تراث

الانقلاب الذي أحدثه الخليفة عبدالملك بن مروان في النقود العربية

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


االسبت ٨ فبراير (شباط) ٢٠١٤
جريدة الحياة
أنيس الأبيض


في أواخر عام 73 هـ شعر الخليفة عبدالملك بن مروان أنّ الدولة الأموية استعادت قوتها، وأنّها تستطيع أن تستأنف جهادها وتعلي إرادتها. وكانت العلاقات قد ساءت بين دولة الروم والدولة الإسلامية في هذه الفترة. وأخذ الروم يتأهّبون للانقضاض، فكان الخليفة عبدالملك لهم بالمرصاد، فعيّن أخاه محمد بن مروان والياً على الجزيرة وأرمينيا ليكون قائد الجبهة، وأمكن للدولة أن تحقق الانتصارات العسكرية وواصل الخليفة عبدالملك ضغطه على الدولة البيزنطية عبر الحدود.

وشرعت الجيوش الإسلامية بالتوغل داخل الأراضي البيزنطية القريبة. على أنّ الخطوة الأهم التي أقدم عليها الخليفة عبدالملك هي امتناعه عن إرسال النقود التي كان يسكنها وقت الضرورة، والتي اعتبرت الخطوة الأولى لعملية تعريب النقود العربية وتخليه عن استعمال نقود البيزنطيين، مما أثار حنق الأمبراطور البيزنطي فأعلن حربه على الخليفة عبدالملك.

والواقع أنّ الحديث عن النقود العربية قد شغل اهتمام العديد من العلماء والباحثين من الناحية العلمية والفنيّة الذين كان لهم فضل الكشف عن حقائق كثيرة في هذا الميدان. ويأتي في مقدمهم أولر ودركاستيلوني وشتكيل، وجاء من بعدهم المؤرخ الكبير لينبول بإنتاجه الضخم في ميدان النقود والموازين العربية.

وعلى رغم وفرة الباحثين من المستشرقين إلا أنّ النقود العربية لم تلق عند الشرقيين العناية بتاريخها، غير ما كتبه أدباء كقدامة بن جعفر والقلقشندي أو رحالة كناصر خسرو وابن بطوطة وحتى هؤلاء تناولوا في كتبهم موضوع النقود العربية في نبذ عرضية أو فصول خاصة ما عدا المقريزي الذي خصّص لها كتيباً مستقلاً سماه «شذور العقود في ذكر النقود».

ولكنهم جميعاً يشتركون في الاكتفاء بتعميم من دون استيعاب للموضوع. كما فعل المستشرقون الذين كتبوا في المادة نفسها بكثير من التخصص والإحاطة. وإن كان لكتابنا العرب على كل حال فضل السبق في تسجيل معلومات مهمة عن النقود في مؤلفاتهم استفاد منها المستشرقون القدامى منهم والمحدثون.

وأهمية الحديث عن النقود العربية هي في كونها وثائق مهمة يمكن الاعتماد عليها في معرفة الحقائق التاريخية سواء ما يتعلق منها بالأسماء أو العبارات الدينية المنقوشة، فهي تسجل للألقاب والنعوت التي تلقي الضوء على كثير من الأحداث السياسية التي تثبت أو تنفي تبعية الولاة أو السلاطين للحكومات المركزية في التاريخ العربي الإسلامي.

لذلك تعتبر النقود العربية الوثائق الرسمية الصحيحة التي لا يسهل الطعن في قيمتها، وهي فوق هذا كله تعتبر مستندات الوحدة السياسية والاقتصادية في العالم العربي منذ أن كانت دمشق وبغداد والقاهرة مراكز الإشعاع الاقتصادي.

ففي سورية تمّ على يد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان (65 – 86 هـ) تأمين دور لسك وتعريب النقود التي تداولتها الشعوب الإسلامية كافة. فلم تعد نقود العرب تدور في فلك النقود البيزنطية أو الفارسية أو ترتبط بأسعارها وأوزانها.

ثم حملت مصر والعراق مشغل الإصلاح النقدي الذي أضاءته العاصمة الأموية دمشق فأسهمت القاهرة وبغداد في ضرب النقود العربية ونشرها خلال العمليات التجارية في الخليج العربي وحوض البحر المتوسط بقدر ما أسهمتا في إقامة دور جديدة للسك وتزويدها بالفنيين فضلاً عن المعادن النفيسة اللازمة.

وتقتضي الأمانة التاريخية أن نشير إلى ما أجمع عليه العلماء بأنّ الليديّين في آسيا الصغرى في عهد قارون الليدي (565 – 546 ق.م) هم أول من سكّ النقود المعدنية من الذهب والفضّة استناداً إلى رأي هيرودوت. وقد انتشرت هذه السبائك النقدية في ليديا من طريق المدن الساحلية اليونانية في آسيا الصغرى إلى بلاد اليونان نفسها حيث تطورت إلى أقصى درجات التطور الفني، وانتشرت على أيدي التجار في أنحاء العالم، وقد اتخذت كل دولة إلهاً لها يرمز إليها نقشته على نقودها. وعلى هذا الأساس سارت سنة الأشكال النقدية حتى العهد الإسلامي حيث نقشت على النقود العربية شهادة التوحيد «لا إله إلا الله وحده لا شريك له».

أما في ما يخص النقود العربية فتحدّثنا المراجع التاريخية عن محاولات مبكّرة لإصلاحها وتعريبها، تلك المحاولات التي بدأت على يد الخليفة الأسدي عمر بن الخطاب سنة 17 هـ حين ضرب الدراهم على نقش الكسروية وشكلها والفلوس البرونزية على الطراز البيزنطي. وكذلك محاولات الخليفة معاوية بن أبي سفيان الذي ضرب الدراهم والفلوس وعليها اسمه وصورته.

وقد أشار المقريزي إلى دنانير الخليفة الأموي (41 – 60 هـ) ذات الصورة وهي أول دنانير إسلامية ضربت على طراز الدنانير البيزنطية التي تحمل صورة الأباطرة البيزنطيين.

ومهما قيل حول محاولات الخليفة عمر والخليفة معاوية في توحيد النقود العربية فإنها لم تحمل محاولات خلق وابتكار بقدر ما كانت عمليات تقليد للنقود البيزنطية أو الساسانية.

وفي عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان حدث الانقلاب النقدي، حيث ضربت أول نقود عربية كضرورة من ضرورات الاستقلال الاقتصادي والسياسي. ولا يختلف المؤرخون العرب في نسبة الطراز العربي للنقود إلى عبدالملك بن مروان بقدر اختلافهم في الدافع الذي أدّى به آخر الأمر إلى ترك التعامل بالنقود البيزنطية.

ويمكن الوقوف على هذا الدافع في النصوص التي ذكرها البيهقي في «دور المجالس والمبادئ» والدجيري في «حياة الحيوان» والبلاذري في «فتوح البلدان» والمقريزي في «شذور النقود» وأبو المحاسن في «النجوم الزاهرة» وهي نصوص تتلخّص في أنّ السبب في ضرب النقود العربية هو أنّ أوراق البردى التي تصدر من مصر إلى بيزنطة كانت تسجّل عليها عقيدة الإيمان المسيحية. فكتب الخليفة عبدالملك بن مروان إلى عامله في مصر عبدالعزيز بن مروان بإبطال هذا الطراز من الكتابة على البردى وأمره أن يكون طرازها شهادة التوحيد.

ولما وصلت أوراق البردى الإسلامية إلى إمبراطور الروم «جوستنيان الثاني» احتج على الخليفة عبدالملك ما أغضب الأخير فأشار عليه أهل الرأي بضرب نقود عربية عليها شهادة التوحيد والرسالة المحمدية، فعمل الخليفة عبدالملك بهذه الشورى.

وهناك رأي آخر في سبب النزاع بين الخليفة عبدالملك وجوستينيان الثاني عندما عمل الخليفة عبدالملك على تطوير هذه النقود الإسلامية خطوة جديدة في سبيل استقلالها عن التأثيرات البيزنطية فاستبدل صورة هرقل وولديه بصورته هو مع الإبقاء على التأثيرات المسيحية كالعمود القائم على المدرجات الأربعة الذي كان يحمل الصليب أصلاً، وأصبح على وجه الدينار صورة الخليفة عبدالملك وعلى ظهره كتابة هامشية نصها «بسم الله ضرب هذا الدينار سنة ست وسبعين أو سبع وسبعين».

والمهم أنّ ظهور هذه النقود الإسلامية المزيّنة بصورة الخليفة عبدالملك كان سبب النزاع الحاد الذي قام بين الإمبراطور البيزنطي والخليفة الأموي إذ أنّ ضرب نقود ذهبية بصورة حاكم آخر غير امبراطور الدولة البيزنطية لم يجرؤ عليه أحد من الخلفاء قبل الخليفة عبدالملك.

وكان جوستينيان الثاني يدافع عن هذا الحق كقاعدة عامة يجب احترامها كالمبدأ، ولذلك عارض الخليفة عبدالملك في الوقت الذي ظهر فيه هذا الطراز من النقود العربية الجريئة، بل فسخ المعاهدة المبرمة بين البيزنطيين والعرب لأنّ الأتاوة العربية السنوية لم تدفع بنقود تحمل صورة الإمبراطور البيزنطي لكنها قدمت بنقود عربية تحمل صورة خليفة عربي. وعبثاً حاول الخليفة عبدالملك أن يقنع الدولة البيزنطية بقبول نقوده الجديدة المصورة ما دام وزن الذهب هو المعول عليه.

وعلى أية حال فإنّ النقود العربية التي تزيّنها صورة الخليفة عبدالملك كانت خطوة ثورية في سبيل الإصلاح النقدي لأنّها كانت خطوة في حقيقتها ثورة على نظام النقد البيزنطي العالمي الذي أشار إليه «نورمان باينر» إذ ذكر أنّ هذا الاستقرار العجيب في السياسة المالية الرومانية قد ضمن للبيزنطيين العملة العالمية التي كانت مقبولة عند جميع الأمم المجاورة بسبب وزنها المضبوط كأساس ثابت للتعامل واستطاعت بيزنطة أن تسيطر بنقودها على العالمين المتحضر والبربري.

وقد استغرقت هذه الثورة الإصلاحية أربع سنوات منذ سنة 73 هـ، وهو تاريخ فسخ المعاهدة البيزنطية - العربية، وتمّت بتعريب النقود تماماً سنة 77 هـ حين احتلت الكتابات العربية وجهي الدينار العربي واختفت الدنانير المصورة، وأصبحنا نقرأ في هامش الوجه عبارة تشير إلى الرسالة المحمّدية نصها «محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله» وفي المركز شهادة التوحيد ونصّها « لا إله إلا الله وحده لا شريك له» وعلى الوجه الثاني في الهامش كتابة تشير إلى تاريخ الضرب بسم الله ضرب هذا الدينار سنة سبع وسبعين» وفي المركز ثلاثة أسطر هي النص القرآني من سورة الإخلاص «الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد».

وهكذا نجح الخليفة عبدالملك بن مروان في تعريب النقود العربية الإسلامية تعريباً كاملاً، وبتعريب النقود سنة 77 هـ بدأ عهد من الاستقرار المالي فلم تعد نقود العرب تدور في فلك الدنانير البيزنطية أو غيرها أو ترتبط بأوزانها وأسعارها.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)