الثورة العُرابية : الأولى في تاريخ مصر الحديث 1841 - 1911

, بقلم محمد بكري


جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط
الثلاثاء - 10 ذو القعدة 1436 هـ - 25 أغسطس 2015 مـ
الصفحة : ملاحق/الحصاد
د. محمد عبد الستار البدري


من التاريخ : أحمد عرابي ونموذج الوطنية


تعد شخصية أحمد عرابي من أهم رموز الوطنية المصرية على الإطلاق في التاريخ الحديث، إذ لا يخلو حي سكني في مصر من شارع أو حارة أو زقاق يحمل اسم هذا البطل المصري الذي لو قُدر له النجاح وهو يقود الحركة الوطنية لكان شأن مصر قد تغير ومعها الوطن العربي.

ثورة عرابي كانت أول ثورة مصرية في العصر الحديث بعد ثورة 1805 التي أتت بمحمد علي حاكمًا على البلاد، ولكنها كانت ثورة أكثر تنظيمًا وتسييسًا لمطالب محددة ورؤية واضحة. غير أن القدر لم يستجب فيها للمصريين، فانتهت على أيدي القوة التي أجهضتها وهي الاستعمار البريطاني للبلاد في عام 1882، لكنها مع ذلك ظلت رمزًا هامًا في التاريخ العسكري والسياسي المصري على حد سواء قادها أحد أبناء القوات المسلحة ومعه مجموعة وطنية.

لقد ولد أحمد عرابي في محافظة الشرقية وألحق للدراسة في الأزهر الشريف، وأعقب ذلك إلحاقه ضابطًا في الجيش المصري في عام 1854. وفي الجيش تدرج في بعض الترقيات بسبب تعاطف حاكم مصر الخديوي سعيد لتشجيعه انخراط المصريين كضباط في الجيش الوطني، إلا أنه سرعان ما فصل بسبب ميوله الوطنية واعتراضه على وضع أسقف محددة للتدرج في الترقي لصالح العناصر غير المصرية من الأتراك والجراكسة (الشركس) وغير المصريين، خاصة في المواقع القيادية في الجيش المصري، على الرغم من أن قوامه كان يتألف من جنود مصريين. ولكن فيما بعد عاد مرة أخرى إلى صفوف الضباط المصريين ورقي لرتبة أميرالاي وأصبح قائد لواء المشاة بالعباسية.

وحافظ الأميرالاي أحمد عرابي على مواقفه، وهو ما وضعه في حالة صدام مع وزير الحربية آنذاك عثمان رفقي، الذي كانت له مواقفه المتعنتة تجاه الضباط من أصول مصرية، ولقد ساعد على ذلك موقف الخديوي الجديد توفيق الذي كان ضعيف الشخصية خاصة أمام القناصل الأجانب في مصر. ومعروف أن مصر كانت قد تعرضت لمشكلات متعددة بسبب أزمة الديون الناجمة عن الاستدانة لتغطية نفقات حفر وافتتاح قناة السويس في عام 1869 التي كبلت البلاد بالديون مما أدي لرهن ما يقرب من نصف ميزانية البلاد لصالح الدائنين الأجانب ووضع الميزانية تحت المراقبة الثنائية لبريطانيا وفرنسا. ومن ثم فتحت هاتان الدولتان الباب على مصراعيه من رجال الأعمال الأجانب للاستفادة من الظروف المصرية. وتكالبت العوامل المختلفة لتضع جذور «الثورة العرابية» بسبب انتشار الفقر في البلاد فضلاً عن تدهور حالة القضاء المصري، الذي أصبح في حاجة ماسة لتطوير مؤسساته ونظام التقاضي فيه وضمان الحقوق والحريات القانونية، ناهيك ببزوغ رغبة مصرية لتطوير النظام السياسي في مصر، خصوصا في المجال النيابي، منه إقرار مجلس شورى النواب والذي كان منزوع الصلاحية سياسيًا.

كذلك تفاقمت الأحوال داخل الجيش المصري، خاصة بعد تعدد حالات الاضطهاد ضد الضباط المصريين وقسوة العقوبات ضد بعضهم، فتفجرت الأزمة في عام 1881 عقب حالة متجددة من الظلم. وعندها ثارت ثائرة عرابي ومعه مجموعة من الضباط يتبعهم جنودهم وتظاهروا أمام منزل وزير الحربية مطالبين بعزله، فجاء رد الوزير بالتضامن مع رئيس الوزراء والخديوي ذاته بمحاكمة عسكرية لقيادات الثورة وتم حبسهم. غير أن رفاقهم تحركوا مباشرة لإخلاء سبيلهم وتوسط وزراء آخرون واضطر الخديوي للتراجع عن موقفه على الفور خشية انفلات الأمر، خصوصا وأن الجيش لم يكن على خصومة مباشرة معه، بل كان هناك استعداد للتعاون معه باعتبار أنه يمكن أن يقود حركة الإصلاح.

وأسفرت هذه الجولة عن عزل وزير الحربية وتعيين محمود سامي البارودي، أحد رموز الوطنية والمقرب لحركة الضباط المصريين والمتعاطف معهم في آن واحد، بدلاً منه. غير أن البارودي لم يمكث طويلاً بعدما وقعت أزمة بسبب حادثة في رأس التين بالإسكندرية أدت إلى أحكام قاسية على عدد من الجنود والضباط المصريين، فاستقال وزير الحربية احتجاجًا على ذلك وحلت محله شخصية صلبة رافضة للحركة الإصلاحية في الجيش وأخذ خطوات عملية لنقل القيادات الوطنية وتفريقهم.

رد عرابي وأتباعه على الفور برفض الانصياع للأوامر وحركوا ألويتهم قي 9 سبتمبر (أيلول) 1881 صوب سراي عابدين ومعهم مجموعة من المطالب على رأسها: إقامة حياة نيابية سليمة وتأليف مجلس نيابي منتخب انتخابًا حرًا، وزيادة عدد الجيش وتحسين إدارته وإدخال الإصلاحات السياسية والاقتصادية في البلاد.

رفض الخديوي في بداية الأمر هذه المطالب ودخل السراي وبجواره القنصلان الفرنسي والبريطاني، لكنه اضطر في النهاية للرضوخ لمطالب الجيش المصري، فأقال الوزارة وعين شريف باشا رئيسًا للوزراء وكان رجلاً وطنيًا مستقلاً في رأيه ويتمتع برباطة جأش، وهو ما تسبب في بعض التوتر النسبي مع الزعيم أحمد عرابي والقيادات الوطنية بالجيش حيث أصر على أن يكون مستقلاً ويمنع تدخل الجيش في عمل الوزارة الجديدة، وهو ما وافق عليه عرابي في النهاية بعد حصوله على الضمانات الكافية. وبذلك تشكلت وزارة الإصلاح التي أطلق عليها عن حق «وزارة الأمة»، وبدأ بسن القوانين المختلفة من أجل تحقيق هذه الغاية. وتقرر أيضًا نقل زعماء الحركة الوطنية حتى لا يبدو وكأنهم مراقبون على أداء الحكومة، وهو ما قبله عرابي ورجال الحركة الوطنية، وكانت لحظات خروجهم من القاهرة ملحمة في التظاهر والمحبة والود من قبل الشعب إلى الحد الذي قام الكثير برش الورود والملح أمامهم.

وحقيقة الأمر أن «وزارة الأمة» استحقت هذا اللقب على الرغم من أنها لم تبق كثيرًا في إدارة شؤون البلاد، ففي عهد هذه الوزارة تم إدخال إصلاحات موسعة على النظام القضائي في البلاد، لا سيما إقرار المحاكم الابتدائية والنقض ودوائر التقاضي بالإضافة إلى بعض الإصلاحات الإدارية في الجيش والبلاد. ولكن أهم إنجازات هذه الوزارة بلا خلاف كان إجراء الانتخابات البرلمانية النزيهة وتشكيل أول مجلس نواب على أساس الانتخابات الحرة النزيهة وليس بالتعيين، كما كان الحال بالنسبة لمجلس شوري النواب، فضلاً عن توسيع صلاحيات هذا المجلس ليصبح برلمانًا وليس جهة استشارية وأخضع الحكومة لسلطاته.

تم افتتاح هذا البرلمان في ديسمبر (كانون الأول) 1881، وأقرت هذه الحكومة الدستور أيضًا والذي ضمن صيغة توزيع السلطات، بما في ذلك إشراف البرلمان على الميزانية، وهذه كانت بداية الصدام الحقيقي مع بريطانيا وفرنسا. إذ رفضت الدولتان هذا المقترح تمامًا لأنه أصبح يقلص من سلطاتهما في مراقبة المالية المصرية وهو ما يعني بداية الاستقلال المالي المصري، وهو ما دفعهما لتقديم مذكرة مشتركة للضغط على الحركة القومية ودعم سلطات الخديوي أمام البرلمان الجديد وحركة الإصلاحيين في الجيش المصري. وبدأ القنصلان الفرنسي والبريطاني يمارسان الضغوط على رئيس الوزراء الذي آثر أن يمرر الأزمة بهدوء منعًا للتدخل الأجنبي، لكن أحمد عرابي كانت له رؤيته بضرورة عدم السماح بأي تراجع للمكتسبات السياسية والشعبية، وهو ما أدى إلى استقالة رئيس الوزراء وتعيين البارودي بدلاً منه ولقد أصر بدوره على ضرورة مراجعة البرلمان المصري للميزانية رغم التهديدات الأجنبية. لكن الأحداث لم تمهله كثيرًا فسرعان ما بدأت البلاد تتعرض للقلاقل خاصة بعدما أصدرت إحدى المحاكم العسكرية أحكامًا صارمة على بعض الضباط الإصلاحيين.

وعندما خفف الخديوي الحكم احتج الجيش وأصر على أن يقر البرلمان الأحكام ولكن الخديوي رفض دعوته للانعقاد، وهو ما أدخل الوزارة في حالة صدام مباشر مع الخديوي، ولم تستطع الوزارة فرض دعوة البرلمان مما دفع فرنسا وبريطانيا لإرسال قطع الأسطول مرة أخرى صوب الإسكندرية للضغط على الوزارة والتي لم تجد بدًا من الاستقالة احتجاجًا على الأوضاع فاضطر الخديوي إلى تولى هذه المسؤولية، وإزاء ضغط الجيش المصري تم تعيين أحمد عرابي وزيرًا للحربية وهو ما لم تكن بريطانيا، على وجه الخصوص، على استعداد لقبوله فبدأت عمليات التحرش السياسي بالجيش المصري استعدادًا للاحتلال كما سنرى.

عن موقع جريدة الشرق الأوسط



جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط
الأربعاء - 18 ذو القعدة 1436 هـ - 02 سبتمبر 2015 مـ
الصفحة : ملاحق/الحصاد
د. محمد عبد الستار البدري


من التاريخ : الثورة العُرابية واحتلال مصر


تابعنا الأسبوع الماضي فترة من تاريخ مصر تولى فيها الزعيم الوطني أحمد عُرابي من خلال الجيش مطالب الإصلاحات السياسي في البلاد وفي الجيش، وكيف أن هذه الثورة أسفرت عن الضغط على الخديو توفيق حاكم مصر، التي كانت تتبع من الناحية النظرية فقط الدولة العثمانية رغم كونها تدار على أساس الحكم الذاتي منذ اتفاقية لندن 1840. أيضًا تابعنا كيف استطاعت حكومة شريف باشا إدخال الإصلاحات في البلاد وإقامة حياة نيابية سليمة على أساس مجلس نواب جرى انتخابه من قبل الشعب انتخابًا حرًا مباشرًا فانعقد أول برلمان مصري حقيقي على النمط الغربي في 1881، كما تم إقرار دستور البلاد في فبراير (شباط) 1882 وجعل الحكومة مسؤولة أمامه.

لكن حقيقة الأمر أن القوى الخارجية، خصوصا بريطانيا، كانت تخشى الاستقلال الفعلي للبلاد، ولذا دأبت على التدخل في شؤونها الخاصة، ولا سيما بعد تفاقم الخلافات بين التيار الوطني بقيادة عرابي والخديو. ومن ثم بدأت هذه القوى تأخذ صف الأخير وتطالب بعزل عرابي عن منصبه كوزير للحربية وإقالة الحكومات الوطنية. وتبع ذلك إصدار بريطانيا مذكرة مشتركة مع فرنسا بها نفس المطالب، كما أرسلت بحريتها إلى الإسكندرية استعدادًا للضغط على مصر لتنفيذ أهدافها، بينما كانت الدولة العثمانية في ثبات سياسي عميق غير قادرة على حماية البلاد.

وبمجرد أن تطورت الأحداث اقترحت فرنسا مؤتمرًا دوليًا لمناقشة المسألة المصرية وسبل تسوية الخلافات بين الخديو والحركة الوطنية، خصوصا أن الضغوط الداخلية فرضت على الخديو أن يعين عرابي وزيرًا للحربية، إلا أن بريطانيا كانت تعد العدة من أجل احتلال البلاد وسايرت التوجه الدبلوماسي الدولي لكسب الوقت لتجهيز جيوشها صوب الإسكندرية.

وعندما بدأت المناوشات بين المصريين وبعض الأجانب بسبب خلاف أسفر عما عُرف بـ«مذبحة الإسكندرية» التي راح ضحيتها بعض الأجانب، ضاق المصريون ذرعًا من التدخل الأجنبي في البلاد وشعروا أن البريطانيين على أبواب الاحتلال. وعندما عاد الأمن فاستتب وسيطرت الدولة المصرية على مقاليد الأمور، استغل البريطانيون الفرصة وبدأوا التحرش بالجيش المصري مطالبين بوقف بناء التحصينات في القلاع المصرية في الإسكندرية. وعلى الرغم من أن حكومة إسماعيل راغب كانت تدرك أهداف لندن وأبدت مرونة في التعامل مع الوضع، واصل البريطانيون ضغوطهم من أجل إيجاد مبرّر لاحتلال مصر، وبالفعل أقدم الأسطول البريطاني على قصف الإسكندرية.

أما على الصعيد الدولي، فقد عقد «مؤتمر الأستانة» (إسطنبول) بمشاركة أوروبية واسعة يوم 23 يونيو (حزيران) 1882، وأقر ما عُرف بـ«بروتوكول النزاهة»، إذ أعلنت الدول المشاركة ومنها بريطانيا أن لا أطماع لديها في مصر ولا نية لها بالتدخل في شؤونها، ولكن المبعوث البريطاني إلى المؤتمر أصر على إضافة جملة: «... في ما عدا الأحوال القهرية». وحقًا، كانت هذه الجملة الأساس الذي استندت إليه بريطانيا لاحتلال مصر.

«مؤتمر الأستانة» أصدر قرارًا ينص على إرسال الدولة العثمانية جيشًا إلى مصر لمساندة الخديو توفيق وإخماد الثورة العرابية، غير أن الخطط البريطانية كانت محسومة سلفًا، ففي غضون أسبوعين كانت القوات البريطانية على أهبة الاستعداد لاحتلال مصر بعدما أقر البرلمان في لندن التمويل اللازم للحشد العسكري المطلوب بتوفير ما قيمته 2.3 مليون جنيه، وبدأت الإمدادات العسكرية تأتي من كل الاتجاهات: منها الهند والقواعد والمراكز البريطانية في المتوسط.

وفي هذه الأثناء، بدأت الحركة الوطنية تنقم على الخديو الذي اعتبرته دمية في أيدي الأجانب، خصوصا القنصل البريطاني. وباشر الأعيان والنواب البرلمانيون دعم الحركة الوطنية وإن دون معاداة الخديو علنًا، خصوصا بعدما أعلن الخديو عزل القائد أحمد عرابي من وزارة الحربية. كذلك أخذ الشعب يساند عرابي في تحركه لتحصين البلاد ضد المعركة المرتقبة ضد الجيش البريطاني في البلاد. وواقع الأمر أن التحصينات المصرية كانت مركزة في نواحي الدلتا والغرب. ولقد ساورت عرابي وبعض القيادات العسكرية فكرة ردم قناة السويس لمنع الأسطول البريطاني من عبورها وفتح جبهة شرقية جديدة ضد الجيش المصري، إلا أن رئيس الشركة أعطى تأكيدات لأحمد عرابي بأن الأسطول البريطاني لا يستطيع أن يستخدم القناة لأغراض عسكرية، ووعده بعدم حدوث ذلك تحت أي ظرف من الظروف، وهو ما أجّل فكرة الردم لبعض الوقت. ولكن عندما أدرك عرابي أن تأكيدات رئيس الشركة كانت مجرّد خديعة كان الوقت قد فات لتدارك الأمر.

وبالفعل بدأ الأسطول البريطاني بقصف الإسكندرية ضاربًا عرض الحائط بقرارات المؤتمر الدولي حول مصر، واندلعت الحرب بين الجيش الوطني المصري وقوة الاحتلال البريطاني.

المصادر التاريخية اختلفت في تقييم عديد الجيش المصري في ذلك الوقت، فبينما تقدّر بعض المصادر أن عديد الجيش المصري كان يتراوح ما بين سبعة عشر ألفًا إلى ما يفوق العشرين ألفًا، ترى مصادر أخرى أن العدد وصل إلى قرابة خمسة وثلاثين ألفًا، ولكن حقيقة الأمر أن الجيش النظامي القادر على المقاومة لم يتعدّ بأحسن الأحوال الخمسة عشر ألفًا، أما الباقيون فكانوا عبارة عن قوات مجنّدة غير مدرّبة ولا تملك الخبرة العسكرية الكافية، وذلك في حين ناهزت القوات البريطانية في البحر المتوسط قرابة خمسين ألفًا، مع أن بعض المصادر الأخرى قدرتها بنيف وعشرين ألفًا.

كان فتح جبهة مصر الشرقية أخطر التطوّرات، إذ كانت الدفاعات المصرية ضعيفة جدًا هناك. وبالتالي، عندما احتل الأسطول البريطاني بورسعيد ثم الإسماعيلية على قناة السويس اضطر عرابي إلى حشد دفاعاته في الدلتا بينما كانت القوات البريطانية قد دخلت في عدة معارك بالقرب من كفر الدوّار، في غرب الدلتا، انتهى أغلبها بصدّ هذه الهجمات.

ولكن بما أن الجبهة الشرقية كانت في حالة ضعف شديد، تحرّك عرابي مباشرة إلى التل الكبير (شرق الدلتا) للإشراف على التحصينات المصرية المعدّة لصد الهجوم البريطاني المتوقع ووضع صيغة للمعركة. وهناك، نزلت القوات البريطانية بكل ثقلها على التل الكبير حيث دارت المعركة الفاصلة بين الطرفين. بدأت المعركة بمناوشات من الجانب البريطاني أسفرت عن سقوط عدد من المواقع الأمامية، خصوصا منطقة القصّاصين (على طريق القاهرة - الإسماعيلية). وعندما حاولت القوات المصرية إعادة الاستيلاء عليها مُنيت بهزيمة أسفرت عن إصابة قواد الجيش، في أعقاب أسر رئيس أركان الجيش المصري، وهو ما وضع الجيش في وضع خطير للغاية قبيل نشوب معركة التل الكبير الشهيرة.

تشير المصادر التاريخية إلى أن معركة التل الكبير لم تكن معركة بالمفهوم الحقيقي، ذلك أن الجيش البريطاني تحرك مساء يوم 21 سبتمبر (أيلول) من القصّاصين إلى التل الكبير تحت جنح الظلام. وما كان الجيش المصري على استعداد مطلقًا لأنه لم يكن قد اكتشف التحرك البريطاني، الذي باغت القوات المصرية عند الفجر، ولم تطل المواجهة كثيرًا، إذ انقضت القوات البريطانية على قوات عرابي من الجانبين ومن الوسط بعدما طوقتها. وهكذا انهارت قوات عرابي، الذي غادر أرض المعركة بعد الهزيمة متوجهًا إلى القاهرة. وفي العاصمة المصرية عقد عرابي لقاءات موسعة مع الأعيان والمساندين واتضح بعد المداولات أن قبل لمصر بمواجهة عسكرية مع مثل تلك القوات البريطانية الغازية.

وعندها تم الاتفاق على التسليم، وفعلاً خرج عرابي بزيّه العسكري واستسلم للبريطانيين، وهكذا وقعت مصر فريسة للاحتلال البريطاني.أعقب الاحتلال تأليف حكومة مصرية جديدة برئاسة شريف باشا، وأجريت محاكمة القادة العسكريين على رأسهم أحمد عرابي ومحمود سامي البارودي، وصدر عليهم الحكم بالإعدام، إلا أن الحكم عدّل إلى النفي المؤبد لهم، ونفذ الحكم اعتبارًا من 28 ديسمبر (كانون الأول) 1882. ولقد تفاوتت فترات نفي هؤلاء الزعماء، ولا سيما بعدما أصدر الخديو عباس حلمي حكمًا بالعفو عنهم بعدما تدهورت حالاتهم الصحية كثيرًا. ومن ثم عادوا إلى البلاد أيضًا في أوقات متفرقة. فعاد البارودي بعدما كفّ صره، ثم عاد عرابي في أول أكتوبر (تشرين الأول) 1901 وقبله بشهر عاد علي فهمي، رفيق عمره. ولكن الشعب لم يستقبلهم بمثل ما ودّعهم به بعدما رضخت البلاد للاحتلال البريطاني. ولقد عبر محمود سامي البارودي عن حالته النفسية السيئة في المنفى بأبيات شعر عكست حالته وحال الوطن المغلوب على أمره بقوله:

عناءٌ ويأسٌ واشتياقٌ وغربةٌ

ألا شدّ ما ألقاه في الدهر من غبنِ

فإن أكُ فارقتُ الديارَ فلي بها

فؤادٌ أضلّته عيونُ المها عنّي

عن موقع جريدة الشرق الأوسط



جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط
الثلاثاء - 24 ذو القعدة 1436 هـ - 08 سبتمبر 2015 مـ
الصفحة : ملاحق/الحصاد
د. محمد عبد الستار البدري


من التاريخ : تأملات سياسية في الثورة العرابية


تابعنا على مدار الأسبوعين الماضيين كيف نشأت وتطورت الحركة الوطنية في مصر بقيادة الجيش ممثلاً في الزعيم أحمد عرابي ورفاقه المصلحين إلى أن تجسدت بوجود برلمان منتخب بشكل حر مباشر تخضع له الوزارة. كذلك تابعنا كيف ظهر أول دستور ليبرالي حر في مصر عام 1882 يفصل بين السلطات ويضمن الكثير من الحريات. وبالفعل، بدأت مصر تخطو خطواتها الأولى نحو إقامة نظام سياسي متوازن خاصة بعدما انطلقت عملية الإصلاح القضائي وانتشر الإصلاح لينال الجيش ودور المصريين العاملين فيه، وذلك إلى أن بدأت المؤامرات البريطانية والفرنسية تحاك ضد هذه الحركة وعملية الإصلاح ذاتها، خاصة بعد توتر العلاقة بين الإصلاحيين والخديوي المصري الذي كان يحكم البلاد نيابة عن الدولة العثمانية من الناحية النظرية البحتة. كذلك تابعنا كيف انتهى الأمر باحتلال البريطانيين البلاد في سبتمبر (أيلول) 1882، وهو الاحتلال الذي دام حتى عام 1956.

حقيقة الأمر أن الثورة العرابية رغم امتدادها الزمني القصير في تاريخ مصر الحديث الذي يتخطى العام فإنها تحمل في طياتها الكثير من الحقائق والاستخلاصات والدروس. ولعلني أسوق هنا عددًا من النقاط التي أري فيها عبرًا نافعة لكل عصر وزمان وهي على النحو التالي:

أولاً : إن هذه الثورة تتنافى بوضوح مع الكثير من النظريات السياسية التي تدفعها بعض الدول في الحقبتين الأخيرتين والتي تنادي بضرورة فصل الجيش عن أي تطور سياسي في أي دولة، وهي ترى في التدخل السياسي للجيش كارثة على مستقبل الأمم. إن هذه الرؤية قد تكون مناسبة لبعض الدول لكنها غير مناسبة في دول أخرى ومن ثم هناك خطورة في تعميمها على إطلاقها. ذلك أن القوة الوحيدة التي كانت قادرة على تغيير الأوضاع في مصر إبان الثورة العرابية كان الجيش المصري، ولم يكن هناك أحزاب أو مجموعات فكرية/ سياسية قادرة على حمل لواء الحركة الوطنية بسبب التركيبة الأوتوقراطية للحكم المنفرد للخديوي والظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة في مصر. هنا كان تدخل الجيش أمرًا هامًا بل ومحمودًا. وعليه، يجب التسليم بأن نموذج الثورة العرابية يمثل في حقيقة الأمر ظاهرة هي الأولى من نوعها على الأقل في تاريخ الشرق الأوسط، وهي أن الجيش هو الذي أتى بالتغيير الليبرالي للبلاد، وهو الذي أتى بأول دستور يفصل بين السلطات وببرلمان منتخب انتخابًا حرًا وبحكومة تخضع لهذا البرلمان. والملاحظة الثانية هي أن الجيش تنازل عن الحكم طواعية وتفرقت قياداته من القاهرة إلى الأقاليم، بمن فيهم أحمد عرابي ذاته حتى لا يبدو الأمر كأنه «حكومة عسكرية»، وذلك على الرغم من التوتر الظاهر بين الحكومة الجديدة برئاسة شريف باشا من ناحية وأحمد عرابي والإصلاحيين العسكريين من ناحية أخرى. وهذه الظاهرة في تقديري تحتاج إلى الكثير من التأمل، ولا سيما، في العصر الحديث الذي تتجه فيه الأنظار إلى أن الدور السياسي والليبرالية يتناقضان في الدولة التي تأمل في الوصول إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي في البلاد.

ثانيًا: إن الثورة العرابية تمثل تناقضًا صريحًا واضحًا مع الدفع السياسي الحديث بأن «الديمقراطيات لا تحارب بعضها البعض» وهي النظرية التي تناولناها بالكثير من النقد في هذا الباب منذ ما يقرب من عامين. ما حدث هو أن مصر كانت تسير على ضرب الديمقراطية، حتى وإن كانت ديمقراطية وليدة ومحدودة التوجه والتفعيل. وهنا أعلنت بريطانيا «الديمقراطية» الحرب عليها تحت حجة الحفاظ على الأمن فيها، وهو ما يعكس بوضوح أن معايير السياسة الدولية لا تخضع للمجاملات الفكرية التي تسعى النظرية السياسية إلى تبنيها. هنا نحن أمام نموذج لدولة ديمقراطية حاربت دولة ديمقراطية ناشئة لأهداف وأطماع خاصة بها، وهو أمر يحتاج في تقديري لدراسة موسعة. ولكن الأغرب من ذلك هو الدور التاريخي التالي للاحتلال البريطاني لمصر حيث لعبت قوة الاحتلال «للدولة البريطانية الديمقراطية» دورًا هامًا في مساندة الحكم المطلق للبلاد وتجميعه في أيدي حليفها السياسي الخديوي توفيق، الذي بدوره ارتمى في أحضان البريطانيين للحفاظ على وضعيته وسلطاته. وهو ما يعكس بوضوح أن ناموس السياسة الدولية لا يعبأ كثيرًا بمصلحة الدولة الضعيفة أمام مصالح الدول الكبرى.

ثالثًا: إن محاولة تحميل الزعيم الوطني أحمد عرابي مسؤولية الاحتلال البريطاني لمصر يعتريه الكثير من الظلم لشخصه وللتاريخ المصري. مما لا شك فيه أن الجيش المصري لم يكن باستطاعته صد الاحتلال، وعلينا ألا ننسى أن «معاهدة لندن» التي قادت جهودا سنّتها بريطانيا نفسها في عام 1840، وضعت سقفًا لعدد الجيش بثمانية عشر ألفًا وقلمت أظافر الدولة المصرية الحديثة. ومن ثم، لم تنجح محاولات زيادة الجيش كثيرا إلا في استثناءات تاريخية محددة. كذلك فإن الجيش لم يكن محل اهتمام الحكومة الخديوية، وتقويته لم تكن أولوية إلا في أوقات محددة، ومن ثم لم يكن قادرًا على مواجهة قوات الاحتلال عندما جاءت لاحتلال البلاد. وهنا لا بد من تذكر أن بريطانيا كانت يومذاك تملك أقوى جيش في العالم، وكان لديها أيضًا أقوى أسطول عرفته البشرية حتى ذلك التاريخ. وبالتالي فمن الغبن أن يصار إلى إلقاء اللوم على عرابي ورفاقه، وتحميلهم مسؤولية هزيمة معركة «التل الكبير»، حتى وإن عكست ضعفًا في القيادة العسكرية لعرابي ورفاقه. عرابي والجيش المصري ما كانا ندين حقيقيين في الأساس للجنرال البريطاني وولزلي والقوة التي كانت تحت إمرته. ثم إن الجيش المصري كان ينقصه التسليح والخبرة لمواجهة أقوى جيش في العالم.. فكيف إذن كانت الدولة المصرية في حالة تقشف كبير.

رابعًا : هناك سؤال حائر تتداوله بعض المصادر التاريخية إلى اليوم. هل كانت هناك علاقة سببية بين حركة عرابي ورفاقه والاحتلال البريطاني للبلاد؟ حقيقة الأمر أن كل المؤشرات تشير إلى أن الاحتلال البريطاني لمصر كان آتيًا لا محالة. ذلك أن مصر كانت رقعة استراتيجية حيوية لبريطانيا، خاصة بعد شق قناة السويس، وهي أول من اغتنم الفرصة للحصول على أسهم القناة. كما أن فكرة احتلال مصر كانت موجودة منذ جلاء الحملة الفرنسية عن مصر عام 1801، وهي الفكرة التي تجسدت عمليًا في 1807 من خلال ما هو معروف بـ«حملة ماكنزي فريزر» التي هزمها المصريون. أيضًا كانت بريطانيا هي الدولة التي قادت التوجه الدولي لتقويض الدولة المصرية الفتية في عهد محمد علي وانتهت بالصدام العسكري مع مصر في 1840 من خلال تحالف دولي كانت بريطانيا أساسه. بالتالي فإن هناك من التأكيدات التي تعكس أن الاحتلال كان مسألة وقت لا غير مهما طال أمد انتظار لندن. واستطرادًا، فإن تحميل الثورة العرابية مسؤولية الاحتلال يمثل إجحافًا كبيرًا، وظلمًا للحقيقة. إذ لم يكن من مصلحة بريطانيا أصلاً نجاح الحركة الليبرالية في مصر، وذلك مع كل التحفظات الراجحة لمحدودية القدرات الدبلوماسية لأحمد عرابي ورفاقه وضعفهم في إدارة الدفة السياسية للعلاقات مع الدول الغربية - خاصة بريطانيا - وهو أمر لا خلاف عليه. سلوك عرابي ورفاقه لم يدفع حقًا لاحتلال البلاد كما روّج البعض. ومن ثم فإن إلباسه مسؤولية احتلال البلاد أمر منافٍ للحقيقة لكنه قد يكون مفهومًا.

خامساً : اتصالاً بما سبق، يبدو من النموذج المصري في 1882 وعدد من النماذج الأخرى أن أفضل ذريعة للتدخل الدولي في شؤون الدولة المستهدفة هي الثورات الداخلية فيها. وتقديري أن هذا يرجع لعدد من الأسباب، على رأسها أن الحالة الثورية تصيب الدولة بنقص المناعة السياسية والعسكرية أمام التدخل الخارجي، خاصة التدخل العسكري. هذا أمر مفهوم، فالثورات يمكن اعتبارها نوعًا من التدخل الجراحي لإصلاح أي نظام سياسي، ومن البديهي أن يكون بعدها النظام ضعيفًا وواهنًا إلى أن يستعيد عافيته، ومن ثم يسهل التدخل الخارجي في شؤونه الداخلية. الثورة العرابية خير دليل على ذلك، فمصر كانت خلال العام السابق للاحتلال تعاني من ضعف في مؤسسات الدولة، وتنتابها حال من الغموض الداخلي وهي تحتضن تغيرًا نسبيًا في مفهوم شرعية الحكم في البلاد. وهذا فتح المجال أمام التدخلات الأجنبية في الشأن المصري، لا سيما، وأن عملاء الدول الأجنبية كانوا موجودين بكثافة وكثرة وعلى رأسهم القناصل.

سادساً : أيضًا، اتصالاً بما سبق. من البديهي أن تبحث القوى الخارجية الكبرى الساعية إلى التدخل في شؤون الدول الأقل قوة عن مبرّر يغطي أهدافها وأطماعها، ولا يوجد مبرّر أفضل من المشكلات الداخلية والرغبة في إصلاح الوضع الداخلي بهذه الدولة. حالة مصر في 1882 لم تخرج عن هذا النطاق كثيرًا، فأوضاعها الداخلية كانت مرتبكة بسبب الخلاف بين قوى الإصلاح وقوى الحكم المطلق للخديوي. وعندما نحكم على مثل هذه الحالات فإنه لا يجوز للبصر أن يزيغ عن الهدف ليتمحوَر حول المبرر أو الذريعة، فما من دولة تحتل دولة أخرى أو توجه لها الضربات العسكرية إلا وكان لها أهدافها المسبقة والتي تنتظر الذرائع المناسبة لتنفيذ ذلك. في الوقت الذي تظاهرت فيه بريطانيا برغبتها في حل المسألة المصرية سياسيًا، كما حدث في المؤتمر الدولي الذي انعقد في الآستانة (إسطنبول)، فإنها كانت تجهز لاحتلال البلاد. إن الدخول في صدامات عسكرية يحتاج لتجهيزات وخطط وحشد عسكري لتنفيذها، وكان من الواضح أن بريطانيا كانت عاقدة العزم على الاحتلال وتجهز له.

هذه مجرد نقاط تحليلية مرتبطة بهذه الفترة التاريخية لمصر، التي تعكس في التقدير الكثير من الحقائق السياسية التي أعتقد أنها لا تزال سارية إلى يومنا هذا.

عن موقع جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط، صحيفة عربية دولية رائدة. ورقية وإلكترونية، ويتنوع محتوى الصحيفة، حيث يغطي الأخبار السياسية الإقليمية، والقضايا الاجتماعية، والأخبار الاقتصادية، والتجارية، إضافة إلى الأخبار الرياضية والترفيهية إضافة إلى الملاحق المتخصصة العديدة. أسسها الأخوان هشام ومحمد علي حافظ، وصدر العدد الأول منها في 4 يوليو 1978م.
تصدر جريدة الشرق الأوسط في لندن باللغة العربية، عن الشركة السعودية البريطانية للأبحاث والتسويق، وهي صحيفة يومية شاملة، ذات طابع إخباري عام، موجه إلى القراء العرب في كل مكان.
لقراءة المزيد


عن الصورة المرفقة بهذا المقال

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)