضاء عجائبي وهو فضاء مزيج من تداخل الخيالي مع الخرافي، فهو يمتح من الخيال أقصى درجاته، ويمثله فضاء الجن والكنوز. وكذلك هناك فضاء بحري وفضاء معارك وفضاء مرجعي. واللافت أن الحكايات العجائبية تميل إلى استدعاء المدن في الفضاءات المرجعية، حيث تغيب القرية والتجمعات البشرية قليلة العدد، صغيرة المساحة.

وقد سعى المؤلف في الفصل الأخير إلى تعيين البنيات الدالة السوسيولوجية في النصين، بما تشي به من ربط هذه العناصر بالجماعة الاجتماعية خارج النصوص. لفهم العلاقة بين النص والبناء الاجتماعي عبر الجماعة التي ينتمي إليها الأديب من خلال نوع من المراوحة بين داخل النص وخارجه، على حد قوله. من خلال تمثلات لعناصر الطعام والمسخ والملابس والحُلّي، بحكم ارتباطها ببنية المجتمع التاريخية والوثائقية في حقول معرفية مختلفة. فتكشف عن تصوّر للحياة زمن تدوين هذه النصوص.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF

عن جريدة العرب اللندنية

العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)