أنا أتخيل : فضاء المقدرة عند ابن رشد للفرنسي جان باتيست بروني ترجمة عز الدين الخطابي - دار توبقال (المغرب) 2020

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
الأحد 2020/03/29 - السنة 42 العدد 11661
الصفحة : ثقافة
مخلص الصغير - كاتب مغربي


مفكر فرنسي يلقي أضواء جديدة على عبقرية ابن رشد


كتاب “أنا أتخيل” للمفكر الفرنسي جان باتيست بروني يقترح فهما مغايرا للمتن الرشدي، يتجاوز مفهوم “العقل” الذي توقف عنده الدارسون السابقون لفلسفة ابن رشد، متجها نحو العناية بمفهوم “الخيال”.


ابن رشد أحد أعظم الفلاسفة الذين أسهم فكرهم في ولادة فكر الأنوار الأوروبي


يبدو عنوان “أنا أتخيل” مستفزا للفكر الغربي منذ البداية، فهو يحيلنا مباشرة على المعادلة العقلانية الشهيرة لديكارت “أنا أفكر إذن أنا موجود”، بقدر ما يسائل هذه المسلمة التي عمرت في الفكر الغربي ولا تزال تمثل أساسه العقلاني. “أنا أتخيل: ابن رشد وفضاء المقدرة” هو الكتاب الجديد للمفكر الفرنسي جان باتيست بروني، والذي يعيد اكتشاف عبقرية فيلسوف قرطبة، وتصوره للعقل، بوصفه قوة مشتركة لدى الإنسانية، بينما كان الخيال عنده هو الباعث على التفكير… على أساس أن التفكر ليس نتاجا نهائيا للعقل، بل هو نتاج الخيال.

بعد أربعة كتب عن ابن رشد، منذ “تغيير الموضوع: تفكر ابن رشد”، وصولا إلى “ابن رشد المقلق”، يأتي كتاب “أنا أتخيل: فضاء المقدرة عند ابن رشد”، للمفكر الفرنسي جان باتيست بروني ليتوج مسار أحد أهم المتخصصين المعاصرين في الرشدية، على مدى عشرين عاما.

وإذا كانت الأبحاث السابقة بمثابة دراسات مقارنة في الفكر الوسيط، ما بين طروحات ابن رشد وطروحات توما الإكويني وتوماس ويلتون وأليغري دانتي والرشديين اليهود والمسيحيين، فقد انتهى المفكر الفرنسي في كتابه الحالي إلى صياغة قراءة جديدة وغير مسبوقة للدرس الرشدي، خاصة ما يتعلق بعقلانية ابن رشد. فلئن كانت الفلسفة الغربية قد دأبت على اعتبار ابن رشد مرجعها العقلاني، فإن هذا الكتاب يؤكد أن ابن رشد كان أكبر من مجرد عقلاني، وأن فلسفته جاوزت العقلانية نحو نظرية كبرى في الخيال.
بورتريه ابن رشد

في الفصل الأول من هذا الكتاب الجديد، يتأمل جان باتيست بروني لوحة جدارية لابن رشد رسمها الفنان الإيطالي أندريا فرينسي دي بونايوطو، الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي، وهي لوحة غلاف الكتاب.

في هذه اللوحة يضع ابن رشد مرفقه على الكتاب، ويده تحت ذقنه. بينما يتساءل بروني: ما الذي يفعله ابن رشد، ليأتينا بالجواب سريعا “إنه يفكر”. من هنا جاء الكوجيتو الديكارتي “أنا أفكر إذن أنا موجود”، لكن بروني سوف ينتقد الحداثة الغربية، التي اقتصرت على الأخذ بمقولة “الفكر”، و”التفكير” واعتبره من نتاج العقل. بينما هذا “التفكير” ليس إلا خلاصة لعملية أعمق من ذلك، ذلك أن الإنسان إنما “يحس، ثم يتخيل، وبوصفه إنسانا، فهو ‘يفكر’، أو يتصور، بمعنى أنه ينتج ويركب موضوعات عامة ومفاهيم.

والحال أن ذلك لا يفيد فعل فكر”، يخلص المفكر الفرنسي، مستفيدا من بورتريه ابن رشد ومذهبه الفلسفي. من هنا، يقر بورني بأن التفكر ليس وليد العقل، رغم أنه يتم في حضوره.

“التفكر فعل نفسي تحت عقلي بالنسبة إلى الإنسان العاقل، بمعنى أنه عملية النفس داخل الجسد”. ويفرق المفكر الفرنسي بين التفكر والتعقل، بمعنى إعمال العقل، وموضوعه المفاهيم الكلية. إن موضوع التفكر هو الصور والتخيلات. من هنا، يدعونا بروني إلى إحياء معادلة القرون الوسطى، حسب خلاصته المركزية، وهي أن عبارة “أفكر” تعني “أتخيل”.

ويقر الباحث بأن الفلاسفة العرب، وهم “المعلمون الكبار” على حد توصيفه، هم الذين أثاروا هذه المسألة قبل غيرهم، هم الذين ورثوا الفكر الإغريقي “الديانويا”، و”نظروا لحياة نفسية جديدة أصبح فيها الدماغ ليس مكان الذهن أو العقل بشكل مركزي، بل الفاعل الأساسي بواسطة الصور لكل فعل ذهني سابق على التعقل”.

وبحسب هذا الكتاب دائما، كان ابن رشد هو الذي قارب هذه المسألة بشكل أفضل، ويرجع ذلك إلى “الوصل الذي أقامه بين الخيال ومذهبه (الملعون) في العقل”. حيث يتوفر فعل التفكير عند ابن رشد على القوة المفكرة، نعم، ولكن في مقابل “القوة المتخيلة” أيضا، أي التخيلات التي تنتظم وفق عقل منفصل عن الجسد. ولذلك، فإن هذا العقل الرشدي هو عقل مطلق وأزلي، إضافة إلى “الفراغ الفطري لطبيعته”. وبهذا، يكون ابن رشد قد حدد فعل التفكير داخل هذا الفضاء المفتوح، الذي أسماه فيلسوف قرطبة “فضاء المقدرة”.

في الأخير حاول المفكر الفرنسي أن يعود بنا إلى جدارية ابن رشد، كما تخيلها أندريا دي بونايوطو، لكنه وإن استحضر المفكر اللاهوتي توما الإكويني، الذي استفاد من ابن رشد، إلا أنه تفادى أن يخبرنا بذلك، هذه المرة. إضافة إلى أن لوحة الغلاف ما هي إلا جزء من جدارية الفنان الإيطالي أندريا دي بوناييتو دي فرينسي، والتي تحمل اسم “انتصار القديس توما الإكويني”، وهي تلتقي مع عمل آخر يحمل اسم “تأليه القديس طوما الإكويني”، لبينوسو غوسولي، يبدو فيه ابن رشد أسفل اللوحة، بينما يجلس القديس الدومينكاني اللاهوتي توما الإكويني عاليا، تحفه الملائكة وتبارك مذهبه، إضافة إلى لوحة أخرى تحمل الاسم نفسه للفنان الإسباني فرانسيسكو ثورباران.
الخيال الفاعل

يرى المفكر الفرنسي أن عبقرية ابن رشد حسب الأوروبيين هي أنه “فصل العقل عن الجسم ورفع من شأنه”. ويرد بروني على انتقادات اللاتينيين لابن رشد، وفي مقدمتهم توما الإكويني، حين يرى أن صاحب “تهافت التهافت” هو الذي أعلى من مكانة العقل، لأن الإنسان، حسبه، إنما “يتحدد بوصفه حيوانا ساميا قادرا على التعقل، إلى درجة أنه لا يوجد إنسان بحصر المعنى خارج العقل”. فحيث يوجد الإنسان يوجد العقل، لأنه منفتح دوما على المعقولية.

ويفرق ابن رشد بين العقل بما هو قدرة، وبما هو مقدرة، أو أداء وإنجاز وممارسة، أي العقل المنفعل. وهذا “العقل المنفعل الذي يعتبر شرطا للتعقل، ثم للتذكر، هو الخيال”.

ما يؤكد مرة أخرى انتصار الرشدية للخيال، باعتباره التجلي العملي لفعل التفكير كما يمارسه العقل.

وحسب ابن رشد، دائما، يولد الإنسان وهو يمتلك هذه القدرة على التخيل. يشبه الأمر الملكة اللغوية لدى الطفل، حسب تشومسكي، أو تلك القدرة اللغوية التي تجعله قادرا على تعلم لغة أي بيئة وضع فيها، وهو لما يزل رضيعا. لكن ملكة التخيل هذه هي مقدرة بعيدة، وليست هي المقدرة التي يمتلكها الإنسان عند الممارسة. ولذلك فإن هذه الملكة إنما توفر “استعدادا غامضا سابقا على المقدرة، والتي اعتبرها ابن رشد تهيؤا خالصا”.

ويفرق ابن رشد بين ثلاث قوى في الدماغ، أولها الخيال، أو القوة المتخيلة، والتي تحفظ ما يدركه الحس المشترك. وهنالك الفكر، أو القوة المفكرة. ثم هنالك القوة الحافظة، أو القوة المصورة، ما دامت تقوم على استرجاع ما عملت القوة المفكرة على تجريده.

ومعلوم أن الخيال هو طريق من طرق التصديق عند ابن رشد، ذلك أن “طرق التصديق اثنين: إما الشيء نفسه وإما مثاله”. فالأول يتم عن طريق البرهان، والثاني يتم عن طريق ما أسماها ابن رشد “القوة المتخيلة”.

فالخيال عند صاحب “فصل المقال” هو “قوة مصورة بطريقة فعالة”، وهي قوة “تشكيلية”، كما يقول بروني. وبهذا المعنى، يسمى هذا الخيال فاعلا لأنه يقوم بإنتاج الصور، ويعمل على تخليد الأثر.

و”الخيال يترك أثرا داخل المفهوم والعقل والصورة”، حسب المفكر الفرنسي، ما دام المفهوم، كما يقول ابن رشد، “يرتكز على الخيال ويرتبط به”.

من هنا، يخلص صاحب كتاب “ابن رشد المقلق” إلى أن عبقرية هذا العقلاني العربي “تكمن في تصوره للعقل”، أما الحل بالنسبة إليه فإنه “يكمن في الخيال؛ إذ بواسطته، وأثناء نمو الفرد وتجلي واتساع التجربة بجسده تتميز قوة العقل لديه”، أي أن هذا العقل باعتباره قوة كامنة لدى الإنسان، تنمو وتتطور، لتتعقل وتتخيل وتتصور، حسب المقولات الثلاث، كلما اتسعت تجارب الفرد ومداركه.

هكذا، يقترح علينا كتاب “أنا أتخيل” لجان باتيست بروني فهما مغايرا للمتن الرشدي، يتجاوز مفهوم “العقل” الذي توقف عنده الدارسون السابقون لفلسفة ابن رشد، متجها نحو العناية بمفهوم “الخيال”، باعتباره مفهوما مركزيا عند فيلسوف قرطبة.

ذلك أن العقل قد يدرك الأشياء والظواهر ويستوعبها، لكن الخيال هو القادر على الخلق والابتكار والاكتشاف، وعلى تجاوز التقليد، والتطلع إلى معنى جديد.

وتلك واحدة من الخلاصات الكبرى التي تدعونا إلى إعادة قراءة ابن رشد ليس بالعقل وحده، بل بالخيال الذي يسمح لنا بتجديد فكر ابن رشد، والانطلاق من حيث انتهى صاحب “فصل المقال”، نحو آفاق التفكر والخيال.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF

عن جريدة العرب اللندنية

العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)