أيام الإنسان السبعة، عبدالحكيم قاسم (مصر)، رواية 2005 - دار الشروق

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الجمعة، ٢ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٦
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«أيام الإنسان السبعة» لعبدالحكيم قاسم : رحلة الموت والحياة


إلى جانب «تلك الرائحة» لصنع الله إبراهيم و «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» لجمال الغيطاني وغيرهما من أعمال محمد البساطي ويوسف القعيد وبهاء طاهر وسواهم، تنتمي رواية «أيام الإنسان السبعة» لعبدالحكيم قاسم إلى ما اصطُلح على تسميته في التاريخ الأدبي المصري، أدب الستينات. وهو أدب لا يزال في حاجة إلى كثير من الدراسة والاكتشاف وإعادة الاكتشاف، تجلى في أعمال العديد من مبدعين مصريين حاولوا أن ينهضوا بفن الرواية - ولكن أيضاً بغيرها من الفنون الأدبية - في اتجاهات متنوعة تربط بإحكام بين الأصالة والحداثة، محاولةً أن تتجاوز جيل الآباء المؤسسين، غير خائفة من الاصطدام لا بالذوق السائد ولا حتى بالسلطات والرقابة التي فتحت عيونها جيداً في ذلك الحين على محمولات أيديولوجية تجديدية و «تخريبية»، احتواها ذلك الأدب الذي أتى معظم ممارسيه من النضال السياسي اليساري تحديداً - وفق لغة تلك المرحلة -. وإذا كنا نعرف أن ذلك البعد النضالي قد أتاح لبعض ذلك الأدب شيئاً من التسامح إلى كثير من الترويج، فإن ما لا بد أن نشير إليه هنا هو أن ثمة أعمالاً لم تكن في حاجة إلى ذلك التسامح، ليس لعدم جرأتها، بل لأنها في مواضيعها ولغتها، لم تكن تعتبر «خطيرة». فهي كانت تنتمي إلى أدب لا يتوخى الآنية والصدام المباشر، بل يشتغل على مفهوم المدى الزمني الطويل والفعل في الذهنيات لا في المواقف السياسية المباشرة. ولعل من أبرز الأمثلة على هذا، رواية «أيام الإنسان السبعة» التي لا يمكن التعامل معها اليوم إلا بوصفها الأبرز والأقوى بين الأعمال المؤسّسة لذلك التيار.

هناك ثلاث سير في رواية عبدالحكيم قاسم هذه: سيرة الطريقة التصوفية التي تشكل رحلة الأيام السبعة التي تقوم بها إلى مقام السيد البدوي في طنطا، وارتباطها بولي محلي آخر أقلّ شأناً منه، إطارها «الحدثي». ثم هناك سيرة السيد «زعيم الجماعة» ورائدها الفكري والأخلاقي، وهو والد الفتى عبدالعزيز، والذي يشكل حضوره ذلك الرابط بين هذا الأخير والجماعة وسيرتها. وهناك أخيراً سيرة عبدالعزيز نفسه، شخصية الرواية المحورية وراويها والذي لن نستغرق طويلاً قبل أن ندرك أنه يكاد يكون الأنا/الآخر لعبدالحكيم قاسم نفسه، هو الذي سوف يعود بأعمار مختلفة وظروف مختلفة وأطر حياتية أخرى في نصوص لاحقة للكاتب. أما هنا، في هذه الرواية، فإننا نلتقيه فتيّاً راوياً لـ «الأحداث» التي تبدأ مع سهر رفاق الرحلة عشية الشروع فيها، لتنتهي مع وفاة الأب عند نهايتها. ولعل أهم ما يحدث هنا هو أن لا شيء يحدث بالفعل سوى الرحلة نفسها، ومن ثم موت الأب الذي سيطلق العنان للراوي - غالباً، إنما المرويّ عنه أحياناً في شكل يتميّز بتداخل لغوي بالغ القوة والنضج - في مسار الحياة. وبالتالي نجدنا هنا أمام نوع شديد الخصوصية من «الرواية التعليمية» التي تتابع مسار اكتساب الوعي لدى فرد معيّن (هو الفتى الراوي)، في جَبْهه من ناحية مع سياقه الحياتي الخاص (وعيه على الدين -الشعبي- والجنس وبقية صنوف الحياة من حوله)، ومن ناحية ثانية مع ذلك الامتلاء الأيديولوجي الذي يحيط به، والذي من الواضح في نهاية الأمر، أنه سيكشف في شكل مضمّر نوعا من اللاتلاؤم بين نقائه المفترض وسلوكات الحياة التي انفتحت أبوابها من حوله، ولا سيما في مشاهد «الخبيز» في الفرن حيث عالم النساء وانطلاق الرغبات الجنسية وتعابيرها حين ينفرد عبدالعزيز بنساء العائلة، وقد انطلقن على سجيتهن ملبساً وكلاماً وتعبيراً لفظياً أو جسدياً. في البداية قد يبدو واضحاً لنا توازن العالمين في قدرتهما على إبهار عبدالعزيز، ولكن من المؤكد أن حضور الأب، بتسامحه ومرحه ونهله المتوازن من كل ما يحيط به، يكون الضامن لسلوك من الفتى يوازن بينهما كما فعل الأب. وهذا ما يضفي على الرواية، باشتغالها المدهش على اللغة، والتقدم في تدرّجها «الحدثي» وكمّ البوح الجميل فيها، قوة نقاء تكاد تجعلها واحدة من أجمل الروايات التي أُنتجت في مصر خلال العقود الأخيرة.

إذاً، برواية واحدة، كانت على أي حال روايته الأولى، استطاع عبدالحكيم قاسم أن يجعل لنفسه مكانةً أساسية في الفن الروائي المصري، مكانةً دفعت الناقد عبدالمحسن طه بدر لأن يخصه بواحد من أعمق فصول كتابه «الروائي والأرض» ويضعه إلى جانب محمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم وعبدالرحمن الشرقاوي مرةً واحدة، ولم يكن بعد تجاوز الثلاثين من عمره. وكما فعل بدر، اعترف النقد الجديّ بعبدالحكيم قاسم باكراً، لكن كل ما كان يفعل هذا الكاتب الفذ كان يأتي باكراً، حتى موته جاء باكراً ومفاجئاً عام 1990. وكان رحيله بعد معاناة مع المرض وبعد شهور عذاب لم يتوقف خلالها، على أي حال، عن الكتابة، حيث تطالعنا في آخر كتاب صدر له بعنوان «الديوان الأخير» مجموعة قصص قصيرة تحمل كتابتها تواريخ الشهور الأخيرة من حياة ذلك الكاتب الذي لم تتوقف حياته، منذ ظهر في الحياة الأدبية في 1969، عن أن تكون سلسلة من ضروب المجد والنفي والسجن متتابعةً. لقد كانت حياة عبدالحكيم قاسم، في حد ذاتها، رواية، هي في نهاية المطاف، حكاية ذلك الجيل الستيني الذي كان لا بد له في نهاية الأمر من أن يكون جيلاً انفصامياً، هو الذي ضاع بين بنوّته للثورة الناصرية وانتمائه إليها من جهة، وكونه ضحيتها الأولى من جهة ثانية. غير أن عبدالحكيم قاسم كان أكثر من هذا.

كان واحداً من أبرز أبناء جيله، إن لم يكن في كافة أعماله، فعلى الأقل في اثنين منها: روايته القصيرة «المهدي» ذات الصبغة التنبؤية المدهشة، و «أيام الإنسان السبعة» التي تنبع أهميتها، وفق الناقد محمد البدوي (في كتابه الملفت «الرواية الجديدة في مصر») من أسباب عدة «منها توقيت صدورها المبكر نسبياً، ومعالجتها موضوعاً جديداً، وما تحقق فيها من إنجاز فني تمثل في جدّة تشكيلية، على نحو جعلها تلفت إبان صدورها الأنظار إليها وإلى موهبة صاحبها». أما الناقد عبدالمحسن طه بدر فيرى في الرواية نفسها «رؤية معاصرة للقرية يكتبها روائي شاب معاصر لعل أهم ما يميز رؤياه التحام الذات والموضوع، فالمؤلف في هذه الرواية لا يفرض على القرية مشكلة من خارجها هي مشكلته لا مشكلة القرية، وهو لا يجعل من القرية ضحية لتصور فكري أو مجرد أداة للتبشير بفكرة من الأفكار، ولكنه يحاول مخلصاً أن يرى القرية في واقعها وأن يستشف أعماقها».

بين 1969 الذي صدرت فيه روايته الأولى و1990 الذي صدر فيه آخر كتاب لعبدالحكيم قاسم خلال حياته، صدرت له في بيروت كما في القاهرة روايات قصيرة ومجموعات قصصية عدة منها «قدر الغرف المقبضة» (1982) و «الأخت لاب وسطور من دفتر الأحوال» (1983) و «الأشواق والأسى» (1984) و «المهدي وطرف من خبر الآخرة» (1985) و»محاولة للخروج» (1987)، وهذه الأخيرة رواية متوسطة الطول يصور فيها الكاتب عودة الراوي إلى قريته بعد غياب.

> تميزت كتابة عبدالحكيم قاسم بقوتها اللغوية وبرصدها التفاصيل، ولكن كذلك بطابع تنبوئي لا يخلو من جرأة ميز، مثلاً، رواية «المهدي» التي تصور محاولة لشعبة الاخوان المسلمين في قرية مصرية دفع مسيحي فقير مشرد إلى اعتناق الإسلام واعتباره مهدياً منتظراً. كما ميز في شكل خاص، وكما أشرنا، «أيام الإنسان السبعة». حيث هدف الكاتب، وفق رأي عبدالمحسن طه بدر إلى «رصد عملية التغير التي تكمن خلف الرقابة السطحية لحياة القرية، فهو يرصد جزئيات الحياة في القرية كيف تتحرك وتتجمع لتخلق عالماً خاصاً له طابع معين، قيم خاصة وطراز معين من السلوك ومن العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، ثم يتابع رصد هذا العالم وهو يتعرض لعملية التغيير والتبديل حين يشحب الضوء من حوله ويدب الضعف إلى الجزئيات التي تجمعه وتشده إلى بعضه بعضاً لتبدأ بعد ذلك عملية تفتت هذا العالم وانهياره».

بقي أن نذكر أن عبدالحكيم قاسم ترك عند رحيله الكثير من النصوص غير مكتملة وغير منشورة، ومن بينها رواية «كفر سيدي سليم» التي كان قد بدأ كتابتها في 1985، لكنه لم يتمكن من استكمالها على الإطلاق فنشرت ناقصةً في كتابه «الديوان الأخير» إلى جانب آخر النصوص التي كتبها كما إلى جانب تمثيلية إذاعية هي مسرحيته الوحيدة وعنوانها «ليل وفانوس ورجال».

إبراهيم العريس

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)