أورويل في الضاحية الجنوبية، فوزي ذبيان (لبنان)، رواية دار الآداب - 2017

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الإثنين 17-01-2017
الصفحة : ثقافة
يوسف بزي


"أورويل في الضاحية" : مدخّنو الأركيلة يقررون مصير البلاد


لدينا هنا وقبل كل شيء، متعة في القراءة. سلاسة بالغة في الإيقاع والمسار. كتابة بلا زوائد. نص روائي محموم، مباشر وحيّ. قسوة في الفضح وسخاء في التعاطف والدراية. ببساطة، “أورويل في الضاحية الجنوبية”(*) عمل واجب القراءة.

تنتهي الرواية عند الساعة الخامسة من فجر 7 أيار 2008. وهو اليوم المشؤوم الذي يعرفه اللبنانيون جيداً، حين اندفعت جحافل الزعران والمسلحين، التي نظّمها “حزب الله” وعبأها في الضاحية الجنوبية، مقتحمة بيروت الغربية وبعض المناطق الجبلية.

إذاً، ينتهي الأدب والتخييل الروائي عند لحظة انفجار الواقع، حين لا يعود ممكناً استيعاب الفوضى ولا ضبط الحقائق، وحين تذهب الوقائع إلى عبث أقصى، وتقع اللغة في العجز. هنا، يسكت فوزي ذبيان عن الكلام المباح وينتهي السرد.

توقيت نهاية الرواية يتناسب مع الاقتباس الذي وضعه الروائي قبل بداية الرواية. عبارة جورج أورويل في روايته “1984”: إذا أردت أن ترى صورة المستقبل، تخيّل صورة حذاء ضخم يسحق رأس رجل.. وإلى الأبد".

كان هذا الاقتباس هو الإشارة الوحيدة إلى الروائي البريطاني في كل الرواية. مع ذلك، كان كافياً لأن يكون حاضراً في العنوان “أورويل في الضاحية الجنوبية”، طالما أن ذكر اسمه يحيلنا تلقائياً إلى “الأخ الأكبر” وإلى عوالم الطغيان والتسلط وشرور فكرة القائد المخلّص.
بالطبع لا يغيب عن انتباهنا أن المشهد الافتتاحي للرواية، حين تقتحم مجموعة من الأوغاد التابعين للجهاز الحزبي المهيمن على ضاحية بيروت الجنوبية منزل بطل الرواية لتصادر منه زجاجات الكحول، هو أيضاً تحية لرواية “1948” وجورج أورويل.

يتعمد فوزي ذبيان التأخر في تسمية بطل روايته: “لضآلة شأنه، ربما لن آتي على ذكر اسمه البتة” (ص9). ولن نعرف أن اسمه “حمّودي” حتى نهاية الصفحة 37، بعد أن انتهت محنته الأولى، عائداً من المعتقل الحزبي السري، متعهداً لهم بعدم تعاطي الكحول مجدداً.

حمودي، الضئيل الشأن، شاب في مطلع العشرينات من عمره، توفيت شقيقته الشابة (الشاعرة الرومانسية) “آلاء” بمرض السرطان قبل شهر من بداية زمن الرواية. حزنه عليها لا ينتهي أبداً وهي حاضرة في وجدانه باستمرار، ودوماً يستعيد على امتداد الرواية مقاطع من كتاباتها الرومانسية الفصيحة والمترعة بالمجاز والرمزية. نصوص “آلاء” وشذراتها، التي تشكل عالماً حلمياً لحمودي، تبدو وكأنها حيلة روائية بارعة، طالما أنها من جهة تمنح البطل حياة متخيلة شاعرية شديدة السذاجة على نقيض حياته اليومية المدقعة والقاسية والخاوية في الضاحية الجنوبية، وهي من جهة أخرى تشكل ذريعة لفوزي ذبيان لـ"نقد" اللغة الأدبية الشاعرية والهزء منها وتهفيت مرجعيتها الثقافية، مقابل انحيازه في سرده وروايته للغة مسرفة بالعامية ولا تتورع عن البذاءة والسوقية، لغة الرعاع ولغة الشارع ولغة الزعران والأغاني المبتذلة و"الهابطة"..إلخ.

ليست صدفة، أن الشقيقة التي “تكتب” وتبوح وتفكر ميتة، فيما الأنثى الثانية في حياة حمّودي، هي البنت المعتوهة “بتول”، ابنة الجيران (19 عاماً) “لا يهمها من الكون سوى الكعب العالي والهاتف الخليوي وأحمر الشفاه.. إذا كان المجال متوافراً” (ص 24). وبتول سقطت وهي في الثالثة من عمرها من الطابق الأول، ومع تقدمها بالعمر ظهرت عليها علامات الهبل والعرج و"النصف لسان"، فلا تلفظ حرفاً إلا ملدوغاً وغير مفهوم تقريباً. الأنثى الثالثة هي الأم المقعدة والمريضة دوماً وبالكاد تقول شيئاً في كل الرواية. هكذا، يكون حضور المرأة في الرواية متراوحاً بين الموت والخبل والعجز.. وفي كل الأحوال تكون اللغة معهن ممتنعة. فهي مع الأخت كتابة سرية خارج الحياة، ومع الأم صمت مطبق، ومع ابنة الجيران لعثمة بلهاء. هكذا لا يبقى في فضاء الواقع سوى لغة ذكورية فاحشة وعنيفة.

مسار الرواية هي “رحلة” حمودي، موزّع الماء، من لحظة “اعتقاله” وخروجه راكباً “الفان” (باص نقل صغير يعتمده معظم الفقراء في بيروت وضواحيها)، ثم وصوله متأخراً عن عمله ليُطرد من هذه الوظيفة الوضيعة، إلى تحوله عاطلاً عن العمل يتسكع في سوق “صبرا” (قاع الضاحية ورمز الرثاثة الاجتماعية): “كل شيء في صبرا أرخص، بدءاً من حمالات الصدور والكلاسين وصولاً إلى التلفزيونات والستريوهات وحنفيات المياه والقساطل وكراسي الحمام والسجاد والعنب والبطيخ وأفلام السكس والكتب. كل شيء موجود في صبرا، حتى الأقدام الاصطناعية لها ركنها الخاص، والبوستيجات وأقلام الحمرا والجزادين والمعاطف والكوفيات الفلسطينية وصور ياسر عرفات وسماحة السيد وحافظ الأسد ونبيه بري والرئيس بشار وشاكيرا وهيفاء وهبي والسيدة العذراء وملكة بريطانيا ولينين وغيفارا وغاندي وراغب علامة ورونلدينو وبوستر فيلم الرقص مع الذئاب..” (ص 39). وفي صبرا، بمطعم “الانتفاضة” للفول والحمّص، سيلتقي حمودي بـ"شادي" أحد الشبان المهووسين بأفلام البورنو السادية، وعبره سيحاول إعادة التواصل مع شلة “الشحرور” الذي يقبع سجيناً بعد سلسلة من عمليات السرقة المسلحة لضحاياه من اللوطيين. لكن، وعبر شادي سيتواصل حمّودي مع أبو زهرة (الشهير بعضوه الكبير الطويل والمتبجح بمغامراته الجنسية) إذ كانت تربطه سابقاً علاقة تقوم على بيع النحاس والخرضوات، والذي سيدبر له عملاً كموزع “ديلفري” أراكيل (نارجيلة) في أحياء الضاحية عند دكانة الحاج رضا، حيث يعمل فتيان مثله بقيادة جعفر المعروف باسم “بنزاكسول”. دكان يبيع الأراكيل (والمخدرات) ويوصلها إلى البيوت والمحال. هنا سيستقر حمّودي عملاً وانتماء وصحبة ومزاجاً.

هذه الرحلة، هي ذريعة الروائي في الكشف عن عوالم شبان الضاحية ووصف سينوغرافية شوارعها والتقاط النبض الصاخب للأحياء العشوائية ومفارقاتها الاجتماعية والسياسية: اللصوصية، البورنوغرافية، التشبيح، الفقر المقترن بمظاهر العنف، التزمت الشكلي والتفلت السلوكي، انتشار المخدرات الرخيصة، البذاءة والرثاثة والفوضى، انعدام الذوق والفظاظة، اقتصاد التهريب والنهب و"الزعبرة" والتحايل على القوانين. وكل هذا بالتجاور مع صور الشهداء والرموز الدينية والشعارات الحزبية وصور حسن نصرالله الكبيرة التي تظلل البنايات.. يكتبها ذبيان بسرد لاهث وبسلسلة من المشاهدات التلقائية والعفوية، كشريط من تصوير وثائقي وقح ومباشر. وبعين واسعة تلتقط، بحنكة سينمائية وخبث أدبي، تناقض “الخطاب” السياسي والأيديولوجي المهين مع مجريات الحياة اليومية للمؤمنين بهذا الخطاب والمعتصبين به هوية لهم، والمتوسلين به قوة وغلبة بوجه الجماعات الأخرى. هذا التناقض سيكون واضحاً دوماً عند حمّودي، حين يكون وحيداً يتذكر رومانسيات شقيقته ورهافتها، وحين يكون منغمساً مع شلته في لغو السفاهة والعنف اللفظي والأعمال المشبوهة.

أيضاً، سيعتمد ذبيان على حيلة روائية أخرى، لفك شيفرة هذه التناقضات وإبرازها، عبر منح كل شخصية في الرواية “رنّة هاتف” خاصة به. فلحمودي رنة هاتف هي مقطع من أغنية لفيروز: “طيري يا طيارة طيري يا ورء وخيطان..”. أبو زهرة رنته هي عبارة لحسن نصرالله: “أعدكم بالنصر دائماً.. أعدكم بالنصر دائماً”. أما قائد الشلة بنزاكسول فرنّته أيضاً مستلّة من إحدى خطب نصرالله النارية: “سوف نقطع أيدي وأرجل وعنق كل من يحاول المس بسلاح المقاومة..”. هذا وقد تقبّل الشبان رنة حمّودي: “يللا، عكل حال فيروز بتضلّا أهون من هيدا صاحبو لحسين.. شو إسمو.. هاني شاكر”. الجميع بسبب ذلك لا ينادوه حسين الهقّ، بل “هاني الفوفو” أو “فوفو شاكر”.

سيخصص فوزي ذبيان نصف روايته لما سيدور في عالم دكان الحاج رضا. وفي الأثناء ستموت “بتول” المخبولة برصاصة طائشة من إطلاق نار في الهواء ابتهاجاً بخطبة حسن نصرالله التلفزيونية، وسيُقتل إبن عم “فوفو شاكر” أثناء دورة تدريبية لـ"حزب الله"، وستتحول أرض البور المقابلة للدكان الفائحة دوماً برائحة البول إلى أرض ممتلئة بالإطارات المطاطية المستعملة التي يأتي بها الحاج رضا برفقة أشخاص يركبون السيارات المموهة الرباعية الدفع والخالية من لوحة الأرقام، تحضيراً ليوم مهم وخطير.

فصول دكان الأراكيل تسرد التحول السريع لحمّودي واندماجه في الشلة المتصلة بالشبكة الحزبية نفسها التي اعتقلته مطلع الرواية. اندماج مصحوب بتعاطي المخدرات على أنواعها وبتجارة الكحول المغشوش وبتدخين أسطوري للأراكيل وبمشاركة حماسية ومحمومة بمهرجانات “حزب الله”.

هكذا، في الفصل الأخير، ستتغير رنّة هاتف حمّودي من “طيري يا طيارة طيري.. يا ورء وخيطان” إلى “لبّيك يا نصرالله.. لبّيك نصرالله”. ليستيقظ على هذه الرنّة فجر 7 أيار 2008، بعد سهرة ويسكي وحشيش وأراكيل وعقارات هلوسة (غبرة الخشخاش مع ترامال ممعوس على شويّة ليغزوتانيل على بروزاك، يقوم بنقعهم مع معجونة سرية في تنر مخفف بالماء..) وبكاء عاطفي مرير انخرط فيه هو وحسن النووي وبنزاكسول والشحرور والصندل وفوفو..

يستيقظ حمّودي ليلبي نداء نصرالله يوم 7 أيار. نداء “المقاومة في يومها المجيد”. والبقية تعرفونها خارج هذه الرواية.

(*) صدرت عن “دار الآداب” بيروت 2017 في 142 صفحة.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة


حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.



جريدة الحياة


السبت، ١٤ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٧
جريدة الحياة
محمد برادة


ماذا يفعل أورويل في ضاحية بيروت الجنوبية ؟


يـلفت في رواية «أورويل في الضاحية الجنوبية» للكاتب اللبناني فوزي ذبيان (دار الآداب،2017)، لـغـتُـها المتعددة المستويات واستـيـحاؤها فئاتٍ بشرية مـهمشة في بيـروت، تعيش متوارية وراء العمارات العملاقة ومظاهر العيش المُـتـرفة الزاعقة. وشـكل بـناء الرواية يـصـلـُنا من خلال أربـعٍ وأربـعين فـقرة أقـرب ما تكون إلى شكل سـيناريو سينمائي، يـعتمـد على مشاهـد تـصاحبُ الفـعلَ والوصف وتسـتـعمل الحوار بلـغة الكلام المُـتداولة في الضاحية الجنوبية، بما هي عليه من هجنـةٍ تخلط الدارجة بالكلمات الإنكليزية، وتجـعل السـرد أفـقـيـاً يـتـمدّد لـيلتقط تفاصيل الحياة لـفـئاتٍ تعيش في الهامش، وتـتـعـيّش من خـدمةِ مَـنْ لـهم إمكانات الإنفاق على ما يُـعـدّل الـمزاج ويـؤمن بعض الحاجيات اليومية. بعبارة ثانيـة، لا تـقوم الرواية على حِـبْكة عـمودية تـنطوي على مفاجآت، وإنـما هي بـنـيـة مـفــتوحة تـتـوخى الإطلالة على شـرائح من هذه الفـئات المهمشة التي تـعمل لمصلحة مَنْ يملكون مشاريع لها علاقة بالخدمة العامة، مـثل بيـع المياه الصالحة للشـرب، أو تـأجـيـر الأراكيل وتوصيلها إلى البيوت والدكاكين، أو بيع البـيـرة الحلال... والشخوص الأساسية التي تـؤثث هذا الفضاء في أطـراف الضاحية، هي من فـئـة شـبانٍ يعملون في مثل هذه المـهـن الخدماتية التي لا تـتوافـر على أي ضمان اجتماعي أو حقوق ثابتة. ويحــتـل حـمودي موقعاً بارزاً في الـنـصّ، لأنه يعيش مع أمـه العجوز بعد أن ماتت أخته العزيزة وتـركت جـرحاً غـائـراً في نفسه، وهو يسعى إلى أن يجد عملاً يخرجه من دائرة البؤس ويحقق من خلاله ما تطمح إليه نفسـه الـشابّة ... لكن مجموعة مـتنـفــذة أرغمته على تـرك عمله في توزيع المياه الصالحة للشـرب، فـاضـطـرّ إلى الالـتـحاق بـدائرة الحاجّ رضــا صاحب مقهى تُـؤجّـر الأراكيل وتقدم خدمات أخـرى غـيـر مـنظورة.

وفي فضاء عمله الجديد، يـلتقي حمودي بـزملاء في الخدمة لهم ملامح مختلفة، وممارسات تـتـوخى نسـيان الوضعية الـبائسة، والتـهميش المـطارد لـهـم. وإلى جانب الحاجّ رضا، هناك الريّس البـنـزاكسول المشـرف على المقهى وتوزيع الشغل على الشبان، وتـلـقـّي طلبات الـزبائن. ومن حين لآخـر، يـلـتئم الشبان العاملون في سهرة «عـرمـرمية» يـتصدرها «أبو زهرة» ضيف الشـرف الذي يُـفيض في سـرد أسـراره الجنسية مع إيـفا الأرتيـرية، ويشجعهم على بــلـْـع الأقراص المخدرة التي اخـترعها حـسن الـنووي... قــد تـبدو هذه المشاهـد عادية ومـألوفة بالنسبة إلى شـبانٍ يـعيشون على هامش المجتمـع، لـولا أنهم، هنا، يعيشون في الضاحية الجنوبية، وفي فـضاء تـحرسه عـيون سماحة السيد وخـُـطبه النارية، وصـور شـهداء المقاومة: «بـالإضافة إلى الصورة الضخمة لـسماحة الـسيـّد، والمـمتدة على طول أربعة طوابق في أحد الأبـنية المــتـاخمة لـمبنى حـمودي، شـدّت نـظـره أرتال صور الشهداء المعلقة على أعمـدة الكـهرباء. فهو حفِظ تـقاسيمَ هذه الوجوه الجميلة وملامحها أكـثـر من وجـهه هـو، حتى إنه لطالما شـاهد أصحاب هذه الوجوه في مـناماته» ص.50.

هذا العنـصر في تكوين الرواية، أي الفضاء الذي يُـحيـل على أجواء إيديولوجية معينـة في لبـنان، هـو ما يـعطي لـ «أورويل في الضاحية الـجنوبية» أبـعاداً دلالية قائمة على المفارقة والتـناقض، سـنـتـوقف عندها بـعـد حـيـن. ونـجد أن الشخصيات كثيرة في الرواية؛ إلا أن الكاتب يـرسمها بـاقتصاد وتـركيـز لـيدفع القارئ إلى استـكمالها، على نحو ما يطالعنا به عندما يتحدث عن «بـتول» جارة حمودي ذات السلوك الغرائبي: «من يَــرَ إلى بـتول وهي تتكلم على التلـفون يـصدق أن كونـداليسـا رايسْ هي على الخط الآخـر. ولا مـرة كانت بتول منـشغلة عــبـر اتصالاتها الهاتفية دون هذا المستـوى العالمي، إنما فقط مع النساء. حتى إنها، في إحدى المرات، استعارت الهاتف وظلت حوالى الساعتيْن تحادث أنجــيلا ميـركيل بـأمـرٍ مّــا». ص. 33. لـكـن «حمودي» يـستــأثـر باهتمامنا لأنـه يـظل من بـداية الرواية إلى نهايتها، حاضناً لجُـرحـه السـرّي المتـصل بفقدان أخته «آلاء» أولاً، ثم موت جارته بتول بـرصاصة طائشة. وهذا ما يـبـرر الـفـقـرات المكثفة ذات اللغة الشعرية في النص، كلما تعلق الأمـر باستحضار الأخت في ذاكرة حـمودي من خلال ما كانت تكتبه: «لـم أشـرّع أبوابي يوماً إلا أمام عـيْـنـيكَ...أعـذر كـآبـتي ومـسَّ الجنون. وإذا ضحكتَ في العشايا لا تــخبـئ بـين كـفـيْـكَ ابـتـسامة تـشبه الـبدايات الـمـباغتة، ابتسامة تشبه أسعد النهايات». ص61.

عنفٌ مستـتر وَمكشوف

يـبدو جـلياً، بعد إبـراز طـريقة الـسـرد السيـنمائي وعناصـر الشكل القائم على المـشـهدية والشـخوص الـمـنـتـسـبة إلى فـئات مُـهمشة داخـل فضاء إيديولوجي مُـهيـمِـن، وتناقض سلوكِ الشخصيات مع أخلاق ومبادئ سـدنةِ الـضاحية الـغـربية، أن عـنـصـر المُـفارقة والتناقض يضيء تــأويـل الدلالة في الـرواية. وإذا كان العنوان يُـخصص الضاحية الجنـوبية من بـيروت، فـإن الـدلالة لا تـسـتـقيم من دون استحضار الكـليّـــــة المجتمعية التي يـنـتـسب إليها الجزء الـمقتطـَع، الـمُـوظف في الـتمثيـل الـروائي. من هذه الـزاوية، نسجل أن سـيـطـرة الإيديولوجيات الطائفية سمـــة ٌعامة في لـبنان، ضـمن نـظام سـياسي يـدّعي الديموقراطية ويـنـتـحل مظاهرها.

والمـفارقة بارزة داخـل كل طائفة، بـين النــخَـب القيادية وعامة المواطنين الـمـنضوين ضـمن الطائفة. ولعـل الـتـنـاقض هو أوضح في الضاحية الجنوبية لأن الـمرجعية الدينية الـداعـمة للخطاب الإيديولوجي تـتـطلع إلى الشـمولية الـمـتـخـطية لـلقـطر أو الـبلـد الواحد. ومن ثـم، تـبـدو لـنا شـخوص «أورويـل في الضاحية الجنوبية» كاشفة لـتـناقــــضٍ مـزدوج: الـعنـف الذي يخضع لـه أتـبـاع الـطائفة/الإيديولوجية من خلال الـخُـطب والصور والـتـأطير السياسي الأحــادي. وفي المقابل هناك عـنف مكـشوف يتـمـثل في نوعية الاستـغلال الذي يمارَس على نماذج من الفـئات الـمهمشة التي لا تـستـطيع أن تكسب عيشها في شـروط تحفظ الكرامة، فـتـتــظاهـر بالانتماء إلى مـبادئ الطائفة الـمـهيمنة، فـيمـا هي تمارس سـلوكاً مـخالفاً للتعاليم الإيديولوجية السـائدة: «ثـمة على جدران المحلّ الكـثـيـر من الصور والعبارات التي تحثّ على الصـبر والتواضع، بـالإضافة إلى بـيْتـيْن من الشـعر لـلإمام عـلـيّ، علقـهما الحاجّ رضا على الجدار المواجه لمكتبه فوق مدخل المحل بالتحديد: السيف والخنجـر ريْـحاننا/ أفٍ على النرجس والآسِ / شـرابنا من دم أعدائـنا/ وكأسنا جمجمة الـراسِ» ص 75. لـكن هؤلاء الشبان المحاصرين داخل سـياج الوعظ والإرشاد، لا يـتـرددون في انتهاك التعاليم عندما تستـبد بهم شهوة الحياة، فنـجد حمودي يـنـقاد إلى مشاهدة أفلام الجـنس التي أعطاها له صديقه شـادي، ونجد الشلة في سـهـرتها تـقبل على الشرب والمخدرات لـتـحـمّــلِ وطأة التهميش وأخطار البطالة التي تـتــهدّدهم في كل حيـن. وهو ما نجد له تعبيراً قوياً وجميلاً في نهاية الرواية، بعد سهرة شـبان المقهى ووُرودِ خـبرٍ عن تـوقف الشغل في دائرة الأراكيل لمدة ستة أشهـر: « ...ساد الصمت في الغرفة إلا من بعض الـنـهنهات التي كان كل واحد من الأولاد يحاول كـتـمـها على طريقته الخاصة ويــفشـل ... خالـطتْ ابتـساماتهم الدموعُ وقد تـواطأ كل منهم أن يسـتقبل دموع الآخـر بـدون أن يـنـبس بـحرف» ص 140.

لـقد استطاعتْ «أورويل في الضاحية الجنوبــية»، إلى جانب تـمثيل حـيواتِ مـهمشين غائـصـيـــن في تـناقضات الواقع والإيديولوجيا، في شــكـل روائي تـجريبي لـه جماليـتـه، أن تـقدم في الآن نفـــسه، نـوعاً من الشهادة عن فئات واسعة من المجتمع اللبناني، مُـصادَري الصوت والحقوق، وذلك من خلال لـغة تمتح من مـعجم هـجين يـنطوي على أبعاد فكرية وشعـورية كاشــــفة لـوجود أولائك المـتـروكين على الحساب. ومـــن هذا المنظور، تـنـدرج رواية فـوزي ذبيان ضـمـــن إبـداع الروائيـيـن العرب الشـباب الذين يستـوحون الـواقع المـتـردّي المطبوع بالعنف والإرهاب والصـخب الإيديولوجي الـعـقـيـم.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)