ابن رشد وفلسفته، فرح أنطون (لبنان)، تاريخ صدر في الإسكندرية عام 1903

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الثلاثاء، ٢١ يونيو/ حزيران ٢٠١٦
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«إبن رشد وفلسفته» لفرح أنطون: فيلسوف قرطبة إماماً للنهضة


«يمثل كتاب «ابن رشد وفلسفته» واحداً من أهم الأعمال التي صدرت في العالم العربي على امتداد منتصف القرن التاسع عشر ومقتبل القرن العشرين. كان صدوره في الإسكندرية عام 1903، أي في وقت كان التراكم الثقافي العربي التنويري قد حقّق أصداء ملحوظة في الحياة الثقافية، وذلك بعد سقوط مدوّ للمشاريع النهضوية البورجوازية في مصر وسورية والعراق والمغرب العربي، وتصاعد هيمنة القبضة الأوروبية الرسمية على هذه البلدان (...). ومن هنا يمكن النظر إليه على أنه شاهد حي على تلك المشاريع عموماً، وفي مصر وسورية على نحو خاص». بهذه العبارات قدّم المفكر السوري طيّب تيزيني قبل سنوات لطبعة جديدة من كتاب المفكر النهضوي الشامي الذي كتب معظم أعماله في مصر، فرح أنطون، عن إبن رشد. وهو الكتاب الذي يصح أن نقول أنه، وإلى حد ما على خطى الكاتب الفرنسي إرنست رينان «إبن رشد والرشدية»، أعاد اكتشاف الفكر العربي لفيلسوف قرطبة، لكنه كان في الوقت نفسه، جزءاً أساسياً من المعركة النهضوية العربية قبل قرن ونيّف من الآن.

كان «ابن رشد وفلسفته»، ولا سيما في طبعاته المتلاحقة أي منذ أضيفت إليه «الملاحق» التي سنتحدث عنها بعد قليل، أكثر من مجرد كتاب فلسفي ومشروع سجال نهضوي. فالحقيقة أن الملاحق التي ضمها المؤلف إلى نصه الأصلي، وحسناً فعل! أتت لتستكمل العمل إذ وثّقت للسجالات التي دارت إثر صدور النص الأصلي بين فرح أنطون، وبخاصة، الشيخ الإمام محمد عبده. وهي سجالات يمكن، إلى جانب أهميتها الفكرية والتاريخية وقدرتها على الإضاءة على نوع معين من السجالات بين النهضويين أنفسهم، اعتبارها نموذجاً للرقي الفكري واحترام الآخر وأفكاره وآرائه، جدير بأن يقارن بشتى ضروب الإسفاف الفكري التي تسم في أيامنا هذه ما يسمى بـ «السجالات» الفكرية التي لم تعد أكثر من زعيق أيديولوجي بائس.

في كتابه المفصلي هذا، يقدّم لنا فرح أنطون فكر إبن رشد من خلال ثلاثة محاور (أو أبواب) يستعرض في أولها ترجمة لحياة الفيلسوف متوقفاً عند أهم حوادث حياته ومحطاتها. وفي الثاني يدخل الكاتب متعمقاً - على الأقل بمقدار ما كانت تسمح به معارف عصره وقبل فورة الدراسات الرشدية التي أطلّت خلال الثلث الأخير من القرن العشرين ولا سيما على يد المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري -، داخل الفلسفة الرشدية، وبالتالي الأرسطية، متوقفاً بإسهاب عند «أهم آرائه وتعاليمه مع بيان مذهبه المبني على مذهب أرسطو» أما في المحور الثالث والذي يشغل أكثر من نصف صفحات الكتاب، فإن المؤلف ينشر «ردود الأستاذ - ويعني الإمام محمد عبده - على «الجامعة» - أي المجلة التي كان يصدرها فرح أنطون وينشر فيها دراساته بما فيها دراسته هذه عن إبن رشد، وجواب «الجامعة»، من دون أن ينسى مساجلاته في نفس الموضوع، مع مواطنه الذي كان مقيماً بدوره في مصر في ذلك الحين/ محمد رشيد رضا.

في خاتمة تقديمه لهذا الكتاب الذي يلفته أن مؤلفه يهديه إلى «عقلاء الشرقيين في الإسلام والمسيحية وغيرهما» يتساءل المفكر تيزيني: هل ما زال الكتاب راهناً في مرحلتنا نحن؟ ويجيب: لعلنا نقول إن هذه المرحلة بالذات هي التي تجعل منه أكثر راهنية، مع التنويه بأن الكثير من المسائل التي طرحت فيه، اكتسبت أبعاداً جديرة بالاعتبارين المعرفي النظري والأيديولوجي. وتظل مع ذلك فكرته الرئيسة - في دلالاتها الكبرى - محوراً أساسياً من محاور الصراع العربي التقدمي الراهن: إنه نضال من أجل مجتمع وطني ديموقراطي علماني على صعيد الأقطار العربية منفردة، ومن أجل مجتمع عربي موحد ديموقراطياً واشتراكي.

أما فرح أنطون فإنه يختتم كتابه قائلاً: «ولكن، فلنبحث الآن، بعد مرور القرون الطوال وانتصار العلم والفلسفة في هذا العصر، هل قام العلم بكل الوظيفة التي انتدبه العقل البشري لها؟ هل قدر إلى اليوم على استئصال كل الشقاء والرذيلة من الأرض، وإصلاح شأن البشر فيها إصلاحاً تاماً؟ هل استطاع إرواء ظمأ الإنسان إلى ما وراء هذه الطبيعة التي هي عظيمة، ولكنها واأسفاه مادية جامدة؟ وبعبارة واحدة نقول: هل حلّ العلم محل الدين حلولاً نهائياً بعد تلك الحرب العقلية الكبرى التي دارت رحاها في أوروبا بين أمم مختلفة وفلسفات مختلفة؟ كلا، لم يصنع العلم ذلك صنعاً تاماً بعد وإن كان قد صنع شيئاً كثيراً منه. ولسنا نعلم السبب الحقيقي في هذا العجز. هل هو ضعف العلم نفسه عن إرضاء الإنسانية وتسكين ثائرها، أم هو ضعف الإنسانية نفسها عن احتمال قوة العلم الهائلة».

والحقيقة أن هذه العبارات تبدو قادرة، بصيغتها التساؤلية، على تفسير فكر هذا الكاتب النهضوي، بأفضل مما تفعل كل الدراسات التي كتبت عنه. فهو يتبدى لنا هنا متسائلاً بلا يقين، أكثر مما يتبدى لنا واثقاً مما يقول، وإن كانت صيغة تساؤلاته تكشف عن اختياراته الحاسمة، هو الذي كان يرى أن بالإمكان حل النزاع - المفترض وجوده - بين العلم والدين، عبر تحديد الحقل الخاص بكل منهما انطلاقاً من مبدأ يقول بوجود قوتين مستقلتين عن بعضهما هما العقل والقلب، وينادي بالتالي، في مجال تطبيق هذا المبدأ، بفصل الدين عن الدولة تيمناً بما فعلته الثورة الفرنسية التي كانت تشكل بالنسبة إليه مرجعاً فكرياً أساسياً وحاسماً.

بهذا المعنى، ربما كان فرح أنطون، واحداً من أوائل المفكرين العرب الذين استشعروا باكراً «مخاطر المزج بين ملكوت الإيمان، وملكوت تذبذبات الحياة اليومية والعمل السياسي المباشر»، وكان هذا ما جره إلى تلك المعارك الطويلة التي خاضها ضد الإمام محمد عبده، ولكن خصوصاً ضد محمد رشيد رضا، حيث كان التعارض الأساس يقوم بين فكر عبده ورضا الذي ينادي بقيام وحدة سياسية إسلامية شاملة، وفكر فرح أنطون المنادي بقيام «دولة علمانية» ضمن الإطار العثماني تندمج فيها كل الأديان والطوائف في بوتقة وطنية شاملة. ولربما كان بإمكاننا أن نلخص ذلك التعارض بأنه إنما قام في نظر أصحابه بين نزعة قومية وطنية ونزعة دينية. وكان فرح انطون واحداً من أبرز الممثلين المبكرين لذلك التيار القومي العلماني، حتى إن كانت نزعته تستند إلى خليط لا يستقيم تماماً من أفكار تولستوي وإرنست رينان وكارل ماركس وجان - جاك روسو وبرنارد شو.

باختصار، كان فرح أنطون انتقائياً في نزعته الفكرية، لو نظرنا إليه انطلاقاً من منظور علمي - فكري صارم، ولكن لو نظرنا إليه بمقاييس زمنه، لأدركنا أنه كان يعبر عن القلق الفكري العربي الذي كان يسود يوم بدا واضحاً أن تبدلات العالم السياسية والفكرية تحتم على الفكر العربي أن يعثر على طرقه المستقلة، بعد أن كان قد عاش طويلاً في كنف الدولة العثمانية. وفي هذا الإطار كان تأثير إرنست رينان على فرح أنطون كبيراً. فهذا الأخير، الذي كان قد ولد في 1874 في طرابلس، لينتقل في 1897 إلى مصر، التي كانت في ذلك الحين مأوى كل أحرار الفكر العربي، أسس منذ وصوله إليها مجلة «الجامعة» ثم تولى رئاسة تحرير «صدى الأهرام» عدة أشهر، قبل أن يصاب ببعض اليأس ويرحل إلى أميركا في 1907، معتقداً أنه سيكون بإمكانه أن يواصل معركته التحررية فيها.

فرح أنطون هذا أدرك منذ ذلك الحين أن المعركة لا يمكنها أن تخاض إلا ميدانياً، وأن الأساسي فيها هو بعث فكر عقلاني يستند إلى التراث الفكري العربي الإسلامي نفسه، ومن هنا كان اهتمامه الخاص بابن رشد. مهما يكن، فإن كل ما كتبه فرح أنطون كان يثير جدالاً، وسط مناخ فكري عابق بالتساؤلات وبشتى الاتجاهات. والحال أنه في كتابته عن ابن رشد، لم يكن ليتوخى وضع سيرة للرجل أو تحليل فلسفته، بقدر ما كان يتوخى استدراج فكر ابن رشد للتدخل في السجالات الميدانية الراهنة.

وكان هذا دأب فرح أنطون في كل ما كتبه، من روايات ومسرحيات (حيث كان رائداً حقيقياً في هذين الفنين) ونصوص سياسية وفلسفية. والواقع أن فرح أنطون خاض حتى وفاته في 1922 شتى أنواع الكتابة، بدءاً بالصحافة التي كانت مهنته الأساسية ووسيلته الأولى لتوضيح أفكاره التقدمية، وصولاً إلى الفلسفة التي سخّر كتاباته فيها من أجل محاولة بعث فكر عربي تنويري حديث. في كل هذا كان فرح أنطون رائداً كبيراً، ومساجلاً خصباً، وموسوعياً، ندر أمثاله في تاريخ فكرنا العربي الحديث.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)