أمراء البيان، محمد كرد علي (سورية)، تاريخ وبيوغرافيا ومذكرات 1876 - 1953

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الإثنين، ١١ يوليو/ تموز ٢٠١٦
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«أمراء البيان» لمحمد كرد علي: تاريخ حضارة من خلال ناثريها


«أمراء البيان» كتاب يبدو منسياً بعض الشيء اليوم، مع أنه مميّز وربما أيضاً فريد في موضوعه، وأكثر من هذا، في لغته وأسلوب معالجته لهذا الموضوع. فالموضوع هو كتّاب النثر في الثقافة العربية، من الذين قلّ عادة الاهتمام بهم لحساب الشعراء الذين ضجّت بهم كتب التاريخ الأدبي، فجاء كتاب محمد كرد علي هذا ليعيد اليهم اعتبارهم، ليس فقط باستعادة حكايات حياتهم ومجالات إبداعهم، بل كذلك بخاصة، من خلال ربط أساليبهم بمسار التاريخ العربي نفسه. أما «أمراء البيان» هؤلاء الذين يركّز عليهم كرد علي في كتابه فهم: عبدالحميد الكاتب، ابن المقفّع، سهل بن هارون، عمرو بن مسعدة، إبراهيم الصولي، أحمد بن يوسف الكاتب، محمد بن عبد الملك الزيات، الجاحظ، التوحيدي وابن العميد. ولئن كان من الصعب إيجاد رابط منطقي يربط حقاً بين هؤلاء ويبرر الكتابة عنهم معاً وفي سياق واحد، فإن المؤلف عثر على الرابط في تشاركهم في إبداع لغة نثرية متطورة لديهم ما يجعلهم مستحقين لقب «العشرة المبشّرة بالبلاغة في عصر العرب الزاهر»، كما يقول في مقدمته. والحقيقة أنه إذا كانت لهذا الكتاب قيمته التاريخية والجمالية، فإن قراءته اليوم، قد تكون مفيدة للمقارنة بما كانت عليه حال لغة الضاد في تلك العصور الغابرة وما آلت إليه حال هذه اللغة في زمن الصحافة الإلكترونية ومحطات التلفزة!

في تقديمه لكتاب «أمراء البيان»، يكتب الدكتور سامي الدهان، عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، أنه من «الكتب الخالدة، نقرؤه اليوم كما كان الأدباء يقرؤونه (أواسط سنوات الثلاثين حيـــن صدرت طبعته الأولى)، فقد استكمل له صاحبه عدة التأليف، وحشد له ما يحشد الغربيون لأعلامهم الأدباء، من جهد ودقة واستيعاب. فاستعرض قبل تأليفه كتب الرجال في التراجم، وقرأ كتـــب التاريخ، ونظر في كتب البلدان، ودقق في كتب الأدب والعلوم المختلفة، ورجع الى الكتــب الفرنسية والموسوعات الكبرى (...)» فكانت النتيجة عشر سير وتحليلات لـ «أسماء خيّرة» نفـــــعت الكتابة العربية و «نفحتها بأجمل ما تنفح العقول العبقــــرية». أما محـــمد كرد علي نفسه، فإنه حدّد في تمهيد لنصوص الكتاب، أن قصـــده كان منذ البداية، تصوير عشر صور حية في الجملة لعشرة من أساطين النثر العـــربي «تصدّينا لوصف دورهم في السياسة والمدنية، وحاولنا الإلماع الى العوامل المهمة في تنشئتهم وحياتهم، وتوخينا تحليل أدبهم وعلمهم وعرضنا لمواضيع الإجادة فيما خلّفوه من كلامهم» في زمن «أضحى اللسان العربي فيه لغة الحضارة والعلم بعدما كان في القرن الأول لغة دين وأدب». والحقيقة أن هذا النوع من التحليل جعل الكتاب يتجاوز، ومن بعيد، سمته الأساسية الظاهرة كسير متعددة لأشخاص متعددين، فيصبح أقرب إلى أن يكون نوعاً من التأريخ لأزمان عربية اندثرت يكشف الحديث عنها - وربما بأكثر مما يفعل الشعر -، ككتابات نثرية، مسيرة المجتمعات التي وُلدت فيها، وحركية الأحداث الفكرية والاجتماعية والسياسية التي تطورت من خلالها. وبحسبنا هنا مثلاً أن نقرأ بعض «مقابسات» التوحيدي، أو بعض «رسائل الجاحظ»، التي يفرد لها كرد علي بعض أجمل صفحات كتابه، حتى ندرك أن النثر العربي لم يكن تعبيراً عن الذات أو اللحظة، بقدر ما كان صورة صادقة لحياة مجتمع بأسره. وهذا هو المغزى الأساس في كتاب «أمراء البيان» على أيّ حال.

أما بالنسبة الى محمد كرد علي، فإن هذا الكتاب لم يكن سوى قبس ضئيل من جهاده الفكري والسياسي، هو الذي كاد ذات يوم أن يكون في قافلة الشهداء الذين أعدمهم جمال باشا السفاح لولا تلك الصدفة التي جعلت السلطات التركية «تكتشف» تقارير فرنسية تشير بكل وضوح الى ان محمد كرد علي حين عرض عليه الفرنسيون العمل معهم رفض. فكان لذاك الاكتشاف وقع طيب على جمال باشا الذي استدعى محمد كرد علي وأمره بأن يعيد إصدار جريدته «المقتبس» كما ولاه تحرير جريدة «الشرق».

ومع هذا نعرف أن كرد علي عارض الأتراك على الدوام، وعلى الدوام عاش متنقلاً هارباً مناضلاً، يربط ما بين العمل الفكري والعمل السياسي، ويعمل جاهداً من اجل نيل العرب استقلالهم، حتى وان كانت نهاية الحرب العالمية الثانية، قد شهدت عملياً نهاية حياته السياسية وبداية انصرافه شبه الكلي الى العمل الفكري، لا سيما بعد تأسيس «المجمع العلمي العربي» في دمشق، وأنتج خلال ذلك كتابه الموسوعي «خطط الشام» وكتاباته عن الأندلس ودمشق، وعن «أمراء البيان».

صحيح أن محمد كرد علي قد شغف بالعرب وتاريخهم وحضارتهم وكان من دعاة العروبة والإسلام، ومع هذا فإنه كان كردي الأصل، أصله من الموصل في شمال العراق، لكنه ولد في دمشق العام 1876، التي سيتوفى فيها بعد ذلك بسبع وسبعين سنة، اي في العام 1953، بعد عمر حافل بالفكر والجهاد. ومنذ صباه أقبل محمد كرد علي على تعلم اللغات، فأتقن الى جانب العربية، الفرنسية والتركية وشيئاً من الفارسية ومال باكراً الى الأدب والصحافة، حتى وإن كانت الظروف العربية العامة قد قادته في تلك الآونة الى الانخراط في العمل السياسي مثله في هذا مثل أبناء النخبة العربية كافة.

وهو كان في الثامنة عشرة من عمره حين تولى تحرير جريدة «الشام». غير أن شهرته على الصعيد العربي لم تقم إلا حين بدأ يراسل مجلة «المقتطف» القاهرية ويكتب فيها مقالات لفتت اليه الأنظار. ومن هنا حين سافر الى مصر في 1901 أدرك انه معروف هناك من جانب نخبتها الثقافية، فأطربه ذلك وقرر أن يقيم في القاهرة لفترة، حيث تولى تحرير جريدة «الرائد المصري». لكنه عاد الى دمشق، وهناك كان الأتراك قد بدأوا يكتشفون عمله في سبيل الاستقلال، فبدأوا يطاردونه مما أعاده الى مصر مرة اخرى حيث اشتغل في تحرير صحيفتي «الظاهر» و «المؤيد» بعد أن كان قد تمرس في الصحافة تمرساً كبيراً في دمشق بعد ان أسس مجلة «المقتبس». وفي 1908، بعد الانقلاب الدستوري، نجده يعود من جديد الى دمشق وقد امتلأ بآمال التحرر، لكن أمله في «الاتحاديين» سرعان ما خاب وبدأ ينتقدهم حتى راحوا يضيقون عليه الخناق، فهرب مرة اخرى الى مصر ومنها الى اوروبا التي عاد منها الى دمشق، ولكن ليضطهد من جديد. مهما يكن، فإن تقارير القنصلية الفرنسية أدت، كما أشرنا، الى تبرئته فدخل في علاقة مع جمال باشا، لم تنته الا بانتهاء الحرب العالمية الاولى، حيث انضم الى الحكومة العربية. وحين انفرط عقد تلك الحكومة، وحل الانتداب الفرنسي محلها، شارك محمد كرد علي كوزير للمعارف في وزارتين تحت الاحتلال الفرنسي. غير انه كان من الواضح انه لا يأخذ ذلك العمل على محمل الجدية، إذ إنه كان قد آلى على نفسه ان ينصرف الى العمل الفكري. وهكذا راح يبتعد عن السياسة بالتدريج، ويهتم أكثر وأكثر بأعمال المجمع العلمي العربي، ويضع العديد من الدراسات والكتب في مجالات الأدب والتاريخ، وذلك قبل ان ينصرف في سنوات حياته الاخيرة الى تجميع وضبط مذكراته التي كان يدون فصولها في شكل يومي. وهذه المذكرات التي صدرت في ثلاثة أجزاء قبل رحيل صاحبها، تعتبر بحق، نوعاً من التأريخ لمرحلة بأسرها من تاريخ المنطقة العربية خلال نهاية القرن الفائت والنصف الأول من قرننا هذا. ويقول يوسف اسعد داغر عن محمد كرد علي أنه كان «كاتباً مجدداً وباحثاً واسع الاطلاع، تولى قيادة الفكر في الجيل الحديث في سورية. وهو مؤرخ عمل طويلاً في خدمة التاريخ العربي والإسلامي عامة، وتاريخ سورية بخاصة وما يتصل بأحداثها الجسام. أخذ بعضهم على أسلوبه التاريخي قلة التقيد بالدقة العلمية والافتقار الى الإسناد العلمي وعدم الرجوع الى الأصول الأولية، كما أخذ عليه بعضهم تطرفه وعصبيته»، هذا بينما يقول عنه خير الدين الزركلي انه «كان ينحو في كثير مما يكتبه منحى ابن خلدون في مقدمته»، ويكتب عنه الدكتور سامي الدهان قائلاً: «ولقد أكبره المعاصرون من كبار الأدباء، فرأوا أن كتبه في صميم الأدب وأن أسلوبه حي واقعي..».

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)