الأختان، وجدي معوض (كندا/لبنان)، مسرحية Soeurs, Wajdi Mouawad

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الأربعاء، ١ يوليو/ تموز ٢٠١٥
جريدة الحياة
عبده وازن


«الأختان» لوجدي معوض في غربة اللغة والذاتاً


قراءة نصوص وجدي معوض المسرحية لا تقل متعة عن مشاهدتها على الخشبة سواء في إخراجه هو، أم في إخراج سواه. وجدي معوض يكتب نصوصه اصلاً من خلال رؤيته الإخراجية من غير ان يسقط عنها بتاتاً طابعها الأدبي او الدرامي. وقد يكون القارئ قادراً فعلاً على تخيل المشهد عبر قراءة النص نظراً الى الإشارات المسرحية او الإخراجية التي يضعها معوض لترافق النص وحوارات الشخصيات ومونولوغاتهم في احيان. هذه الإشارات عرف به كثيراً صموئيل بيكيت وهو توصل الى كتابة نصوص مسرحية بلا كلام. المسرحي الكندي الفرنكوفوني، اللبناني الأصل، الذي غزا مسارح العالم، يؤدي مسرحياً شخصية ما يمكن تسميته «القرين» جامعاً في آن واحد بين الكاتب والمخرج، بين مخيلة المؤلف الذي خاض ايضاً بنجاح ميدان الرواية، ووعي المخرج الذي يلم بتفاصيل العرض والسينوغرافيا والتمثيل...

لعل هذا ما تجلى في اعماله المسرحية ذات النفس الملحمي او اعماله الدرامية الأليفة او «الإنتيم» ذات الطابع «العائلي».

وفي هذا السياق تندرج مسرحيته الجديدة «الأختان» الصادرة حديثاً عن دار «اكت سود- بابيه» - باريس، بعدما قدمها على الخشبة في عروض عدة ومدن عدة. هذه المسرحية هي العمل الثاني في اطار سلسلة جديدة كان معوض استهلها بمسرحية «وحيدون» التي تحضر فيها رؤية «الابن» وواصلها بمسرحية «الاختان» التي تحل فيها «الأخت» حافزاً رئيساً للكتابة ومحركاً للفعل الدرامي، على ان تليهما مسرحيات لاحقة هي وفق ما اعلن معوض نفسه: «الإخوة»، «الأب» ، «الأم». والسلسلة على ما يبدو ليست في منأى عن الأثر العميق الذي تركته التراجيديا الإغريقية في وجدان الكاتب والمخرج، لا سيما عبر موضوعة (ثيمة) العائلة التي يبحث افرادها المشتتون عن ذواتهم الفردية وذاتهم الجماعية.

استوحى وجدي معوض نصه الجديد كما يكتب في المقدمة، وهي عبارة عن رسالة يوجهها الى صديقه مصمم السينوغرافيا (ايمانويل)، من واقع أخته الوحيدة التي تدعى «نايلة»، وهي كانت بمثابة «حارسة» العائلة وحافظة ذاكرتها، بعدما دخلت العائلة اللبنانية المهاجرة والهاربة من مأساة الحرب الأهلية زمن «المنفى» الكندي. إنها الأخت اللبنانية، المتوسطية، العربية و»الفينيقية» التي ضحت بحياتها وفتوتها وعواطفها الحميمة والخاصة لتمسك اطراف العائلة بعد غياب الأم. كان وجدي معوض ينظر ملياً الى اخته عندما كانت تكوي الملابس «المجعلكة» للأب والشقيقين، مستخلصاً فكرة كيّ الثنايا او الطيات التي ما كانت تكويها حقيقةً بمقدار ما كانت تحاول محو ثنايا او طيات عائلة دعكتها و»جعلكتها» الحروب والمنافي والآلام. وكانت بنظره تبدو كأنها تكوي ثنايا التاريخ نفسه، هذه الثنايا التي لم تكن تزول أو تمحي فتعاود كيّها مرة تلو مرة.

شاء الكاتب ان تتوالى المسرحية عبر عشرين لوحة يجمع بينها إيقاع ونسيج مشهدي ولغوي وتداعيات هي أقرب إلى المونولوغات الصغيرة البديعة. ويفتتحها بأغنية تؤديها «البطلة» جنفياف برجورون واضعة صوتها على صوت المغنية الأصلية جينات رينو وهي من اشهر المغنيات في كيبيك - كندا. نعلم ان جنفياف، التي تعمل محامية في شؤون الأزمات الدولية تقود سيارتها عائدة من أوتاوا الى مونريال فتضطر الى التوقف واللجوء الى فندق في اوتاوا بعدما غطى الثلج الطريق وقطعها نتيجة عاصفة هوجاء. في الفندق تحل المحامية في الغرفة 2121 الحديثة جداً ولا سيما من الناحية التكنولوجية، غرفة» انترأكتيف» كما تسميها، لا حاجة للضيف النازل فيها ان يبذل اي جهد، فالأجهزة كلها في خدمته: الضوء يُنار ويُطفأ بمجرد لفظ كلمة «لايت» (نور) بالإنكليزية، وكذلك التلفزيون والبراد (الثلاجة)... هذا العالم الهيبر - حديث لا يزعج جنفياف، بل ما يزعجها هو تغييب اللغة الفرنسية تماماً، على خلاف القانون الكندي الذي يلزم استخدام اللغتين، الإنكليزية والفرنسية، في كل المرافق والمؤسسات داخل كندا. جنفياف التي تطل بصفتها «البطلة» هي في الخمسين من عمرها، تتحدر من عائلة كندية فرنكوفونية تضرب جذورها في منطقة تدعى مانيتوبا، كانت تضم اقلية فرنكوفونية راحت تزول بعد فرض اللغة الإنكليزية على اهل المنطقة، فهاجر بعض الفــرنـكوفــونــيــين الى كيــبــيك الفرنكوفونية هرباً من «الغزو» الإنكليزي غير الرحيم.

تتلقى جنفياف اتصالاً على الموبايل من امها تبلغها فيه ان خالها (شقيق الأم) توفي في مسقط رأسه مانيتوبا طالبة منها ان ترافقها للمشاركة في الجنازة. لكنّ الاتصال الهاتفي يكون حافزاً لإثارة المشكلات العائلية الأليفة وتُعلم الابنة امها انها عالقة في العاصفة الثلجية. تكره جنفياف الثلج وتظل تردد: «من يستطيع ان يظن ان الشتاء يمكن ان ينـتهي يوماً ما؟».

في مثل هذا الجو المكفهر وداخل غرفة شبه إلكترونية في فندق أصيبت اللغة الفرنسية فيه بـ «عطل»، تصاب جنفياف بإحباط شبه هستيري فتخرّب الغرفة وتُفرغ البراد الذي كان يسجل بصوت إلكتروني كل ما تتناوله من مرطبات ومشروب وطعام ذاكراً ثمن كل منها ومؤدياً التحية لها وشاكراً إياها على اختيار هذا الفندق. في لحظات شبه هستيرية تمعن جنفياف في تخريب الغرفة وقلب أثاثها، وقبل ان تنام تطلب من خدمة الاستقبال إيقاظها صباحاً ولكن باللغة الفرنسية فيعتذر الموظف منها فلا احد يتكلم الفرنسية في الفندق. هذا الخراب تكتشفه لاحقاً خادمة الغرف فتصاب برهبة وتنادي مديرة الفندق، ومديرة الفندق تطلب شرطية لتعاين الخراب ويتم في النهاية طلب موظفة في شركة اختصاصها رفع الأضرار. طبعاً يرثي وجدي معوض حال التقهقر التي تحياها اللغة الفرنسية ازاء «هجوم» اللغة الإنكليزية أو الأميركية واكتساحها العالم. إنها لغة جنفياف الأم مثلما هي لغته بالتبني التي أصبحت لغته الأم في الكتابة والانتماء. لكن هذه الأزمة ستتجلى اكثر عندما تدخل عالم المسرحية او خراب الغرفة (خراب اللغة) امرأة ثانية هي «قرين» جنفياف ولكن المتحدرة من اصل لبناني.

ليلى اللبنانية الكندية، اللبنانية الأصل هي في الخمسين من عمرها ايضاً. تطل وهي تتحدث مع والدها «المقتلع» الذي يعاني حال الاغتراب ويظل يحدث ابنته عن الحرب الأهلية اللبنانية وعن منزله المدمر في بيروت وعن القذيفة التي خربت حديقة بيت الجبل. وتذكره ليلى دوماً: « بابا انت في كندا منذ عشرين عاماً ولست في لبنان». تكتشف ليلى في جنفياف «قرينة» لها بل اختاً بالروح والمعاناة والألم. تدخل عالمها وتجد كأن الخراب الذي حل بالغرفة هو خرابها. تعاني ايضاً غربة لغوية مشتاقة الى لغتها الأم او العربية. وهي لا تنفك تلفظ جملاً ومفردات لبنانية عندما تتحدث بالفرنسية ذات اللكنة الكندية. امرأة شرقية ومتوسطية وعربية و«فينيقية» تجد نفسها في صورة جنفياف، الكندية، الغربية، الشمالية ... تزول التناقضات وتتلاقى الأضداد في ملامحهما التراجيدية: انهما تعانيان الاغتراب الداخلي، وحيدتان، تعيشان من اجل الآخرين، حياتهما تكاد تكون خالية من البهجة... انهما «الأختان» كما شاءهما وجدي معوض. الأخت في مرآة الأخت، او الأختان في مرآة واحدة، هي مرآة الاغتراب والغربة والعمر الضائع.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


المسرحية بالفرنسية عل موقع أكت سود

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)