اطلب فيروز... ولو في الصين !

, بقلم محمد بكري


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٨٧٩ الجمعة ٦ أيار ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون


اطلب فيروز... ولو في الصين !


هو كاي (منصور) *



في عام 2003، التحقت بكلية اللغة العربية في جامعة الدراسات الأجنبية في بكين لتعلم اللغة والثقافة العربيتين. وكنت أبحث عن الأسطوانات الموسيقية العربية بصفتي هاوياً للموسيقى العالمية عندما تعرّفت، بمساعدة الخبيرة العربية التي كانت تدرسني مادة المحادثة، الى الموسيقى العربية، وخصوصاً في بلاد الشام.

وما زلت أذكر أنّ أول أغنية عربية استمعت إليها كانت «حبيتك بالصيف» للثلاثي الكبير الأخوين رحباني وفيروز، ومن ثم لفرقة «الميادين» التي يرأسها مرسيل خليفة، إضافة إلى أغان فولكلورية شرقية مثل «بنات الاسكندرية» و«البنت الشلبية»، لأجد نفسي منهمكاً في المقامات العربية الجميلة رغم غرابتها في البداية، وفي الأنغام والقوالب الموسيقية العربية الملونة، قداً حلبياً أو موشحاً أو طقطوقةً أو دوراً.

بحسب روبير صفدي (تاريخ الموسيقى العربية)، كانت الموسيقى المحلية اللبنانية بعد الحرب العالمية الثانية، عموماً، «فناً تابعاً للهجة والكلمة المصرية حتى منتصف القرن العشرين». ومع الاستقلال، أسهم لبنانيون كفيلمون وهبي وزكي ناصيف ووديع الصافي في تأليف المغناة اللبنانية العربية وتطويرها، فيما اشتهر وليد غلمية وتوفيق الباشا وسليم سحاب بسمفونياتهم العربية الضخمة، وذاع صيت الأخوين فليفل في الموسيقى الوطنية والعسكرية. أما الأخوان رحباني، عاصي ومنصور، فشكّلا مع فيروز أهم ظاهرة فنية وثقافية عرفها لبنان في النصف الثاني من القرن الماضي، تجاوزت الحدود لتصل إلى كل العالم العربي.

نهل عاصي ومنصور أصول الموسيقى الكنيسية المشرقية من ينابيعها الأصلية، وتميزا بالاحترام الواضح للأصالة والتراث، والنجاح في التجديد والرؤية المستقبلية، فأنتجا تراثاً غنائياً يزيد على ألف أغنية قُدّم معظمها في إطار مسرحيات غنائية (نحو 25) ذاع صيتها في مشرق العالم العربي ومغربه. ولا تزال مسرحياتهما الغنائية تعرض في وقتنا الحاضر على مسارح البلدان العربية.

وقد اتصفت أعمالهما الموسيقية بسمات مشتركة عدة منها:

ــــ الميل إلى الأغاني القصيرة، سواء ضمن المسرحيات الغنائية أم كأغانٍ منفردة، مراعاة للعصر الذي يسوده التغيير السريع . كما مالا إلى كتابة الجمل الموسيقية السهلة البسيطة، التي لا تثير في المستمع شعوراً بالملل رغم أنها قد تبدو للوهلة الأولى جملاً ساذجة. على سبيل المثال، ورغم أنهما ألّفا مئات من أغانيهما باستعمال مقام النهاوند، إلا أن أغنية «ليالي الشمال الحزينة»، مثلاً، تختلف عن «آخر أيام الصيفية»، ولا تشبه «كرمالك» أو «بتتلج الدني»، ما يدل على قدرتهما على استنباط الألحان البسيطة والجميلة.

ــــ الاعتماد على الفنون الشعبية وتطويرها. إنّ الرحبانيين أبدعا في تلحينها اعتماداً على مواويل العتابا والميجانا والغزيل وأبو الزلف والدلعونا والروزانا وغيرها. غنت فيروز في «ناس من ورق» أغنية على لحن موال يسمى بالبغدادي، وغنت صباح في «موسم العز» أغنية على لحن مطلع أبو الزلف، إضافة إلى لحن زفة العروس الذي نسمعه في هذه المسرحية. كما نلحظ استعانتهما بلحن على دلعونا مرات عدة في «جسر القمر» و«قصيدة الحب» وغيرهما، فيما برزت الدبكة اللبنانية في إبداعاتهما المسرحية الغنائية بصورة واضحة.

ــــ ربط العناصر الموسيقية الغربية بالموسيقى العربية الشرقية. لم يعتمد عاصي ومنصور على الزجل والمواويل وغيرهما من الأغاني الشعبية اللبنانية فحسب، بل حاولا التفتيش عن موسيقى شعوب العالم وتقديمها بصورة مقبولة ومتناغمة. كما أنهما لم يكتفيا بالاعتماد على الهارموني الغربية، بل حاولا تقريبها إلى الأصول الموسيقية الشرقية. فالغناء الشرقي يحتوي على الكثير من الارتجال والقليل من التركيز على الكتابة الموسيقية المدونة، فيما يركز الغناء الغربي بشدة على النوتات الموسيقية المدونة الدقيقة. وما أبدعه عاصي ومنصور هو الاندماج السلس بين هذين النوعين من الغناء والموسيقى. وساعدتهما في ذلك قدرة فيروز المتميزة على أداء الجمل الموسيقية في عدد هائل من محتوى خزانة الكنوز الرحبانية. ومنذ منتصف الخمسينيات، بدأ الأخوان رحباني أغنيات تعتمد على الأشعار والقصائد والأوركسترا الشرقية الصغيرة من حيث أسلوبها وعدد آلاتها، ثم تحولا إلى الأوركسترا الكبيرة التي تشبه الكلاسيكية من حيث التوزيع وعدد الآلات، سواء أكانت نفخية أو إيقاعية أو وترية، إلى جانب المقامات الكلاسيكية والأوزان الإيقاعية المتجسدة في سامبا ورومبا ومارش وغيرها.

المسرحيات الغنائية

لا يخلو الحديث عن الأخوين رحباني وأعمالهما الموسيقية من مسرحياتهما الغنائية. يقول بعضهم إن مسرحياتهما استعراضية سهلة لا تحتاج إلى التعمق في اقتفاء مضامينها ومحتوياتها، إلا أننا سنجد فراسة ملاحظاتهما ودقة تعليقاتهما على القضايا الاجتماعية في قرى لبنان ومدنه.

يقول جورج هيغل: «ينتسب كل فن، مهما كان نوعه، إلى عصره وأمته ليعكس الظروف الخاصة ويتعايش مع الأهداف التاريخية الخاصة». والمسرح الغنائي عند الأخوين رحباني لم يأتِ عفو الخاطر بل نتيجة إرهاص كبير، كان يختزل إبداع كل من ساهم في بناء المسرح الغنائي العربي ابتداءً من مارون نقاش ومروراً بسليمان قرداحي ويوسف خياط وأبي خليل القباني وسلامة حجازي وسيد درويش حتى الوصول إلى ذروته على أيدي عاصي ومنصور. ويعتمد مسرحهما الغنائي على النصوص الشعرية والموسيقى الجميلة والروح الإنسانية، كما في مسرحيات المرحلة الريفية الأولى («جسر القمر» و«دواليب الهواء»). أما المسرحيات المدينية، فتعتبر نقطة التحول في إبداعهما من ناحيتي المضمون والأسلوب الفني، إذ تركا وصف الحياة الريفية البسيطة وبدآ انتقاد المدينة التي تمتلئ بالخداع والأكاذيب بعيدة عن العدالة الاجتماعية قبل اندلاع الحرب الأهلية. وتعكس هذه المسرحيات مواضيع عديدة تتمثل في فساد الحكومة وظاهرة الهجرة («المحطة»). ومقارنة مع المسرحيات الريفية، لم يكن الموضوع المحوري في الفترة المدينية ترويجاً لحل المشاكل بالحب والمحبة كما في مسرحية «جسر القمر» مثلاً، بل تحولا إلى إبراز المشاكل الناجمة عن الظروف الاقتصادية والسياسية وقتئذ. أما الأسلوب الفني الذي تميز به الأخوان في هذه المرحلة، فيتمثل في استعانتهما بعناصر الفن العبثي والأسلوب الساخر على أساس الواقعية الاجتماعية.

المدرسة الرحبانية

لم تؤثر المدرسة الرحبانية على الموسيقى اللبنانية والمسرح الغنائي اللبناني فحسب، بل على الموسيقى العربية أيضاً. يتجسد ذلك في الاهتمام بالتوفيق بين الأصالة والحداثة، وبين التوريث والتحديث الذي كان يسعى إليه عاصي ومنصور على قدر الإمكان ويعد قاسماً مشتركاً يتصف به المبدعون الموسيقيون في لبنان. من دون هذه السمات المشتركة، لن يتم تطوير غناء الموال العربي الارتجالي عند وديع الصافي الذي اختطّ لنفسه نهجاً غنائياً، وشكّل مدرسة في الصوت والأداء والتلحين والارتجال.

ومن دون هذه السمات المشتركة، لن يتم تأليف مقدمة «ميس الريم» على يد زياد الرحباني الذي كان مراهقاً عبقرياً ومتأثراً بأسلوب والده وعمه، ولن يتم إصدار عدد كبير من الأغاني الجميلة التي تشهد تناغماً سلساً بين موسيقى الجاز واللحن الشرقي. ومن دون هذه السمات المشتركة، لن نسمع «تقاسيم حجازكار» و«لونغا نهواند» في «كونشرتو الأندلس» لمرسيل خليفة أو المغناة «أحمد العربي» الجريئة، أو السماعيات أو البشارف التي أعاد توزيعها في أعماله المستجدة. ومن دون هذه السمات المشتركة، لن نتمتع بالقفلة الجميلة والمفاجئة من قفلات البشارف الشرقية الكلاسيكية في «قادسية» وليد غلمية، ولن نجد الأداء الجديد لـ «لما بدا يتثنى» وغيره من الموشحات الأندلسية المتداولة على ألسنة أجيال متتالية من الفنانين اللبنانيين المتفوقين. ومن دون هذه السمات، لن يتم تأسيس فرقة «الأنوار» اللبنانية العالمية التي شارك في تأسيسها الفنان الكبير زكي ناصيف الذي لحن الموشح وجدد الفلكلور اللبناني بقالب جديد مزيج من الألوان الشرقية ومطعّم بالتقنية الغربية ومتعايشٍ مع العصر مثل «يا حبيبي خدني بايدك» بأداء وداد، أو «أهلا بهالطلة أهلا» بأداء صباح. ومن دون هذه السمات، لن يسعى شربل روحانا إلى تجديد أسلوب العزف على آلة العود، ولن نصغي إلى «دوزان» شربل، آخر ألبوماته التي تعد عصارة التجارب المتعددة لمبدع موسيقى العودين هذا. لو كتبت آلاف الصفحات عن هذه المدرسة المميزة وهذا النوع من الموسيقى العربية، لبقيت مقصّراً بحقها بما قدمته منذ قرابة نصف قرن ونيف من العطاء المتميز للفنون العربية لحناً وغناءً؛ لو ضربت مئات الأمثلة عن الذين طوروا وما زالوا يطورون موسيقى لبنان وغناءه، لبقيت مقصراً كذلك بحقهم بما يقدمونه من المساهمات الجليلة في الوطن العربي تراثاً وفناً.

ولن تكفي هذه العجالة السريعة لتناول موضوع الموسيقى اللبنانية معتمداً على نموذج الأخوين رحباني. الحديث عن الموسيقى اللبنانية مهمة يسيرة وعسيرة في آن، فمن اليسير أن يذكر دارسو اللغة العربية والثقافة العربية أو الباحثون المتخصصون بالموسيقى الشرقية في الصين أسماء أعلام الموسيقى اللبنانية مثل حليم الرومي أو خالد أبو النصر. كما من اليسير أن يجد الجيل الجديد من الطلاب والمستمعين عبر الإذاعات أو القنوات الفضائية أو الشبكة الدولية أسماء مشاهير موسيقى البوب الذين لقوا إقبالاً واسعاً في لبنان والعالم العربي بأكمله، إلا أن من العسير أن نصل إلى تعمق التذوق في جماليتها وإنسانيتها إلى جانب طرق تحليل سماتها وشخصياتها وقيمتها الفنية.

الحديث عن الأخوين رحباني مزيج بين السهولة والصعوبة أيضاً. إنه لأمر سهل أن يغني المستمعون، متخصصين أم هواة، مع ألحانهما وأنغامهما بفضل انتشار أعمالهما الموسيقية وذيوع شهرة السيدة فيروز، إلا أن طريق هضم ما وراء أبيات القصائد أو سطور الكلمات من المغزى العميق يتطلب من الدارسين أو الباحثين بذل جهودهم الدؤوبة. إذ أن فنهم بحر تتعاقب فيه أمواج من النوتات الموسيقية والقصائد الرائعة والأفكار الروحانية. أما التحديات الكبرى للدخول إلى الموسيقى اللبنانية العربية بالنسبة إلى الباحثين الصينيين، فتتمثل في كيفية تعريف الجمهور الصيني بها بغية تعزيز التواصل والتبادل والتفاعل بين الحضارتين العريقتين الضاربتين بجذورهما في التراث الحضاري المشترك.

في مساء بكيني رذاذي، جلست أمام الكومبيوتر لأدوّن هذه الألفاظ العربية مفكراً في هذين الموضوعين ومستمعاً إلى صوت فيروز الملائكي على لحن عاصي ومنصور الخالد راجياً أن يتم توضيح ــــ بهذه الكلمات القليلة المتواضعة ــــ وجهة نظري التي تتمثل في ما أود أن أقوله عن المنجز الفني الرحباني اللبناني وما يعبر عنه الموسيقاران الكبيران بنفسيهما!

* أستاذ كلية اللغة العربية في «جامعة الدراسات الأجنبية» في بكين
ماجستير في اللغة العربية وآدابها، ودبلوم في العلوم الموسيقية. أصدر عدداً من البحوث المنشورة في مجلات علمية وترجم بعض المسرحيات العربية إلى اللغة الصينية، منها مسرحية «شمس النهار» لتوفيق الحكيم ومسرحية «هالة والملك» للأخوين رحباني (قيد الطبع).

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية

 المقال في جريدة الأخبار اللبنانية بالـ pdf


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا


فيروز على ويكيبيديا

عن صورة المقال




عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)