الأشجار واغتيال مرزوق، عبد الرحمن منيف (السعودية)، رواية

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة السابعة والعشرون ـ العدد 8413 الخميس 24 آذار (مارس) 2016 ـ 15 جمادي الثانية 1437هـ
رامي أبو شهاب - كاتب فلسطيني ـ أردني


قراءة جديدة لرواية «الأشجار واغتيال مرزوق» لعبد الرحمن منيف

العالم لم يتغير كثيرا... توصيف عابر للزمان والمكان


على الرغم من مرور أكثر من 41 عاماً على صدور رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» للروائي العربي عبد الرحمن منيف، غير أنها ما زالت تنطوي على توصيف للذات العربية وهزائمها، فالمحمولات الدلالية بقيت فاعلة، ولا سيما إذا قرأت الرواية في سياقات زمننا المعاصر. هذا العمل المؤطر ضمن ثيمات ووظائف سردية تشكل مجتمعة بنى متقاطعة، وحيناً متوازية، تنبثق من بؤرة واحدة هي الخطاب الروائي العابر للأزمنة، والقادر على تفسير إشكالية الإنسان العربي نتيجة فهم متبصر للبنية الثقافية للواقع العربي.

يجتمع في الرواية نمطان إنسانيان، يفصلهما تقاطع حاد، هذان النمطان المتباعدان المتماثلان يبرزان عبر شخصيتين روائيتين، هما إلياس نخلة ومنصور عبد السلام، حيث يتمكن الخطاب عبرهما من توجيه أنظمة البث بالتظافر مع عناصر حكائية أخرى تشكل في مجملها الوظائف السردية. تبدأ الرواية بمونولوج داخلي، تضطلع فيه الشخصية الأولى (منصور عبد السلام) يؤثث فيه لثبات داخلي، يبدد فراغا وجوديا محيطا به، فتكون مقدمة الرواية تعبيرا عن الرغبة في التجاوز، وهي قراءة ثابتة في كتلة العمل الروائي الكلية، ومرتكزا ضوئيا للرواية عامة، وهي بمثابة عتبة نصية تضيء المتن الروائي:

« …. لا تضعف، أتسمع ما أقول لك؟ لا تضعف وهذه الأشياء التي قد تخلف في نفسك ذكرى أو تخلف عاطفة، أتركها».

يحاول منصور عبد السلام أن يقتلع نفسه من فضاء ما، رغبة منه في التجاوز، فتتشكل الرحلة بدلالتها الرمزية أداة لولادة جديدة، وهي هنا إحداثية، تبدأ الرواية من خلالها بالنمو، ولكن باتجاه عكسي نحو الماضي، وهنا تبرز شخصية إلياس نخلة لتدعيم ثنائية هذا النكوص الزمني، باتخاذه مهمة السرد من خلال تقنية الاسترجاع في نقطة متحركة إلى الأمام، وهنا يداخل الكتاب بين الزمان والمكان، فالسرد يعود إلى الخلف من خلال فعل الحكي، واسترجاع الأحداث، ويتخذ هذا الحدث من القطار مكانا سرديا وظيفيا، مع ملاحظة أن القطار هو معادل موضوعي للتجاوز من تبعات المكان وتجاوز الزمن الخاص به، مع الأخذ بدلالة التقدم المستمر، وهنا تتولد المفارقة في كينونة العمل الروائي الكلي.

يلجأ الروائي إلى قطع السرد (سرد إلياس نخلة) في محاولة للتحريض النفسي، من خلال تلك المونولوجات التي يعهد بها لمنصور عبد السلام لتداخل سرد إلياس نخلة، وكأن منصور عبد السلام يجد في حديث إلياس نخلة مثيراً نفسياً، كي يدلي هو الآخر بما في جعبته أو بوحه، ولكنه بوح متقطع، وربما كان انفعاليا، ولولا وجود إلياس نخلة لما تجرأ منصور عبد السلام على فعل الحديث الذي يبدو إشكالية عميقة تسكن التكوين العربي المحاصر بالقمع، وعدم القدرة على التعبير عن الذات، ومقدار البؤس الذي يلازمه بوصفها قدراً ملازماً للإنسان العربي.

بعد (174) صفحة استغرقها إلياس نخلة في سرد مفعم بحركة شعرية، داخلتها أحيانا مونولوجات منصور عبد السلام، ضمن تداع منتشر على طول المتن الروائي، تتوج بسرد خالص ونقي، يحين زمن منصور عبد السلام للاضطلاع بمهمة القص المشوب بتشكك من الجدوى المحيطة به، مما يغلف هذه الشخصية بطابع سلبي: «ألا يحق لمنصور عبد السلام أن يقول شيئا؟ صحيح إنه إنسان عادي، ولكن أليس لدى كل إنسان شيء يمكن أن يقوله». ويتضح أن هذا البوح متصل بما للمكان من دلالة محددة، فكما يقول يوري لوتمان «بأن الإنسان يخضع العلاقات الإنسانية والنظم لإحداثيات المكان». إن المكان الذي اجتمع فيه إلياس نخلة بمنصور عبد السلام، يظهر ذلك القلق المتمثل في عدم الاستقرار، لقد اختار منيف ذلك المكان للدلالة على التقاطع والتوازي من خلال الشخصيتين الرئيستين، وارتباطهما بفكرة الوطن بما يمثله من حافز سلبي للانتقال بعيداً، لما يمثله من دلالة سلبية في وعي الشخصيات، وهذا يعني أن الإنسان العربي ليس إلا رحلة مجسدة للبحث عن ذاته، أو عن عالم آمن ومستقر، لا وجود فيه للخوف والسلطة.

يبرز الوطن من خلال (طيبة) طيبة إلياس نخلة، في مقابل وطن منصور عبد السلام، إذ يتقاسم كلاهما تلاشي معنى الوطن، فمأساة إلياس نخلة تمثلت بقطع الأشجار، ولهذا اضطر إلياس إلى رحلة طويلة من المعاناة من خلال البحث والعمل في عدة مهن، مما ساهم في تشكيل ذاته القاصرة عن توفير شيء من الكرامة، ولكنها حالة تتماثل وتتطابق مع مأساة الإنسان عربياً، وهي ليست مقصورة على الإنسان البسيط فحسب، إنما تطال المثقف الممثل سردياً بمنصور عبد السلام، الذي اضطر إلى مغادرة وطنه، وهذا ما ينطبق وقع الحافر على الحافر في انبعاث تلك الجموع البشرية من اللاجئين، والباحثين عن عمل، ولقمة العيش في عالمنا اليوم، ومن هنا فإن سلبية مفهوم الوطن تضغط على الإنسان ومشروعه الإنساني، بغض النظر عن واقعه وخلفيته الثقافية، وفضائه الفكري، كما إحداثية الوطن.

إن التساؤل المشروع، أي وطن كان يقصد منصور عبد السلام؟ ولماذا لم يصرح بذلك الوطن باسمه؟ ولماذ يتركه منيف عائماً؟ أضف إلى ذلك التعويم الممارس على الشخصية، ونعني هنا (منصور عبد السلام)، فهو لا يصرح بأي انتماء سياسي، ولا نعرف ضمن أي نظام يقع فضاؤه، ربما يكون مرد ذلك، إلى أن القضايا التي يطرحها منيف هي قضايا شمولية تدان في الرقعة العربية عامة بلا استثناء، بل هي ما زالت قابلة للتطبيق ضمن السياق المعاصر، فهو لا يقيم فرقا، فالكل سواء، وهنا إدانة كاملة للعقل العربي.

وهكذا يتبدى المكان بدلالاته العامة، وفضائه الكلي ذي أهمية في تقاطعه مع الإنسان، إن تعاطي شخصية إلياس نخلة مع الطيبة يأخذ حركة تبدو للوهلة الأولى مختلفة عن التعاطي منصور عبد السلام مع وطنه، إن ذلك الأثر الظاهر في شخصية إلياس نخلة بتعالقه مع قريته الطيبة يبدو دائم التكرار من خلال حديث إلياس نخلة المتكرر عنها خاصة، وعن المدن عامة:

«أتعرف؟ ما هي المدن؟ هل هي الأحجار وقباب الكنائس؟ هل هي عقاقير الأخوين نصراوي؟ هل هي الدركي المقتول عندما أدفع ثمن قتله أربعة أشهر في السجن؟ أتعرف…؟ أن المدن هي البشر والأشجار والبشر والأشجار في الطيبة، لم يعودوا كما كانوا من قبل. لقد اختفت الطيبة تغيرت».

هذه التعبيرات المبثوثة حول المكان، وثباته، تسير وفق علاقة اتسمت بالشد والجذب بين المكان والإنسان، فإلياس نخلة متيم بالطيبة، ولكنه في الوقت ذاته يرى في ذلك المكان تحولا، وهذا التحول لا يقتصر على البعد المادي، ولكنه يصيب أيضا الجانب المعنوي، ليشمل التحول في جوهر الإنسان، الذي لن يعود كما كان، وهذا ما نعاينه بجلاء في العديد من الدول العربية التي أصابتها جرثومة العنف، ورفض الآخر.

في حين أن المكان من وجهة نظر إلياس نخلة، يتسم بالتوتر، فهذا المكان كان دوما نقطة الارتباط بين إلياس نخلة والحياة، في حين أن التحول في هذا المكان يعمق من مأساة إلياس نخلة، واندحار فكرة الحياة، وهذا يتجلى أيضا بفكرة الوطن المطلق لدى منصور عبد السلام، والصورة السلبية المصاحبة له:
«في تلك الليلة تحدثنا عن الصحراء المترامية الأطراف، التي تظللها نجوم قريبة، كأنها المصابيح الملونة، والشمس في النهار مثل النار تتساقط من السماء تنبع من الأرض، تنفجر في كل مكان. أما الثلج يا كاترين فلا نعرفه أبدا في بلادنا».

إن هذا التحول في المكان يسير بتحول الإنسان، فالإنسان مرتبط بالمكان الذي هو فيه، إنه يعكسه في ذاته حالة تتماهى وتتسع، ويظهر ذلك الرفض للمكان، وتلخيص مشكلاته بإلقاء الضوء على مشكلة الإنسان العربي اللاهث وراء سبل الحضارة، والحرية المفارقة لعالمنا العربي، وهنا مفارقة بين ما هو خارج المكان العالم الخارجي، والوطن بدلالته السلبية، يخاطب منصور عبد السلام كاترين قائلا:

«أنتم في نهاية الحضارة وتسأمون! ماذا نقول نحن؟ الأشياء التي تكرهينها نشتاق إليها في بلادنا، نموت من أجل أن تكون، والأشياء التي لا نحبها تتلهفين عليها لكي تريها».

ويبدو أن إشكالية الإنسان المثقف وأزمته، تنبع من خلال فهمه للواقع، المحيط به، فهو في حالة رفض مما يجعله يعاني من الاضطهاد والقمع وصولا إلى الهزيمة في النهاية، وفقدان القدرة على التغيير، ونفض اليد من القدرة على الفعل أيضا: «لا أريد أن أحزنك يا كاترين ولكن كل شيء في بلادنا مقلوب على رأسه ويريد أنبياء أن يوقفوه».

وإذا كان إلياس نخلة وجد في قطع الأشجار موتا لها، فإن ذلك الموت حمل معه موتا روحياً، ففي رحلة إلياس نخلة التي بدأها منذ اليوم الذي قطعت فيه الأشجار، حمل معه ذلك الموت حينما وجد نفسه ضالا معذبا مشردا في أرجاء المعمورة، معانيا في رحلته للبحث عن رزقه، ومعنى حياته، إنها معاناة الإنسان العربي المتكررة كل يوم، فمن مهنة البائع المتجول إلى مهنة الدباغ إلى مهنة الفران، وماسح الأحذية، إنه نسق الخيبة، ومن هذا المنطلق نجد ذلك الخيط الذي ربط إلياس نخلة بمنصور عبد السلام، مع الاختلاف في خلفية كل منهما في البنية التركيبية لمعطيات الشخصية، فالأول فلاح بسيط، والثاني مثقف، ولكن كلاهما حمل واقعه السلبي، ونسق التحول، وضغط السلطة، وبهذا لا فرق بينهما في إحداثيات الواقع المحيط .

يظهر الموت كثيمة بشكل مفاجئ كأنه اغتيال، فنواجه موت الأشجار أولا، وموت حنة، وقتل الحمار سلطان، فرائحة الموت التي تنبعث لتؤكد عملية مستمرة لاغتيال الإنسان، في مكان وزمان مغيبين علاماتيا، ولكن حاضرين دلاليا. وتتخذ الشجرة والمرأة بعدا رمزيا أيقونيا لغياب الحياة والخصب، وإذا ما نظرنا في تلك العلاقة التي ربطت إلياس نخلة بالأشجار والمرأة ، نجد أن إلياس نخلة فقد كلتيهما مرة واحدة ، فقد راهن على الأشجار، وقطعت تلك الأشجار، وماتت حنة، وبذلك فقد إلياس نخلة ما يربطه بالحياة، وهنا يتحقق العقم المعنوي لفقدان رمز الخصوبة؛ رمز التواصل الحقيقي، وهكذا كان الموت مكرراً، ومحققا بفعل الارتحال المصاحب لإلياس نخلة، ولتأكيد هذه المقولة القراءة السميائية للاسم الذي أطلقه إلياس نخلة على أحد أبنائه الخمسة، وهو اسمه ذاته (إلياس) بعد زواجه الثاني، واستنكار الزوجة له، فإنه يعني في الثقافة السائدة موت الأب، فيرد عليها إلياس نخلة بقوله «لم تدر أدمة إنني ميت منذ زمن طويل».
وتتكرر صور الموت بهزيمة حرب حزيران/يونيو 1967، وتعني ببساطة اندحار الوجود العربي، وموت المنظومة الفكرية المصاحبة لها، من خلال فعل الهزيمة المتكررة، حتى ليبدو أنها ظاهرة، حيث يقول منصور عبد السلام: «لماذا هزمنا أول مرة، وكانت لدينا جيوش؟ ولماذا هزمنا للمرة الثانية وكانت لدينا جيوش وعصابات، وليس لديهم إلا جيوش».

إن ذلك الموت السياسي واكبه موت آخر، إنه موت الإنسان العربي جراء الجوع بالمعنى البسيط والسافر والحقيقي، وليس المجازي، ومرد ذلك الموقف السياسي، وهنا يقدم منيف معاناة الإنسان العربي مع السلطة، وتعرضه للقمع، فقد سرح منصور عبد السلام من عمله، وها هو يواجه مصيراً كمصير إلياس نخلة في رحلة ستطول للبحث عن لقمة العيش.

إن الموت بصوره المجازية يكاد يكون حاضرا ضمن القراءة السيمائية، فكما فقد إلياس نخلة حنة، كان منصور عبد السلام شبيها به في تعاطيه مع الحب والمرأة، فهو لم يجد امرأة للزواج منه، مما يعني فقدا جديدا، وموت العاطفة… قمع الرغبة، إنها مشكلة الإنسان العربي عامة ، وتظهر تلك الإشكالية عندما حاول منصور عبد السلام الزواج من (سهام الصناديقي)، إذ واجه مشكلة المال وجشع والدها، ولهذا كان يتراجع الجانب المعنوي الإنساني المتمثل بالحب مقابل العالم المادي، كل ذلك لا بد أن يسرّع في موت منصور عبد السلام المعنوي الشبيه جدا بموت إلياس نخلة، يقول:
«ويتوقف منصور لا يريد أن يكتب كلمة واحدة.

مات منصور. نعم مات!

أما لماذا مات منصور، ومتى فلا أحد من الأحياء يعرف السبب على وجه التحديد».

يتحقق الفناء المعنوي السابق للموت المادي الذي تمثل في نهاية الرواية على شكل اغتيال، إنه اغتيال مرزوق، وهو امتداد لمنصور عبد السلام، موت مفاجئ، إنه الاغتيال كي يتوج ثنائية موت الإنسان والمكان. ولكن منيف يترك شيئاً من أمل، ربما يحيل إلى شخصية تقوم بالتعرية الأيديولوجية، والاحتجاج، بالاعتماد على فعل الكتابة، وهذا يتحقق عبر إسناد هذه الوظيفة لشخصية لم تتخذ لها موضعاً سردياً فاعلاً، إلا من خلال فعل السرد الذي تقوم به لمجمل الرواية، وهنا تتحقق موضعته كراوٍ، وهي شخصية ذات ظلال، ولكنها مؤثرة بكينونتها الرمزية، فهي الامتداد الدائم والمتجدد دوما كما الرواية في إحالتها لعالم لم يتغير منذ (41) عاماً.

عن موقع جريدة القدس العربي الجديد

عن موقع جريدة القدس العربي

المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)