الأمير الصغير، الأسئلة الفلسفية - سانت إكزوبري Le Petit Prince - Antoine de Saint-Exupéry

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الخميس، ٧ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٧
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«الأمير الصغير» لسانت إكزوبري : الأسئلة الفلسفية للصغار والكبار


هو بالتأكيد أشهر كتاب فرنسي وُضع للأطفال في القرن العشرين. ولعل في إمكاننا أن نضع هذه العبارة الأخيرة بين معقوفتين، طالما أن كثراً من الباحثين والنقاد يلفتون النظر إلى أن «الأمير الصغير» لئن كان نصّاً قد اعتيد اعتباره كتاباً للأطفال، فإن فيه من العمق والأفكار ما يجعله مقروءاً من كل الأجيال فلا يشعر البالغون بأي حياء وهم حاملونه يقرأونه. ومن هنا، ربما يكون محقاً ذلك المستشار في إحدى دور النشر الفرنسية الذي اقترح ذات مرة تزيين طبعة جديدة منه بتلك اللوحة الشهيرة الغامضة التي رسمها الفرنسي الآخر بول غوغان بعنوان «من أين أتينا؟ من نحن؟ وإلى أين، ترانا، ذاهبون؟». ففي عمق أعماقه لا شك في أن «الأمير الصغير» نص فلسفي يدنو من «روبنسون كروزو» وبالتالي من «حيّ بن يقظان»، أكثر من دنوه من أي كتاب آخر. ومن هنا لم يكن مخطئاً الكاتب البرازيلي باولو كويلو حين استلهمه حين وضع كتابه الأشهر «الخيميائي» كنص «فلسفيّ» مزعوم. ومع هذا، فإن أنطوان دي سانت إكزوبري حين كتب «الأمير الصغير» لم يكن يتوقع له لا النجاح الذي سوف يكون من نصيبه ولا حتى أن يُنظَر إليه ككتاب فلسفي. كل ما كان يتوخاه إنما كان التعبير عن بعض أفكار وأسئلة تراوده وتلح عليه بخاصة حين يكون وحيداً على متن طائرته يجتاز البحار والغابات والصحارى في مهمات كانت في بدايات الأمر مدنية لتصبح لاحقاً عسكرية تطوعية خلال الحرب العالمية الثانية، كما سنرى بعد سطور.

إذاً، انطلاقاً من وحدته في مهمات الطيران ولا سيما بين جنوب فرنسا وشمال أفريقيا، وضع الكاتب هذا النص الذي صوّر فيه طائرته تحط لعطل ما وسط صحراء شاسعة ضائعة لا يُقيّض له أن يلتقي فيها إلا بذلك الأمير الصغير المقيم في وحدته هناك، والذي تُروى لنا حكايته، ولا سيما حكاية حبه زهرة كان يعتقدها فريدة في الكون، وتنقله بين الكواكب والعوالم، وصداقته مع ذلك الثعلب الذي يطلب منه أن يروّضه كي يصبح الاثنان فريدين في عالم متشابه. ونعرف أن كل هذه الحكايات والعبر الفلسفية والحياتية المستخلصة منها، وما ينقله الطيار ويكتشفه من خلال ذلك اللقاء الفريد والذي يسري في نهاية الأمر، مثل حلم لذيذ، كل هذا هو الذي يشكل عوالم وتفاصيل تلك «الرواية» القصيرة التي كانت مع «رسالة إلى رهينة» آخر ما نُشر للكاتب في حياته وكان ذلك قبل «اختفائه» بعام ونيّف كما سنرى. والحقيقة أن «الأمير الصغير» اعتبرت منذ صدورها، حتى وإن كانت توجهت في طبعاتها المتتالية إلى الصغار، كتاباً للبالغين يتسم أول ما يتسم بالتأمل الفكري بل الفلسفي، وينطلق من ذلك التساؤل الذي ربما كان واحداً من جذور السؤال الفلسفي الأبدي: ما الذي نفعله هنا؟ ثم: ما هي القيم الحقيقية التي تستحق أن نلتزم في شأنها؟ وإلى هذا نعرف أن النقاد ربطوا دائماً بين نصّ «الأمير الصغير» ونصّ للكاتب نفسه سبقه بعام واحد عنوانه «طيار الحرب» على اعتبار أنهما معاً ينطلقان من تجربة هبوط حقيقية للكاتب الطيار في بيئة صحراوية، فكان النص الأول أوتوبيوغرافياً فيما اتخذ الثاني ذلك الطابع التخييلي الذي أسبغ على «الأمير الصغير» شهرته، ما جعل النصين يبدوان أشبه بأمثولة فكرية متكاملة، ترتكز بخاصة على سؤال نقاء مطلق يدور أكثر من أي شيء آخر، من حول لانهائية الصحراء.

مهما يكن من أمر، وبصرف النظر عن كون «الأمير الصغير» آخر ما نشر له في حياته، فإن أحداً لن يعرف التاريخ الحقيقي لرحيل الكاتب الفرنسي أنطوان دي سانت إكزوبري، ولكن من المؤكد أن تاريخ 31 تموز (يوليو) 1944 هو التاريخ الذي اختفى فيه غير تارك أي أثر، هو الذي كان قد استقل طائرته عند الثامنة والنصف من صباح ذلك اليوم منطلقاً من قاعدة باستيا - يورغو في جزيرة كورسيكا، متوجهاً إلى منطقة غرينوبل -آنيسي، وهي رحلة كان من المفروض أن تستغرق ثلاث ساعات على الأكثر، ولكن حين حلت الساعة الواحدة والنصف ظهراً، ولم يبد لسانت إكزوبري أو لطائرته أي أثر، عم القلق الجميع، بخاصة أنهم كانوا يعرفون أن الوقود الذي يحمله لا يكفي لأكثر من ساعة إضافية. وهنا بدأت حملات التفتيش عن الطائرة ورأى بعضهم أن الطائرات المقاتلة الألمانية ربما تكون قد اعترضت طائرته وأسقطتها، أما قيادة قوات الحلفاء في المنطقة فقد أكدت بعد سلسلة من عمليات الاستطلاع أن المنطقة لم تشهد، في الحقيقة، أية معركة جوية. وكانت النتيجة أن اعتبر سانت إكزوبري مفقوداً منذ ذلك الحين، واعتبر ذلك التاريخ تاريخ رحيله.

والاهتمام الاستثنائي بسانت إكزوبري لم ينبع بالطبع من كونه طياراً، فما أكثر الطيارين الذين كانوا يسقطون ويختفون ويقتلون في ذلك الحين أي خلال الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، بل إن الاهتمام نبع من كون ذلك الطيار، في الحقيقة، واحداً من أكبر وأهم الأدباء الذين عرفتهم اللغة الفرنسية خلال الربع الثاني من القرن العشرين، وحسبنا هنا أن نذكر أنه هو مؤلف الكتاب الفذ «الأمير الصغير» حتى نعطي القارئ صورة مباشرة عن أهمية ذلك الكاتب ومكانته. فـ «الأمير الصغير» هو الكتاب الفرنسي الذي يقرأ حتى الآن أكثر من أي كتاب فرنسي آخر، والذي ترجم إلى أكبر عدد من اللغات ومع هذا على رغم شهرة الكتاب وشهرة كاتبه، فإن القدر لم يمهل هذا الأخير حتى يحقق المشاريع الكتابية كافة التي كان يطمح إلى تحقيقها، هو الذي لم ينشر له خلال حياته القصيرة (1900 - 1944) سوى خمسة كتب أولها «بريد الجنوب» (1928) وآخرها كما أشرنا، «الأمير الصغير» و «رسالة إلى رهينة» (الاثنان نشرا عام 1943)، إضافة إلى «طيران الليل» (1931) و «أرض الرجال» (1939) و «طيار حربي» (1942). أما كتب سانت إكزوبري الأخرى ومنها رواية «قلعة» التي لم تكتمل فقد نشرت بعد رحيله، ومعظمها مجموعات رسائل أو شذرات من ذكريات.

ولد أنطوان دي سانت إكزوبري عام 1900 في ليون لأب نبيل وهو أغرم بالطيران وبالأدب، معاً، منذ طفولته، وكان في الثانية عشرة حين قاد طائرة للمرة الأولى وكتب في وصف ذلك «قصيدة جوية»، ثم نال عامي 1921 و1922 شهادتي الطيران المدني والعسكري، وصار طياراً على خط تولوز- المغرب وبدأ يستعير من تجربته المادة التي ساعدته على كتابة نصوص كتابه الأول «بريد الجنوب» الذي عرّف به القراء الفرنسيين أول الأمر بكونه كاتباً متفرداً في أسلوبه ولكن بخاصة في مواضيعه المستقاة مباشرة في غالبيتها، من تجاربه كطيار يمضي وقتا وهو يتأمل الفراغات اللامتناهية متأرجحاً وسط الموت والحياة، كما سوف يقول عنه النقاد لاحقاً. أما شهرة سانت إكزوبري الحقيقية ككاتب فبدأت عام 1931 حين أصدر كتابه «طيران الليل» إثر إنقاذه زميله الطيار الفرنسي غيوما الذي كان ضائعاً في جبال الانديس، وكان كتاباً قدّم له اندريه جيد وفاز بجائزة فمينا. واستقبله الجمهور استقبالاً كبيراً بخاصة أن شهرة مؤلفه كطيار ومغامر كانت قد انتشرت.

ومع هذا، يبقى كتابه «الأمير الصغير» أفضل كتبه وأشهرها، لأن سانت إكزوبري لخص فيه تجربته الحياتية، حيث نراه، في نص خادع يبدو للوهلة الأولى وكما أسلفنا أعلاه، كأنه كتب للصغار، يطرح أسئلة وجودية عميقة وجوهرية، كانت هي هي الأسئلة السائدة في تلك المرحلة من القرن العشرين، أسئلة التفت فيها الفرد إلى داخل ذاته ولا سيما في ضوء الحوادث العاصفة الدامية التي كانت تشهدها تلك السنوات الغريبة من تاريخ القرن العشرين. ومع ذلك، لعل أبرز ما في ذلك الكتاب ما عبّر عنه كاتبه من هوس بالصحراء التي كان قد أولع بها منذ حقق فيها ذلك الهبوط الاضطراري بطائرته فراحت تلك الصحراء تعبّر بالنسبة اليه عن الفراغ اللامتناهي والصفاء الخالص، ولكن كذلك عن تمكّن الإنسان المغامر من التخلص، في لانهائية الصحراء، من كل ما يمت إلى المادة بصلة ليغوص في ذلك العالم الروحي الذي لا شك في أن شخصية الأمير الصغير في حد ذاتها كانت هي الرمز الواضح له.

إبراهيم العريس

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)