الأماكن في روايات نجيب محفوظ

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الخميس 8 نوفمبر 2018
جريدة الحياة
ثقافة ومجتمع
خالد عزب


سيرة المكان الأول في روايات نجيب محفوظ


يقول نجيب محفوظ: «حبي وارتباطي بالقاهرة القديمة لا مثيل له. عندما أمرُّ في المنطقة تنثال عليَّ الخيالات، وأغلب رواياتي كانت تدور في عقلي كخواطر حيّة أثناء جلوسي في هذه المنطقة. يخيّل لي أنه لا بد من الارتباط بمكان معين، أو شيء معين يكون نقطة انطلاق للمشاعر والأحاسيس. والجمّالية (حي شعبي في القاهرة) بالنسبة إليّ هي تلك المنطقة».

ومن هذه العلاقة المتينة بالمكان، يتتبع مشروع رائد، نظّمه عالمُ المصريات فكري حسن، شخصيات وأحداث روايات نجيب محفوظ في القاهرة التاريخية.

ومع اقتراب ذكرى ميلاد نجيب محفوظ، نعود الى بدايات الأديب العالمي الذي اتخذ من المكان الأول حجر الأساس في عمارته الأدبية. ولد نجيب محفوظ في 11 كانون الأول (ديسمبر) 1911 على ناصية درب قرمز المطل على ميدان بيت القاضي الذي يتميز بمبنى تاريخي لمخفر الجمالية على الطراز البريطاني في منطقة بين القصرين التي أصبحت مجالاً لأشهر أعماله الأدبية – الثلاثية - وهو عاش هناك حتى سن الثامنة قبل انتقال العائلة إلى حي العباسية، ولكن صلته بالمكان لم تنقطع. وأعطى محفوظ أسماء شوارع وحواري الحي لخمسٍ من رواياته؛ «خان الخليلي» و«زقاق المدق»، و«بين القصرين»، و«قصر الشوق» و«السُكّرية».

تقع هذه الشوارع والحواري في نطاق محدود يمتد من «بين القصرين» إلى «الحُسين»، باستثناء «السكرية» التي تقع في حي الدرب الأحمر. وتطالعنا القاهرة القديمة في الصفحات الأولى من «بين القصرين»؛ ونتعرف على موقع بيت أسرة «أحمد عبد الجواد» من خلال عيني زوجته «أمينة»، أثناء وقوفها خلف مشربية تطل على «سبيل بين القصرين». ويصف نجيب محفوظ الطريق تحت المشربية التي يلتقي عندها شارعا النحَّاسين الذي ينحدر إلى الجنوب وبين القصرين الذي يصعد إلى الشمال: «ويبدأ الطريق إلى يسارها ضيقاً ملتوياً متلفعاً بظلمة تتكثف في أعاليه حيث تطل نوافذ البيوت النائمة وتحف في أسافله بما يلقي إليه من أضواء مصابيح عربات اليد وكلوبات المقاهي وبعض الحوانيت التي تواصل السهر حتى مطلع الفجر، وإلى يمينها يلتف الطريق بالظلام حيث يخلو من المقاهي، حيث توجد المتاجر الكبيرة التي تغلق أبوابها مبكراً، فلا يلفت النظر به إلا مآذن قلاوون وبرقوق التي تلوح كأطياف من المرَدَة ساهرة تحت ضوء النجوم الزاهرة». وهو موقع الساحة التي كانت تمتد بين القصر الكبير والقصر الصغير الفاطميين. وما يسميه محفوظ «سبيل بين القصرين»؛ هو «سبيل عبد الرحمن كتخدا»، الذي يتلاقى عنده شارع التمبكشية وشارع المعز.

ويمكننا تحديد مكان بيت أحمد عبد الجواد بالمنزل الذي يتلاقى عنده درب قرمز والتمبكشية وبه الآن مشربيات حديثة. وبذلك يطل البيت على «قصر الأمير بشتاك» (1339م) بمشربياته المملوكية. وينطبق على درب قرمز وصف الشارع الضيق الملتوي. أما على اليمين فيقع شارع المعز الذي يمثل قلب المنطقة الأثرية. وإذا سرنا جنوباً سنجد على يميننا حمام السلطان إينال (1456م)، المدرسة الكاملية من العصر الأيوبي (1225م)، مدرسة السلطان برقوق (1386م) ثم مدرسة الناصر محمد (134م) ثم مجموعة قلاوون (1285م) وتشمل مسجداً وضريحاً ومدرسة وبيمارستان.

ويواجه مدرسة الناصر محمد على اليسار سبيل وكُتَّاب محمد علي الذي يضم متحف النسيج؛ وهو على ناصية شارع بيت القاضي الذي يواجه مجموعة السلطان قلاوون. وعلى ناصية شارع بيت القاضي وشارع المعز يقع ما تبقي من مدرسة الظاهر بيبرس (1263م) تليه أقبية الصالح نجم الدين أيوب (1249م) ثم واجهة مدرسته التي تطل على الجزء من الشارع المسمى شارع النحاسين.

وفي الفصل السابع من «بين القصرين» يقول نجيب محفوظ: «عندما بلغ السيد أحمد عبد الجواد دكانه الذي يقع أمام جامع برقوق بالنحاسين». في الواقع توجد أمام مدرسة برقوق حالياً بعض الدكاكين. وفي الفصل الثاني عشر يصف نجيب محفوظ حركة ياسين عبد الجواد: «ثم اتجه صوب الصاغة، ومنها إلى الغورية ومال إلى قهوة سي علي على ناصية الصناديقية، وكانت شبه دكان متوسط الحجم يفتح بابُها على الصناديقية وتطل بكوة ذات قضبان على الغورية وقد اصطفت بأركانها الأرائك». وبالفعل يؤدي شارع النحاسين إلى الصاغة ويقطع شارع المعز في نهايتها شارع الموسكي (جوهر القائد). ويسمي امتداد المعز جنوباً «العطّارين» ويقطعه شارع الأزهر.

ويستمر شارع المعز جنوباً تحت مسمى الغورية حيث توجد مجموعة السلطان الغوري. أما الصناديقية فهي حارة ضيقة وقت أحداث الرواية (1918). ومن الأزهر أو الموسكي غرباً نصل إلى القاهرة الخديوية التي ترتادها شخصيات محفوظ في رواياته. كما يمكن الوصول إلى العباسية حيث انتقلت عائلته من الحسينية. ويسلك أحمد عبد الجواد عندما يذهب مع أولاده لصلاة الجمعة في مسجد الحسين الطريق نفسه الذي مشت فيه «أمينة» وابنها «كمال» من قبل. وفي الفصل الأربعين تنتقل الأسرة من بين القصرين إلى السكرية المجاورة لبوابة المتولي (باب زويلة) وهي البوابة التي تقع في السور الجنوبي للقاهرة القديمة ويمكن الوصول إليها من الغورية في اتجاه العقّادين. وفي رواية «قصر الشوق» يمشي كمال مع صديقه فؤاد عبر قبو قرمز، الذي يقع في الطريق من بيت القاضي إلى المعز ويمتد تحت مبنى مجاور (مدرسة الأمير سابق الدين مثقال- 1362م) ويوجد قبو آخر جنوب قصر بشتاك مباشرة في حارة بيت القاضي ومن هناك يصل كمال وصديقه إلى مقهى «سي عبده»؛ وهو في خان الخليلي ويقع تحت الأرض وتتوسطه نافورة.

أزيل هذا المقهى وضم إلى مخبأ وبنيت فوقه مجموعة عمارات الأميرة شويكار الجديدة القائمة حتى الآن. كما يذكر نجيب محفوظ «سينما الكلوب المصري» عندما يقول كمال لصديقه: «سنذهب يوم الخميس القادم إلى الكلوب المصري لمشاهدة شارلي شابلن». وتقع سينما الكلوب المصري في ساحة فندق قديم لا يزال موجوداً حتى الآن في الطريق إلى مسجد الحسين من شارع خان جعفر، ويضم الفندق فناء مكشوفاً كانت تعرض به أفلام سينمائية في الثلث الأول من القرن العشرين، وقدم أول عرض سينمائي في مصر في هذه السينما عام 1910 وارتادها نجيب محفوظ في صباه. وتواجه الفندق «مطبعة الحلبي» التاريخية. وفي الفصل الحادي والعشرين يصف نجيب محفوظ نافذة منزل «أم مريم» التي تطل على حمام السلطان مباشرة.

وفي الواقع، يواجه «حمام السلطان إينال» «قصر بشتاك». ونصادف حمام السلطان مرة أخرى عندما تنظر إليه عائشة: «وهكذا وقفت ذاك الصباح فظلت حائرة ما بين حمام السلطان وسبيل بين القصرين... حتى تراءى عن بعد (المنتظر) وهو ينعطف قادما من الخرنفش». والخرنفش في الواقع على بعد مسافة بسيطة إلى الشمال من قصر بشتاك وسبيل بين القصرين (عبد الحمن كتخدا). وفي الفصل الثامن عشر: «يمضي ياسين عبر شارع الجمالية، ثم يرى عطفة قصر الشوق». ويتفرع شارع قصر الشوق من شارع الجمالية عندما يتحول إلى شارع «خان جعفر». وعندما تذهب أمينة لتزور مسجد الحسين مع كمال نجدهما يغادران البيت إلى درب قرمز، ثم ميدان بيت القاضي، ثم طريق خان جعفر المؤدي إلى الجانب الغربي من مسجد الحسين. نجيب محفوظ اعتز بهذا الحي وهو يشكل مساراً سياحياً له طابع ثقافي وتعليمي كبير، ومن هنا فإن ذلك الاعتزاز جعله يقول: «منذ مولدي في حي الحسين وهذا المكان يسكن في وجداني، عندما أسير فيه أشعر بنشوة غريبة جداً، أشبه بنشوة العشاق».

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عن صورة المقال

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)