إنتحار المعنى في رواية اللص والكلاب

, بقلم محمد بكري


إيلاف


2017 السبت 8 يوليو
إيلاف - أول يومية إليكترونية صدرت من لندن عام 2001
كه يلان مُحمد


إنتحار المعنى في رواية “اللص والكلاب”


السمة الغالبة في إبداع نجيب محفوظ هي التنوع،وإجتراح أساليب جديدة في كتابة الرواية،فهو ليس من أكثر روائيين غزارة في تأليف الأعمال الروائية فحسب،بل تمَّكَن في سبك قوالب تتلاءم مع الأفكار التي إتخذها قواماً لنصه الروائي،وتفادي صاحب (خان خليلي) من الوقوع في مطب التكرار والتشابه في الأُسلوب لأن هذا الروائي لم يَكتبْ لتسجيل الحضور والإبقاء في الواجهة بل كل ماقدمه بدءاً من الروايات التاريخية مروراً بما يُسمي بالواقعية والرمزية والملحمية إلى آخر ما ظهر له بعنوان (احلام فترة نقاهة) يأتي تنفيذاً لخطةِ دقيقة ويُساندهُ تأملُ مسبق لضرورات المرحلة،وماتفرضه من إجراءات على مستوى العناصر المركبة في لحمة وسدى العمل ،وبما أن نجيب محفوظ قد عاصر تحولات جسيمة على المستوى الفكري والسياسي والإجتماعي،لذلك كان يتريثُ إلى أن يتبلورَ لديه تصورُ واضح قبل أن يكتبَ عملاً جديداً إذ عقبَ ثورة 1952 في مصر يتوقف نجيب محفوظ عن الكتابة، وتستمرُ هذه الحالة حتى سنة 1959ومن هنا يدخلُ إبداع نجيب محفوظ في طور مختلف، ويتغيرُ أسلوبهُ إذ يميلُ إلى الرمزية ومُعالجة الموضوعات الوجودية بلغة مُكتنزة،في هذه المحطة من حياة محفوظ الإبداعية يتصدرُ ثلاثة عناوين المشهد (اللص والكلاب، الطريق ، الشحاذ) حيثُ يسم إنغلاق تشاؤمي روايات تلك المرحلة على حد تعبير الكاتب التونسي (مُصطفى التواتي).يذكر أنَّ الطابع التشاؤمي ينسحب أيضاً على (ثرثرة فوق النيل ) ولكنْ تبدو رواية (ميرامار) أقل تشاؤماً مع أنها صدرت خلال السنوات العشر التي إفتتحتها (اللص والكلاب)سنة 1961إذ يدركُ المتلقي الفرق الواضح من حيث الشكل والأُسلُوب بين هذا العمل وما سبقه من روايات تطبعت بخصائص ظروفها،ومايفتحُ الباب لقراءة رواية (اللص والكلاب ) من مستويات مُتعددة أنَّ مكوناتها من اللغة والشخصيات والمكان مُحملةُ بشحنةِ رمزية،إذ تغادرُ اللغة وظيفتها الأداتية وتكون أكثر إيحائية في المقاطع التي يتحاور فيها البطلُ سعيد مهران مع الشيخ علي الجُنيدي، وذلك كون الأخير مُناقضاً في تركيبته الروحية للعالم الذي يهربُ منه سعيد،كما أن القيم الروحية التي يركنُ اليها الشيخُ لايتجسدُ إلا رمزاً.الأمر الذي يدعوك للتعامل مع شخصيات الرواية بوصفها تمثيلاً لقيم متباينة كذلك عنصر المكان أيضاً تلفه غلالة رمزية.

صراع مع القدر

ينطلق زمن الرواية بخروج سعيد مهران من مُعتقله،ومن ثم يتضح الفاعل وراء الزج بسعيد إلى السجن لمدة أربع سنوات وهو صديقه عليش الذي كان تابعاً له لكن ذلك لايمنعه من التآمر عليه مع زوجته إذ يجدُ سعيدُ نفسه مُحاصراً لايري منفذا للهروب ويعجز من كسر الطوق خلال إحدى عملياته،وبعدماتنتهي سنوات السجن مايسعي إليه هو إستعادة إبنته (سناء) التي ترمزُ إلى المستقبل غير أن سعيد يصطدمُ بإنكارها له على مرأى الجميع ما يسقط بيده كل الحجة ويكون وجه العالم أكثر قتامة إذا أضفت إلى خيانة عليش ونبوية تجاهل الإبنة لشوق الأب غير أن تصرف سناء مبررة لأن الأخيرة قد نشأت دون رؤية ملامح سعيد،ومايتابعه القارىء من الجلسة التي تجمع أهالي حي عطفة الصيرفي ومايتلفظ به المخبر من كلام يشي بعدم الإرتياح بسعيد وإستبطان المؤلف لما يدور بخلد الخارج من السجن يُمهدُ لإحتدام الصراع في مناخ الرواية ،إذ تتفرع من حلقة الخيانة حلقة الإنتقام والغضب على عالم لايختلفُ كثيراً عما عاشه السجين بين جدران السجن الصماء،يَتَعَمقُ هذا الشعور لدي القاريء عندما يلتقي سعيد بأستاذه رؤوف العلوان الذي كان يحثُه على الثورة ويتسترُ على سرقته لأحد المُقيمين في بيت الطلبة، الأكثر من ذلك وفرَّ غطاءً فكرياً لغزوات سعيد اللصوصية،ولكن إبن عم مهران البواب يشعرُ بأنه صار مرمياً في العراء حين يعاين التحول من النقيض إلى النقيض في شخصية (رؤوف علوان) فالأخير قبل الثورة كان من أشدَّ الناقمين على الأغنياء ونمط حياتهم،بيد أن الصورة التي يظهر بها رؤف علوان في مرحلة مابعد الثورة مغايرة تماماً لما كان يحشو به رأس سعيد،حتى الموضوعات التي يتناولها في صحيفته الجديدة (الزهرة) لم تعد مُتطابقة مع النسق الفكري لشخصية المُنظر الثائر،هكذا يشحبُ الأملُ لدي سعيد ولايعذبه شىء أكثر من خيانة الفكر وتنكر أستاذه لكل المباديء إذ يخاطبُ سعيد في حوار داخلي أستاذه السابق مقارناً خيانته بفعلة زوجته مع صديقه عليش حيثُ يُحملُ رؤوف علوان وزر خيانة كبرى بإعتباره صاحب الفكر “ولكن ذنبك أفظع ياصاحب العقل والتاريخ ،أتدفع بي إلى السجن وتثب أنت إلى قصر الأنوار والمرايا”بينما كان المثقف يوظفُ عدته الفكرية لإلقاء بماضيه في غياهب النسيان فإن سعيد يحجب ماضيه من إستشفاف ملامح المُستقبل فكل ما يأخذه من بيته هو ماتبقى من الكتب التي نصح بها طالب الحقوق الذي إستهان بها لاحقاً.من هنا تسقط الأقنعة وتُمحى الفواصل بالنسبة لسعيد بين رؤوف علوان وعليش ونبوية،فالأولُ تستر وراء الفكر والثاني راهن على التملق والولاء والثالثة كان سلاحها هو الجمال الظاهري لذلك يستنطقُ المؤلف بطله بعبارة قريبة في عمق دلالتها من الحكمة الوليدة من رحم تجربة أليمة"لو أن الخيانة الكامنة ظهرت في صفحة الوجه كما تظهر آثار الحميات الخبيثة لما تجلى الجمال في غير موضعه"بعدما ينهار سنده الفكري المُتمثل في رؤوف علوان لايكون أمام سعيد غير خيار الإنتقام لإستعادة شيأً من المعني وإذن تكتمل الأبعاد التراجيدية في شخصية سعيد مهران وترجح كفة العبث في محاولاته للثأر من غرمائه،إذ كلما أراد تصويب الرصاصة إلى أعدائه أردت بغيرهم فيكون حسين شعبان بديلاً لعليش كما أن البواب يلقى حتفه برصاصة سعيد عوضاً عن رؤوف علوان.مقابل هذا العالم الذي غزته الخيانة والغدر والكذب هناك عالم آخر يجدُ فيه البطلُ مأوىً.هذا لايعني أنه خال من التناقضات.

الركن الروحاني

بجانب مقهى عم طرزان وبيت المومس نور التي أهمل سعيد نداءات قلبها من أجل الخائنة نبوية، يوجد ركن روحاني معبقُ بالهدوء يرتاده المريدون منشيدين الأذكار التي تنزع من القلوب القلق والتوتر،في مسكن الشيخ الصوفي علي الجُنيدي ينقطع المرءُ عن العالم الخارجي وما قر في قاعه من النوازع الشريرة، عندما يتجه سعيد نحو هذا المسكن يجدُ بابه مفتوحاً كالعادة والشيخ متربعاً في مكانه بكل ماعنده من الإطمئان والإبتسامة علت على محياه النوراني ينصحُ سعيد بأنَّ يتوضأ ويقرأ هنا أيضاً علينا ان ننصرف إلى المعنى المجازي لكلمتين، ويشكو سعيد للشيخ ما عاناه من الظلم والغدر ويذكر تجاهل إبنته سناء له لما فيردُ عليه الشيخُ بلغة رمزية يعجز عن فهمها سعيد لأنه على حد قوله مقبل على النار.وعندما يسألُ سعيد الشيخ عن معنى مايقوله في لقاء آخر أجاباً مؤسفاً.لم يكن أبوك ليغلق عليَّ قولي أبداً.هكذا يعيشُ سعيد في الأغتراب الروحي بجانب إغترابه عن الواقع.فالمساحة التي يتحرك فيها تنحسرُ يوما وراء اليوم تتغيب نور ما يحتم عليه مغادرة الشُقة كذلك ينتشرُ المخبرون في محيط مقهى عم طرزان كما يُجندُ رؤوف علوان صحيفته لبث كل المعلومات والصور عن تلميذه السابق فالبتالي تصبح الدروب مسدودة إلا مايوصله إلى مسكن الشيخ يشار إلى أن غاية نجيب محفوظ في توصيف مكان إقامة الشيخ بالمسكن هي أن يفرق بين هذا المكان ومايتميز به من الأجواء الهادئة عن أمكنة أخرى،تنهي الرواية بإغلاق الدائرة على سعيد وقتله،مايلفت النظر في هذا العمل هو لغة رشيقة وطرح أسئلة ميتافيزيقية حمل المثقفين مسؤولية فساد العقول حالما يحيدون عن جادة مبادئهم،كما تتوزع في جنبات الرواية ثيمات متعددة .الخيانة والإستغراب والإستغلال ومايسميه الجابري بشقاء الوعي.والعبث. (اللص والكلاب) دار الشروق ط2

عن موقع ايلاف على الإنترنت


ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.

تم نقل هذا المقال بناء على ما جاء في الفقرتين 4-2 و4-3 من حقوق الملكية الفكرية المذكورة في شروط الأستخدام على موقع إيلاف :

  • مسموح لك بنسخ أو تنزيل المقالات المنشورة على الموقع من أجل إعادة عرضها على مواقع أخرى بشرط أن تعرض تلك المقالات بنفس تنسيقها وشكلها.
  • يجب وضع رابط للموقع بين عنوان المقالة والفقرة الأولى منها.
  • كما يضاف البيان التالي في نهاية المقالة : ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)