التنزّه والسّيران في دمشق العثمانيّة

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ٣ يونيو/ حزيران ٢٠١٧
جريدة الحياة
مهند مبيضين


«الأيديولوجية العربية المعاصرة» لعبدالله العروي : أسئلة ما قبل الهزيمة


أحبّ الدمشقيون الخروج الى المتنزهات والحدائق، وكان يوم السبت أكثر الأيام التي تشهد خروجهم للاستراحة والتنزه، وقد تعددت المناطق التي يقصدها أهل دمشق، فمنها ما كان للتنزه والراحة، ومنها ما كان يختص بالتدريبات العسكرية وألعابها ومهاراتها، ومنها ما كان لمشاهدة الألعاب الشعبية، فالميدان الأخضر كان مخصصاً لمشاهدة تدريبات العسكر منذ العصرين الأيوبي والمملوكي، ومتنزه «الجبهة» كان مقصداً لهم بسبب مناظره الخلابة في أرضه التي وصفها أبو البقاء عبدالله البدري (ت:894هـ/1498م) بأنها من محاسن الشام، ومنها متنزه ما بين النهرين وهو «مبتدأ الوادي يشتمل على فرجة سماوية فيها وادٍ وقصور وسويقة فيها حانوت وطباخ وصاجاتي وقطفاني وفقاعي وسكرداني وحواضري وفكاهاني وشوا وقلاّ جبن وحمام يشرح صدر المرتاد وقنطرة يتوصل إليها من جزيرة لطيفة.. وهي أرض مربعة على مساحة فدانين وهي على جنب نهر بردى..».

يكشف وصف البدري لهذا المتنزه عن طبيعة المتنزهات في دمشق وتجاوز دورها بوصفها مكاناً للتسلية والترفيه، إلى منطقة خدمات متكاملة، تقدم فيها الأطعمة والأشربة وخدمات النظافة من خلال الحمام العام، واستمر هذا المتنزه عاملاً في العصر العثماني.

وفي السياق ذاته، يشير ابن طولون في حوادثه، إلى متنزهات دمشق في القرن السادس عشر ومنها المتنزه «ما بين النهرين» و»الذي حوى حماماً»، وهو الواقع بين مسجدي يلبغا وتنكز، ويسمى بذلك لتفرع نهر بردى إلى فرعين وبينهما ما يشبه الجزيرة، وهو اليوم في موقع ساحة المرجة.

ومن مرافق التنزه التي كانوا يقصدونها قبل العصر العثماني واستمروا في ارتيادها حتى نهاية العهد العثماني، «الشرفان» وهما حيان معروفان ومشهوران بما فيهما «من شجر الحور والولدان والمدار والغدران». ومن البساتين التي يذكرها ابن كنّان الصالحي في القرن الثامن عشر، بستان الأصفر مقابل الجسر الأبيض، وأخبر ابن كنّان أنه زاره في شهر رجب 1182هـ/ 1768م وكان بيد «أبي يوسف الشهير بابن الأصفر من أهالي الصالحية».

وتمدنا اليوميات الدمشقية بمادة جيدة عن أدب المسامرات والضيافات والنزهات الجماعية التي قد تستغرق ساعات أو يوماً أو يومين، وتتخللها زيارات مختلفة يشارك فيها عدد كبير من الحضور. يقول ابن طولون الصالحي في وصف نزهة طويلة: «... ثم ذهبنا إلى بستان ابن الجنيدي شمال قصر اللباد ثم تواعدوا للاجتماع بمنزل القاضي كريم الدين ثم ذهبنا جميعاً قاصدين البستان المذكور... فحال وصولنا إليه أُتي إلينا بمشمش حموي فأكلنا، ثم تغدينا، ثم قرأ المحب جار الله جزءاً من فضائل الشام للربعي، قراءة حسنة عجلِة أعجبت الحاضرين، ثم أنشد الشيخ الصالحي محمد بن الخياط المدني المؤذن بها وجماعته، فأطرب الحاضرين، ثم مدّ القاضي كريم الدين لنا أطعمة كثيرة ملونة، فأكلنا، ثم انصرفنا إلى منازلنا...»

وفي القرن الثامن عشر الميلادي، يبين ابن كنّان أن النزهات الطويلة استمرت وكانت تصل إلى ثلاثة أيام، ومن ذلك قوله: «وفي سادسه، يوم السبت جمادى الأولى – سنة 1151هـ/ 1738م- كنّا ببستان الباسطي، بغوطة دمشق، ومكثنا ثلاثة أيام عند أخينا يوسف، ونزلنا الثلثاء..»، ومن السرد المطول لأخبار مجالس البساتين وأحاديثها، يمكن النظر في مؤشرات ثقافية تكشف عن طابع تلك المجالس التي كانت إما أدبية أو دينية، وأنها كانت مقتصرة على مجموعات مختلفة من العلماء الذين كانوا يجدون في البساتين والمتنزهات أجواء مريحة وبعيدة عن مجالس العلم الصارمة في المدارس والمساجد.

ومن البساتين الأخرى التي يذكرها ابن كنّان في عصره، بستان الباسطي، وبستان العيش «قرب الربوة» وبستان الباشا، في حكر العارض إلى الشمال من باب جامع السادات. ويقول ابن كنّان في وصفه أحد مجالسه: «وكان معنا العالم الأمجد، الشيخ حسن المغربل النحوي الفقيه الشافعي، والشيخ عبدالرحمن بن الشيخ محمد التركماني ثم الشاغوري، وتذاكرنا في علوم عديدة، في الإعراب والموسيقى والعروض، ونظمنا الأشياء ونسأله الإحسان».

أما المطالعة الأدبية، فكانت تكثر في بستان ست الشام، «الكائن بالسهم الأدنى، شمال الجسر الأبيض والشبلية، وقبلي الحاجيه، مع بعض أفاضل وكانت المطالعة في كتاب «الصادح الباغم» للأديب الفاضل ابن الهبارية، وهناك بستان الطويل في منطقة المنيحة، وبستان الدوّاسات وبستان بني كريم الدين في الصالحية، وبستان المروبض في النيرب، وهناك بساتين أخرى ومنها بستان القطان بأرض المحاضر، وبستان ابن القرندس وبستان الوقف وغيرها».

ومثلما تنزه العلماء والأعيان في البساتين الخاصة، فقد وجد عامة الناس في المتنزهات العامة مجالاً للترفيه والتسلية، وهي في القرن التاسع عشر كانت كثيرة وكان أشهرها وأكثرها ما يقصده الناس متنزهات الصالحية والنيرب والمرجة وجهات من باب توما، وكانت حدائقها العمومية معدة للتنزه لا الاستثمار، ومن جنائنها المشهورة جنينة الأفندي، والمناخ والصوفانية، ويقول عبدالرحمن بيك سامي الذي زارها أواخر القرن التاسع عشر عام 1890م: «وقاصد هذه المحلات لا ينفق فيها كثيراً وهي على مدى السنة، ما خلا فصل الشتاء، غاصة بالمتنزهين».

وإلى جانب المتنزهات التي يذكرها ابن كنّان في النصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي، يقدم لنا محمد بن مصطفى الشهير بابن الراعي (ت 1195هـ/ 1780م)، ذكراً مفصلاً للمتنزهات والرياض والدمشقية، وأهمها: أراضي السهمين والسهمان من متنزهات الغوطة أراضي نقيب، وهي بالقرب من أراضي الصالحية، وكانت معروفة بجنائنها ورياضها. وأراضي النيربين وهي تلك الربوة من جهة دمشق، على سفح قاسيون، ويقال أيضاً: «النيربان أي النيرب الأعلى وهو البستان الواقع بين نهر نوري ويزيد والنيرب الأسفل، وهو البستان الواقع بين نهر ثوري وبردى»، وهي مزار ديني كما وصفها الهروي، ففيها قبر أم مريم. وأراضي الميطور كانت في عصر ابن الراعي عبارة عن قرية في سفح قاسيون من أراضي الصالحية، وكانت تمتد من الضفة الجنوبية لنهر يزيد بين بستان ساروجه وجسر النحاس وبين القابون ومشفى ابن النفيس اليوم. وأراضي سطرا وقد كانت قديماً في الطريق المقابل لباب مسجد الأقصاب، ويعرف هذا الطريق اليوم بجادة عاصم ويخترقه شارع بغداد. وهناك أراضي اللوان.

أما الجبهة، فوصفها ابن الراعي بقوله: «وهي رياض يفصل النهرُ بينها وبين وادي كيوان وأراضي الخلخال محاذية لأراضي اللوان، وقد سموا المرجة بأسماء تشرح الصدور وتبعث للنفوس واردات البسط والسرور وهي الميدان الأخضر، ووادي الشقرا والجبهة وصدر الباز والمرجة الخضرا ورياض الشرفين، فهي حدائق تطل على المرجة من الطرفين وكلها روضات وبساتين ... الخ ومن الحدائق رياض الخلخال، وتقع غربي المدينة وبنيت مكانها الثكنة الحميدية فهي محل جامعة دمشق اليوم.

ومن أشهرها أراضي الفيجة الخضرا، وتعتبر من أشهر متنزهات دمشق لكثرة جداول مياهها وأنهارها، وقد قال فيها الشعراء الكثير من القصائد، وهناك الربوة، وهي أكثر الأماكن وصفاً لدى الرحالة العرب».

ويشير ابن كنّان الصالحي إلى تبادل الزيارات بين العلماء في الربوة في شكل جماعي وقراءة السير، فيقول في أخبار شهر ذي الحجة سنة 1133هـ/1720م:» وفي يوم الاثنين، كنا مع جماعة من الأصحاب في الربوة وكان أكثر المطالعة بالسيرة الحلبية للشيخ علي الحلبي وكان البيات في المزة والإقامة نهاراً بالربوة السعيدة».

وفي موضع آخر من حوادثه، يبين ابن كنّان مدى كثافة الزيارات والدعوات، فهي تبدو متلاحقة في أيام الأسبوع، وهذا ما يفيده إخباره عن نزهة إلى البستان الكبير في منطقة الشاغور، فيقول: «وفي يوم الخميس رابع ربيع الأول - 1144هـ/1731م - دعانا السيد عبدالرحمن، من نواحي الشاغور إلى البستان الكبير، غرب الخلخال، ودعانا قبلي الميدان الأخضر، ودعا أصحاب وأفاضل... وبيوم السبت، كنا ببستان العيش قرب الربوة وأقمنا الأحد، فالإقامة يومان، وهذا البستان يسمى بستان كيوان».

ويبدو من خلال الأوصاف التي تقدمها كتب الفضائل والخطط، أن التنزه لم يكن محدداً بوقت أو مدة، فهو قد يستغرق ساعات أو ليلة، أو يستمر لأيام أو شهور، وما يؤكد ذلك «المقاصفية الواقفون في خدمة الناس وعندهم اللحف والأنطاع والعبي لمن يبات...». وقد تغري جماليات المكان كما هي الحال في منطقة الربوة، ووفق البدري في نزهة الأيام: «حتى أن بعض الناس يطلع إليها ليتنزه فيها يوما فيقيم بها شهراً».

وأبقى الدمشقيون حتى وقت قريب على عاداتهم في التنزه، بحدود ما تبقى من تلك المتنزهات التي ظلت عامرة حتى قبل خمسين سنة، إذ يقول محمد كرد علي: «ومن عاداتهم الخروج أواخر فصل الشتاء وأوائل الربيع إلى المتنزهات العامة يومياً في الأسبوع لاستنشاق الهواء النقي، على اختلاف عاداتهم ومذاهبهم، نساءً ورجالاً، وتكون أماكن جلوس النساء خاصة بهن غالباً، ولا يتيسر للرجال أن يخالطوهن بحكم العادة، والشاذ قليل».

ويصحب الناس معهم بعض الأكل والمشارب وفق ما أشار الباحث خالد رمضان في كتابه «السيران الدمشقي»، ومنها الفول المدمس والمكدوس والزيتون واللبنة والجبنة والزعتر والكشكة الخضراء والمجدرة والفول المقلى والكبة النية والسلطات بأنواعها والفواكه، إضافة الى المشروبات مثل شراب التوت والورد والشاي الأخضر والأحمر والقهوة والتمر هندي وعصير البرتقال وشراب الليمون.

وكان الناس يذهبون مشياً إلى المتنزهات القريبة، وأما البعيدة فيركبون إليها الدواب، وفي مرحلة متأخرة ركبوا الطنابر «عربات الخيول». وكان السيران جزءاً مهماً من الحياة، وينم عن شغف بالحياة وحب لها، سواء عند الغني أم عند الفقير، وقديماً قيل بالعامية الدمشقية: «يليِّ سيران ماله ياويل حالَهُ».

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)