ثقافة - تراث

الحدائق الأندلسية في المغرب .. “جنان” من التاريخ Maroc

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت ١٥ يونيو / حزيران ٢٠١٣
جريدة الحياة
الرباط - الأناضول


لا تخلو مدينة مغربية حطّ فيها الأندلسيون من آثار وشواهد حضارية تؤرّخ لتلك الحقبة التاريخية، التي أسهمت في صياغة جزء مهم من تاريخ المغرب الأقصى. فلا تزال القصور والأزقة والحدائق التي أقامها أبناء الأندلس قائمة تشهد على حب أهلها للفنون والإبداع. وقد حلّ أبناء الأندلس بعدد من بلدان المغربي العربي بعد فرارهم من شبه جزيرة إيبرية (إسبانيا والبرتغال وأندورا وجبل طارق)؛ إثر سيطرة مملكة “قشتالة والأراغون” على الأراضي التي حكمها المسلمون لقرون (سقوط غرناطة آخر الإمارات الأندلسية سنة 1492م ). ففي مدن مثل الرباط (وسط المغرب) وفاس وتطوان وشفشاون (شمال)، حيث استقرت العائلات الأندلسية، حاول الأندلسيون أن يقيموا أحياء وحواري تحاكي تلك التي هجروها في بلاد الأندلس، وكان أبرزها الحديقة الأندلسية، أحد المعالم الهندسية التي تميز فن المعمار الأندلسي. كما حاول المعماريون الأندلسيون، الذين حلوا بالمغرب، أن يشيدوا مباني وبنايات على الطراز الأندلسي الخالص، ظلت حتى اليوم، شواهد حية على عبقرية هذه الحضارة وتميزها. ففي كل بيت أندلسي كانت توجد حديقة صغيرة بنقوش بديعة وزخارف نباتية متقنة الرسم تتوسط فناء المنزل، إلى جانب ساقية ماء ونافورة ينساب منها ماء زلال، تذيع في البيت صوت خرير الماء الذي يضفي على الفضاء هدوءا وسحرا خاصا. أما في قصور ملوك وأعيان الأندلس، فقد خضعت إقامة الحديقة الأندلسية إلى معايير فنية خاصة، وشروط هندسية بالغة الدقة، وكان المهندس المعماري الأندلسي يتميز بهذا النوع من الحدائق، التي بدت مختلفة عن سائر الحدائق التي أبدعتها حضارات وثقافات أخرى سواء في الجوار الأوروبي أو الشرق العربي. فالحديقة الأندلسية عكست فن الحياة التي كانت سائدة في تلك البلاد، ونمط الفكر الذي كان قائما، والذي اقترن خلال فترة أوج هذه الحضارة بالتقدم في شتى مجالات العلوم والفنون. وفي العاصمة المغربية التاريخية الرباط، وتحديدا في حصن الوداية التاريخي قرب نهر أبي رقراق، أقام الأندلسيون حديقة تاريخية على نفس طراز الحدائق في قصور بني الأحمر في غرناطة، تحمل التصاميم والنقوش نفسها، بل وتتطابق معها في شكل توزيع الزهور والأشجار التي تزين جنبات الحديقة. فالحديقة الأندلسية تعد فضاء يتيح للزائر أن يتمتع بطبيعة خلابة، ولكن في لوقت نفسه، تعيده إلى زمن الأندلس الجميل حيث كانت الحديقة الأندلسية الملتقى الذي يجمع الشعراء والفنانين من موسيقيين ورسامين، ويتداول فيها أهل النخبة الرأي حول ما يقع في البلاد من أحداث. كما أنها تحتضن ليالي السمر التي كان يحييها الأندلسيون على إيقاع خرير المياه ومرفوقا بموسيقى الموشحات الأندلسية والطرب الغرناطي الذي اشتهرت به مدينة غرناطة، إحدى أبرز عواصم الحضارة الأندلسية وآخر المعاقل الإسلامية التي ظلت صامدة بعد أن دخل الإسبان أغلب إمارات بلاد الأندلس. وشكلت الأنهار والسواقي التي كانت تحيط بمدن الأندلس وأزقتها عنصر إلهام للفنان المعماري الأندلسي، حيث تفنن الأندلسيون في بناء البرك والأحواض المائية بالحدائق الأندلسية. واهتموا أيضا بزراعة النباتات بمختلف أشكالها خاصة أن بلاد الأندلس تتمتع بمناخ متوسطي معتدل طوال السنة؛ مما سمح للأندلسيين بالقيام بزراعات مختلفة، خاصة تلك المرتبطة بالأزهار والنباتات المائية، فكانت الحديقة الأندلسية مشتلا يضم نبانات متنوعة اجتهد الأندلسيون في بعض الأحيان في استقدام بعض أنواعها من بلدان مجاورة وأخرى بعيدة. وفي صحن أي بيت أو قصر أندلسي، تتوسط نافورة فناء المكان لتضفي عليه سحرا خاص، وهو الحال نفسه في الحديقة الأندلسية التي تضم شبكة واسعة من النوافير والمرتبطة بسواقي مائية تمتد بعضها إلى خارج الحديقة وترتبط بشبكة الري الفريدة التي أقامها المهندسون الأندلسيون، فجعلوا من المدينة الأندلسية مدينة دائمة الخضرة لا تخلو شرفات بيوتها ولا جنباتها من باقات الورود، ولا يفارق أجوائها رذاذ الماء المتطاير من السواقي والنوافير. ولا يختص المغرب دون غيره من بلدان البحر الأبيض المتوسط بهذه الحدائق الأندلسية الفريدة، ففي تونس والجزائر، التي احتضنتا كذلك “المورسكيين” (من تبقى من المسلمين بعد سقوط غرناطة) المهاجرين من شبه جزيرة إيبرية، لا تزال الحدائق الأندلسية تراثا خالدا ولوحة فنية خاصة تحتفظ لهذه البلدان بتاريخ الأندلس، وتشكل ذاكرة جماعية تؤرخ لهذا المشترك الحضاري الذي أسهم أبناء الأندلس في إقامته وأبدعوا في تشييده، ليعكس روح تلك الحضارة الأندلسية المفعمة بحب الحياة والإقبال على الفن والإبداع.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)