أمين معلوف : مطرقة “إختلال العالم” وسندان “الهويّات القاتلة”

, بقلم محمد بكري

16-01-2013
جريدة القدس العربي
غرناطة - محمّد محمّد الخطّابي


جريدة القدس العربي


يشير الكاتب الإسباني ’خوان كروث’: ’إنه يستشفّ من كتب أمين معلوف خاصّة كتابه ’إختلال العالم’ صيحته بأنّ الغرب لا يحترم كرامة الإنسان، وأنّ نظرته عن الاختلال الذي يعرفه العالم تثبّط الهمم، وتخيّب الآمال.
وأنّ هذه النظرة ليس لها أيّ أصول أو دوافع ديماغوجية، بل إنها نتيجة وعصارة تجاربه ككاتب ومواطن لبلد ما انفكّ حبّه له يتغلغل ويعتمل في داخله، سواء لماضيه، أو لحاضره، بتناقضاته، وصعوباته، والآمال المحبطة التي ليس من الهيّن واليسير بلوغها أو تحقيقها . إنّ لبنان قد أضحى لدى معلوف وكاّنه رمز أو مجاز يجسّم نظرته للإنسانية’.
وضمن استجواب أجراه معه نفس الكاتب فى جريدة ’الباييس’ الإسبانية مؤخّرا أشار أمين معلوف:’ أنّ الحروب التي عرفتها بلاده جعلته يصيح بصوت جهوري في معظم كتبه أنّ العالم قد أصابه خلل مّا، وبأنّنا نسير نحو مستقبل مشحون بالنزاعات، والمرارة، والتظلّم، والتفاوت، والتنابذ، والتباعد، والحروب، والمعاناة، والفاقة والفقر’.

في البحث عن الجدّ الضّائع

يشير خوان كروث: ’أنّ معلوف ظلّ خلال عشر سنوات يبحث وينقّب فى الوثائق والمراسلات العائلية، وفي سجلاّت الدخول والخروج من وإلى ميناء نيويورك لعله يقتفي آثار جدّه الذي كان معلّما وسياسيا وصحافيا، والذي كان قد جعل من مسألة النّهوض بالتربية والحداثة ديدنه وهمّه الكبيرين في حياته، ومن جرّاء هذا البحث والتنقيب الحثيثين جاء كتابه ’بدايات’ الذي يعتبر ترجمة او سيرة ذاتية بليغة، أو حوارا حيّا لرجل ينتمي إلى زمن آخر،والآن بفضل حفيده قد أصبح يعيش بين ظهرانينا وكأنّه معاصرنا عادت إليه الحياة من جديد’. في ’إختلال العالم’ وفي سواه من أعمال معلوف مثل الحروب الصليبية كما رآها العرب، وليون الإفريقي، وسمرقند، وصخرة طانيوس، وحدائق النّور، والحبّ عن بعد، يصبّ فيه جامّ غضبه وحنقه على سوط من سياط هذا العصرالمتمثل فى الهويّات القاتلة.
يشير معلوف في ’بدايات’ أنّ الحياة تنبثق أو تنبع من تتابع وتعاقب اللقاءات،وقد فكّر في ذلك عندما كان في كوبا باحثا مقتفيا آثار جدّه الذي كان قد ذهب الى هناك هو الآخر بحثا عن أخيه، إنّ جدّه كان عازبا في ذلك الإبّان. فمن يكون يا ترى هو اليوم لو فرضنا أنّه مكث هناك.. ؟.’ ويقول عن فيديل كاسترو: ’على الرّغم من أنّه رجل مستبد ّوهو كان يعرف هذا عنه قبل ذهابه الى كوبا وخلال وجوده بها، إلاّ أنّ الذي لم يكن يعرفه عنه قبل أن يزور هذه الجزيرة هو أنّ كاسترو ليس من عادته إطلاق اسمه على الشوارع الكبرى فى بلاده، أو أن يرفع مجسّمات أو تماثيل له فى الساحات العمومية. ففي كوبا عندما يذهب الأخوان كاسترو وراؤول فلن تكون هناك تماثيل لهما لتدميرها. يقول معلوف إننا أصبحنا نعيش اليوم حضارة الفضائيات، لقد غدونا نتعب بسهولة، ونملّ من كلّ شيء، وهو أمر غير مستحبّ ّ، وتصرّف عار من الحكمة. وأنّ قصّته الشخصية هي قصّة بيوت ومنازل مهجورة، وترحال دائم، وهو مازال يحتفظ بذكريات عن طفولته في منزل عائلته بتركيا حيث كان يعيش والده،ثمّ عن منزل والدته في مصر،حيث كانت تعيش مع عائلتها،ثمّ هجر منزله في لبنان.وعندما بدأ البحث عن عائلته هاجرإلى كوبا التي أمست هي الأخرى أحد منازله الجديدة المهجورة كذلك.وكان معلوف كلما استقرّ في منزل مّا لمدّة معيّنة إلاّ وانطلق صوت أو هاتف من داخله يقول له لا تستقرّلمدّة طويلة بمكان، فقد تكون مضطرّا للرّحيل من جديد. ويصف منزل جبريل أخ جدّه في كوبا فيقول: ’قد خلّف هذا المنزل في نفسه إنطباعا غريبا، فقد ظل ّمهجورا زهاء سبعين سنة، وكان مؤثّثا على النمط الأندلسي، فأسقف المنزل كانت تقليدا دقيقا لأسقف قصرالحمراء بغرناطة، وكان الزلّيج الذي يكسو الجدران يصوّرفصولا من رائعة سرفانتيس دون كيشوت، وهذا الديكور العربي الذي عنيت به عائلته يعكس مدى تعلّقها بالحضارتين الشرقية والغربية على حدّ سواء’. ويقول: إنّ بعض الكتّاب يتعرّضون في البداية الي حياواتهم الخاصّة في كتاباتهم، ثم ينأون عن ذلك فيما بعد. إلاّ أنه فيما يتعلق به فالعكس هو الصحيح ويعترف بأنّ هناك مظاهر في حياته تطفو على سطح كتاباته، كما هوالشأن في كتابه ليون الإفريقي. أو في كتبه الأخرى، وكان دائما يتردّد في الحديث عن عائلته بشكل مباشر، إلاّ أنه أصبح اليوم يدنو من ذلك سواء فيما يتعلق بعائلته أو به شخصّيا، ومن هنا طفق في الحديث عن أشياء حميمية أكثر فأكثر، إلاّ انّه وعائلته إلى الحياء والخفر والحشمة أميل،ولهذا يعتريه التوتّر كلما تطرّق للحديث عن عائلته، أو عن والده، أو جدّه، وهو يشعر أنّه يرغم نفسه على القيام بذلك.

أزمة استلاب أم أزمة انتماء

وعن مسألة الهويّة وألاقليّاّت يقول معلوف إنّه وعائلته قد عانوا من هذه الإشكالية، وهم ينحدرون من أقليّات، ولم يشعروا قطّ أنّ فرنسا هي بلدهم، وأنّ هذا الشعوركان حاضرا معه بإستمرار، كما انّه كان يعتري أفراد عائلته في المهجر. ويشير معلوف انّ لديه إحساسا بأنّه خارج دائرة المجتمع الذي يعيش في كنفه، كان يشعر بذلك وهو في لبنان، ثمّ عاوده هذا الشعورعندما رحل الى فرنسا. ويشير أنّه حاول القول أنّه جزء من هذا البلد الجديد الذي هاجر إليه، بل إنه يريد أن يكون طرفا من هاتين الثقافتين، من الأمتين معا، إلاّ أنّ ذلك لا يحدث في الواقع إذ بالطريقة التي ينظر بها إليك الناس يتأكّد لك أنّهم يعرفون أصولك وجذورك، ويؤثّرّ ذلك على الطريقة التي يتحدّثون بها إليك،كما يؤثّرّ على مكانتك في المجتمع، وعلى ما يمكنك قوله، وما لا يمكنك البّوح به، وعلى ما يمكنك فعله، وما لا يمكنك القيام به، وهو يشعر أنه الآن قد أصبح من الصعوبة بمكان من ذي قبل الإندماج أو الإنتماء أو الانصهار أو الالتحام بشكل كليّ في المجتمع، ذلك أنّ إشكالية الهويّات قد أصبحت تزداد سوءا وتعقيدا كل يوم في مختلف أنحاء المعمورة، وهذه الظاهرة قد أمست تدفعك إمّا إلى الإفصاح صراحة عن هويّتك الحقيقية أو أن تصمت.

الهويّات القاتلة

وعن إشكالية التسامح الواردة في كتابه’الهويّات القاتلة’ يقول إنّ هذا الكتاب عندما قدّمه الروائي البرتغالي الرّاحل خوسيه ساراماغو في مدريد كان كلّ منهما قد أعدّ ّملاحظات لهذه الغاية، وكانت أولى النقاط التي سيتعرّض لها معلوف خلال هذا التقديم تشير إلى أنّ عدم التسامح هو ليس نقيض التسامح بل هو الاحترام، والغريب أنّ ساراماغو كان قد أعدّ هوالآخر نفس الملاحظة، فالتسامح ـ في نظره- لا يكفي ولا يفي إذ هو موقف أو تصرّف يمارسه الغالب على المغلوب، والذي ينبغي لنا قوله هو ليس أنا أتسامح معك،بل أنا أحترمك،أن تحترم الآخر،هو أن تعرف الآخر،وأن تقيم نوعا مغايرا من الصلة أو العلاقة معه ومع ثقافته، فمصطلح التسامح هذا كان مقبولا ومستساغا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أمّا الآن فانّه لم يعد يكفي، نحن مدعوّون لان نعي ونعرف بأنّنا نتقاسم نفس الكوكب الأرضي، وأننا أناس نختلف في اللغات، والدّين، واللون، والوضع الاجتماعي، وفي الجنسيات .الإشكالية الأساسية للقرن الواحد والعشرين هي كيف يمكننا أن نعيش جميعا في انسجام ووئام فيما بيننا، وقليل من البلدان تواجه أو تعالج هذه المسألة بالجديّة المطلوبة. وعمّا يجري في العالم من انعدام الاحترام في أريزونا نحو المكسيكيين، وفي باريس نحو الرّومانيين، وفي اسبانيا وايطاليا مع الأفارقة،أشار معلوف أنّه سيكون من السذاجة بمكان التفكير أنّ طبع الكائن البشري هو قبول الآخر، بل إنّ موقفه التلقائي على امتداد التاريخ كان عكس ذلك، أي إبعاد وإقصاء الآخر، وهذا أمر ينبغي دراسته وتمحيصه، فقبول الآخرهو ليس بالأمر الهيّن اليسير، بل هو أمر صعب للغاية،ينبغي علينا مواجهته بجديّة وباحترام مشاعر الآخرين.

العالم العربي والغرب

ويشير معلوف أننا عندما نتحدّث عن العالم العربي، فإنّ كثيرا من الأشخاص في الغرب يبدو وكأنهم مقتنعون أنّ هذا العالم كان دائما موسوما بالتأخّر والتقهقر، ويتّسم بالتطرّف والعنف،إلاّ أنه ينبغي أن لا ننسى أنّ هذا العالم قد عرف قرونا وعهودا من النقاش، والحوار، والبحوث العلمية،والتطوّر، والنماء، والفلسفة، والترجمة، وهذا يعني أنّه ليس من الضروري أنّ ما نراه اليوم هو من نتاج تلك الثقافة، والأهمّ من ذلك أن نعرف أنّ ما نراه فيها اليوم، من الحيف والشطط نسبته إليها، أو أن نقول إنه من صميم طينتها أو عنصرها. بل إنّ ما نراه اليوم هو نتيجة ظروف تاريخية معيّنة، فكلّ مجتمع ينتج أشياء مختلفة في فترات متباينة من تاريخه، وإذا كان هناك مجتمع مفتوح فيما مضى يقبل بتعدّد الآراء، فليس أمرا مستحيلا أن تنطبق عليه هذه الخاصّية اليوم. ويشير: أخشى أنّنا نسير نحو منحدر سحيق ليس في مجال التطوّر التكنولوجي أو العلمي بل في التراجع الأخلاقي في مختلف أصقاع العالم، وأننا نسير نحوعالم يطبعه النزاعات والمشاكسات،عالم مشحون بالمرارة والتظلّم، والحروب،والمعاناة كل ذلك قد يقودنا إلى مزيد من الفقر والفاقة.
ويشير: أنّ هناك أشياء ليست على ما يرام، فهناك عالم معولم بشكل مبالغ فيه، إلاّ أننا لم نبلغ بعد العقليات التي تمنع بأن تشعر مناطق من العالم أنّها ما زالت مبعدة ومهمّشة، ينبغي أن نكون في مستوى التطوّر المادي الذي أدركناه. ويضرب معلوف مثلا للتكتّل فيقول: إنّ أوربا لا تستطيع أن تنهج هذا النمط السياسي، حيث يسلك كل بلد فيها سياسة مختلفة عن الآخر، ومع ذلك فهي تتوق إلى قارّة موحّدة، ينبغي أن يكون هناك شيء مثل الولايات المتحدة الأوروبية، وهذا ليس حلما، فالعقليات لا تتواكب وتتماشي والتطوّرات التي يشهدها العالم في مختلف الميادين الإقتصادية، والعلمية، والمادية، والتكنولوجية،إنّهم يدفعوننا إلى الإندماج، إلاّ أنّ عقلياتنا ما فتئت تعرقل مسيرتنا في هذا الاتجاه.
وعن إسبانيا يقول: ينبغي للناس أن يضيفوا إلى هويّاتهم الخاصّة كلّ تلك العناصر التي تشكّل الهويّة الإسبانية المتوارثة. فلإسبانيا ماض روماني، وماض فينيقي، والماضي الذي تألق فيه الحضور العربي،وهو كذلك بلد الإسترداد، بلد الحواريّ سانتياغو دي كومبوستيلا، بلد اكتشاف أمريكا، إسبانيا هي كلّ هذه الأشياء، وثراؤها يكمن في تحمّل مسؤوليتها واحترامها وحبّها لكلّ حقب وفترات تاريخها.

عن موقع جريدة القدس العربي

 المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)