أماكن روايات نجيب محفوظ اختفت اليوم في ذكرى رحيله الثانية عشرة في 30 آب 2006

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
الثلاثاء 2018/08/28 - السنة 41 العدد 11091
الصفحة : ثقافة
مصطفى عبيد - القاهرة


صدقت نبوءة نجيب محفوظ ونجح الزمن في تغيير مدينته


في ذكرى رحيل نجيب محفوظ، بقيت سيرته واختفت أماكن رواياته.


خان الخليلي مازال يتذكر محفوظ

تقف القاهرة بأشهر حوانيتها وشوارعها شاهدة على أزمنة وأحقاب غيرت وجه التاريخ. تبقى حكايات الأديب نجيب محفوظ في رواياته عن جمال البلاد والعباد في العاصمة القديمة أجمل الأوصاف وأدقها. بعد مرور نحو نصف قرن على تلك الحكايات تغير الحال، ولم يعد من أماكن محفوظ التي خلدها في رواياته الكثيرة.

تغيرت الأماكن والملامح والسمات الإنسانية الحاكمة لتتأكد فلسفة نجيب محفوظ، الذي تحل في 30 أغسطس الحالي ذكرى رحيله الثانية عشرة، من أن “الزمان والمكان لا ثبات لهما”.

كتب الروائي المصري الحائز على جائزة نوبل في الآداب في إحدى رواياته “إن الزمان يتقدم غير ملتفت إلى الوراء، وينزل، كلما تقدم قضاءه، بالخلائق، ويُنفّذ فيها مشيئته التي تهوى التغيير والتبديل، لأنه ملهاته الوحيدة التي يستعين بها على ملل الخلود، فمنها ما يبلى، ومنها ما يتجدد، ومنها ما يموت ومنها ما يحيا، ومنها ما يبتسم شبابه، ومنها ما يرد إلى أرذل العمر، ومنها ما يهتف للجمال والعرفان، ومنها ما يتأوه لدبيب اليأس والفناء”.

صدقت كلمات محفوظ، وانعكست جمله على أبرز الأماكن التي تناولتها رواياته، واشتهرت بسبب تواجده الدائم فيها. لم تعد بين القصرين، ومنطقة خان الخليلي والحسين، كما وصفتها رواياته. داست عجلات الزمن على أماكن محفوظ، وبدلتها وغيرتها مثلما غيرت سلوك الناس وعاداتهم وتقاليدهم وتوجهاتهم الحياتية وعصفت بكثير من أفكارهم.

تجولت “العرب” في أهم أماكن أديب نوبل باحثة عن آثار صور رسمها، وبقايا وقائع شهدها، وسمات أناس عايشهم، حاولت قراءة ما تغير ومتابعة ما تبدل لتكتشف أن ثمة رتوشا بسيطة هي الباقية لتؤكد أن التغيير فعل كوني دائم.

الأماكن الأكثر شيوعا لدى جمهور ومحبي نجيب محفوظ، هي تلك التي شهدت أحداث رواياته الأولى “خان الخليلي”، و”زقاق المدق”، فضلا عن ثلاثيته الشهيرة “بين القصرين” و”قصر الشوق” و”السكرية”، وهي جميعا أسماء شوارع وأزقة تقع في حي الجمالية بوسط القاهرة، حيث كان يعيش محفوظ.

في حديث شهير له ذكره الكاتب جمال الغيطاني، في كتابه “نجيب محفوظ يتذكر” قال: “إن حي الجمالية ظل يأسره مدة طويلة، وحتى بعد أن غادره، لم يتمكن من فك قيود أسره. في تصوره هناك خيوط سحر غير مرئية كانت تربطه بالحي العتيق”.

على بعد عشرات الأمتار من ضريح الإمام الحسين، عاش الأديب المولود في ديسمبر عام 1911 حياة تقليدية وسط طبقات شعبية متنوعة، وكان شاهدا على تطور المجتمع المصري خلال النصف الأول من القرن العشرين ومستقرئا حكايات الحواري والأزقة ليرسم شخصية البشر في واحدة من أقدم عواصم العالم العربي.

بين المقاهي


شارع قصر الشوق تحول إلى زقاق


تبدأ الجولة من مقهى الفيشاوي، المكان الأشهر الذي اختلى فيه محفوظ للكتابة والقراءة، وقضى أيامه للكتابة ومجالسة الناس والتحاور معهم والاستماع لحكاياتهم. في أول شارع خان الخليلي من ناحية جامع الحسين، يدلف السائحون إلى المقهى، الذي يقع على اليسار في ممر ضيق ينفتح من خلاله على آخر مواز له.

يبدو المقهى الكبير مميزا بآرائك خشبية تتزين مساندها بالمشربيات، ومرايا كبيرة بتيجان خشبية مبهرة، بينما زُينت الجدران بصور فوتوغرافية ولوحات فنية تُظهر أزمنة فاتت من بينها صور لنجيب محفوظ وهو جالس على المقهى.

يحكي عبدالرحمن أحمد، أحد العاملين في المقهى ممن عاصروا جلسات محفوظ في الستينات من القرن الماضي، كيف كان الأديب الراحل يجلس في أحد الأركان على يمين الداخل، من العاشرة صباحا وحتى الثانية ظهرا، يكتب ويقرأ في هدوء.

قال أحمد لـ”العرب”: “كان الأستاذ نجيب يشرب قهوة دون سكر في فنجان، ثُم يطلب بعده كوبا من الكركدية الساخن، ويُدخن بين ذلك سجائر عِدة، وكان قليل الكلام معنا”.

وأكد أن الأديب الكبير استمع لكثير من حكايات رواياته على هذا المقهى، وبعض الناس في المنطقة تعرف جيدا شخصيات شديدة الشبه بعائلة أحمد عبدالجواد في الثلاثية.

لا تعود شهرة المقهى فقط لأهمية جالسه، لكنها تعود إلى أكثر من مئتي عام، بعد أن أنشأه أحد أعيان بلدة “فيشة” بمحافظة المنوفية شمال القاهرة، ويدعى علي فهمي الفيشاوي، وتوارث المقهى أبناء العائلة الذين رفضوا عروضا عديدة لبيعه.

وأشار أحمد إلى أن محفوظ انقطع عن المقهى سنوات طويلة، قبل أن يعود في زيارات متقطعة في سنواته الأخيرة، بعد فوزه بجائزة نوبل، وكان بصحبته دائما الكاتب الراحل جمال الغيطاني.

على بعد خطوات من مقهى الفيشاوي، ثُمة مقهى حاول استثمار جلسات محفوظ في الفيشاوي، وهو مقهى لؤلؤة الحسين، فوضع صورا كبيرة وعديدة للأديب على الواجهة في محاولة لإيهام المارة والسياح بأن المقهى كان محلا لارتياد الأديب.


السكرية المهجورة اليوم


أوضح أحد العاملين في المقهى الجديد، وهو شاب في العشرينات من عمره، رفض ذكر اسمه، علم أنّ نجيب محفوظ أديب عالمي، له الكثير من المعجبين من كافة دول العالم، غير أنه لم يقرأ له شيئا.

أضاف العامل أن محفوظ كان يجلس بين “المقهيين”، ويفاضل بينهما أحيانا، فكلاهما يشبه الآخر إلى حد كبير، وكان يميل إلى المقاهي الهادئة التي تجيد صناعة القهوة، وهو ما وجده في مقهى اللؤلؤة.

يؤكد الخروج من ممر الفيشاوي إلى خان الخليلي، أن تغيرات عديدة مرت على الشارع الذي حاول الأديب الكبير رسمه في رواية له حملت الاسم ذاته، وصدرت سنة 1946.

حي خان الخليلي الذي يعود إلى سنوات الحكم المملوكي لمصر، وأنشأه أمير يدعي جركس الخليلي فوق مقابر الفاطميين، يتكون من شارع واحد طويل، ويتسم بضيق حاناته وأفرعه بسبب معروضات المحلات السياحية على الجانبين، والتي تتنوع بين ورق البردي والتماثيل الصغيرة والتحف الفرعونية وبعض المنتجات التراثية، مثل المفروشات المزينة برسوم فرعونية والعقود المصنوعة من الخرز، وبذات الرقص الشرقي، إلى جانب نوعيات غريبة من العطور والبخور والشموع والأراجيل.

لا يوجد أثر لضجيج الحرفيين، الذي ذكره محفوظ في الرواية من الخان سوى شارع تجاري وسياحي جذاب، بلا صناعة ولا حرفة. اختفى وصف روايات محفوظ عن دكاكين الخطاط والساعاتي وصانع السجاد التي تحدث عنها محفوظ في الأربعينات من القرن الماضي، والباقي هو المشربيات المميزة لنوافذ بنايات الشارع وتمثل سمة غالبة على معظم بنايات حي الجمالية القديمة.

مازالت المقاهي الصغيرة جدا باقية، غير أن أثاثها وديكورها ونظم تعاملها مع الرواد تغيرت تماما، مثلما تضاعفت أسعارها آلاف المرات.

في حضرة الثلاثية


مقهى الكاتب الأثير


يفضي السير في خان الخليلي، عكس اتجاه مسجد الحسين، إلى الشارع الأطول والأجمل، شارع المعز، العامر بمحلات الصاغة، كما كانت تشير ثلاثية الأديب العالمي، والتي صدرت أولى أجزائها سنة 1956 بعنوان “بين القصرين”، ثُم صدر الجزء الثاني سنة 1957 بعنوان “قصر الشوق”، ثم الثالث في العام نفسه بعنوان “السكرية”.

تحكي الثلاثية قصة عائلة مصرية تقودها شخصية حازمة وقوية هو التاجر الثري السيد أحمد عبدالجواد، في ظل ثورة عام 1919 وما أعقبها من خلال ثلاثة أجيال تعايشت مع تحولات المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين.

تظهر في نهاية الشارع قبة نجم الدين أيوب، على اليسار، وفي الناحية المقابلة مسجد السلطان برقوق والذي كان أحد المعالم التي تطل عليها أمينة زوجة أحمد عبدالجواد في رواية “بين القصرين”.

كان التغير الأهم أن الشارع في زمن الرواية كان عامرا بالسكان لكنه تحول إلى شارع تجاري ومزار سياحي حيث هجر معظم السكان الشارع للاستفادة من عروض البيع مرتفعة الأسعار للأغراض التجارية.

لم يبق من الثلاثية سوى لافتة مطموسة، مازالت تحمل اسم سوق بين القصرين، كما حكى عنه محفوظ، غير أنها تُفضي إلى ممر شبه مهجور، عكس ما حكى الأديب عن سوق لا يخلو من خطوات المارة وأصوات الباعة في الحوانيت ودكاكين العطارة في الزمن الملكي.

لا يعرف الكثير من قاطني الشارع، خاصة من الشباب أن الاسم الحقيقي له ليس شارع المعز وإنما بين القصرين، ويخلط البعض بين موضع بين القصرين الحقيقي وبين شارع المشهد الحسيني الذي يسمونه أيضا بين القصرين.

يحكي نبيل سليم، تاجر تحف، ولد في هذا الشارع عام 1955، أن بين القصرين يرجع لوجود قصرين كبيرين أنشأهما القائد الفاطمي جوهر الصقلي عندما أقام مدينة القاهرة، لنساء الأسرة الحاكمة، وكان أحدهما يسمي القصر الشرقي الكبير، والآخر يسمى القصر الغربي الكبير، ومن هنا جاء اسم الشارع.

يكشف أحمد البنا، موظف على المعاش، لـ”العرب” أن رياح التغيير لم تقتصر على أسماء وتضاريس الشوارع والأزقة، إنما امتدت إلى عادات الناس وسلوكهم، وأن زمان نجيب محفوظ لن يتكرر.

يشير البنا إلى أن عادات احترام الكبير والخوف من رب الأسرة، مثلما كان أفراد عائلة أحمد عبدالجواد، يهابونه اندثرت إلى غير رجعة، وأن شخصية والده كانت قريبة الشبه ببطل الثلاثية الأول (عبدالجواد) الذي عرف بالحزم والشدة في تربية أبنائه.

يحفل الانحراف يميناً عبر شارع طويل بكثير من الآثار الإسلامية المتنوعة، ويُفضي بعد دقائق قليلة إلى قصر الشوق، حيث عاش الجيل الثاني من عائلة أحمد عبدالجواد.

تغير الشارع تغيرا تاما وصار شبه مهجور قاصرا على أبنية متهالكة بنيت معظمها خلال الستينات من القرن الماضي. ولا توجد أشجار جميز وتوت وفل، كما حكت الرواية يوما، ولم يعد هناك من وصف الرواية سوى اسم الشارع الذي يتصدر لافتة زرقاء أول الطريق وأخرى باللون نفسه في منتصفه.

ما تبقى من قصر الشوق، لا يتعدى بناية مهجورة، يقول سكان الشارع ترجع إلى العشرينات من القرن الماضي، ويعتقد السكان أن تلك البناية هي قصر الأميرة شوق، والتي سمي الشارع على اسمها، وهو ما لم تتحقق “العرب” من صحته.


قصر الشوق بلا أشجار والسكرية متهدمة ومتاجر خان الخليلي بلا حرفيين والجميع يبحث عن أحمد عبدالجواد


يستغرق الانطلاق إلى الجزء الثالث من الثلاثية وقتا أطول، وتقع السكرية في الامتداد الشمالي لشارع المعز، ما يستدعي عبور شارع الأزهر والمرور بشوارع الغورية والخيامية، كي يقطع الطريق سبيل محمد علي باشا على اليسار، ثُم مسجد المؤيد شيخ على اليمين، وباب زويلة في النهاية.

قبل أمتار قليلة من البوابة تشدو السكرية على اليسار، حيث يحمل مدخلها الحجري المعقود لافتة مكتوب عليها “عطفة الحمام” ويظهر بعدها زقاق ضيق يضم مباني بعضها أثري، والبعض الآخر حديث لكنه متهالك.

على اليمين تظهر لافتة تشير إلى أن المبنى الأول في الشارع، هو سبيل نفيسة البيضاء، وهي سيدة ثرية عاشت في عصر المماليك وتزوجت مراد بك حاكم مصر، وشهدت غزو بونابرت للقاهرة وزمنا من عهد الوالي محمد علي باشا.

ما يثير الانتباه أن الكثير من صور نجيب محفوظ في الأماكن التي حكى عنها تلاشت تماما فلم تعد هُناك سيدات بملاءات سوداء يغطين وجوههن ببراقع بيضاء، ولم تعد هناك طرابيش حمراء تغطي رؤوس المارة من الرجال. اختفي مشهد السقاء الذي يدور في الشوارع والأزقة حاملا قراب الماء النقي.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF

عن جريدة العرب اللندنية

العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر



جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الثلاثون العدد 9291 الجمعة 31 آب (أغسطس) 2018 - 20 ذو الحجة 1439 هـ
القاهرة - محمد عبد الرحيم


في الذكرى الـ 12 لرحيله: نجيب محفوظ محل احتفاء وإثارة للجدل



رغم مرور إثنا عشر عاما على رحيل نجيب محفوظ (11 ديسمبر/كانون الأول 1911 ــ 30 أغسطس/آب 2006)، إلا أن الدراسات والمتابعات النقدية، وإعادة قراءة أعمال محفوظ لم تتوقف، خاصة من قِبل الأجيال الجديدة، وكذلك المناهج النقدية والبحثية الجديدة، التي تجد في أعماله مجالا خصبا للتطبيق.

هذه الأعمال المتنوعة والمتمثلة في أعمال روائية وقصص قصيرة، أو نصوص وسيناريوهات ارتقت كثيرا بالسينما المصرية، وأخرجتها من نمطية المصادفات وتقليد الحكايات الأجنبية المُمَصرة، التي تبتعد كثيرا عن الحياة المصرية. ورغم الكثير الذي قيل وكُتب عنه، والأكثر الذي سيُكتب مستقبلا، تزامن مصادفة صدور مؤلف جديد يتناول الرواية الأزمة «أولاد حارتنا»، لمؤلفه الصحافي محمد شُعير، والمعنون بـ«أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرّمة» ــ دار العين للنشر 2018 ــ هذه الرواية التي كانت السبب المباشر في محاولة اغتيال نجيب محفوظ عام 1995، والتي أيضا لم يسلم من إشاعات أنها أهم أسباب حصوله على جائزة نوبل عام 1988. بخلاف كونها العمل الأول بعد توقفه عن الكتابه لسنوات، وأنها في الأخير جاءت في أسلوب جديد، لم يختبره محفوظ إلا من خلالها، وقد تخلى عن الحِس والنظرة الواقعية التي انتهجها في الثلاثية، ليُيَمم بصيرته إلى وجهة مختلفة تماما. وسنحاول الإلمام سريعا ببعض موضوعات الكتاب، الذي يسرد أزمة الرواية وأزمة مناخ اجتماعي وسياسي أعم وأكبر من مجرد رواية نشرت مُسلسلة في صحيفة يومية.

في ذلك اليوم

الإثنين 21 سبتمبر/أيلول 1959: درجة الحرارة في القاهرة أقرب إلى البرودة، الشيوعيون في سجون عبد الناصر، وحملات إعلامية مخططة لتشويههم. لص مجهول يسطو على «كرمة ابن هانئ» بيت الشاعر أحمد شوقي على نيل الجيزة، عناوين الجرائد الرئيسية تتحدث عن مظاهرات حاشدة في العراق ضد عبد الكريم قاسم، بعد تنفيذ أحكام الإعدام في عدد من قادة «ثورة الشواف»، وكانت جريدة «أخبار اليوم» قد قادت الهجوم الأعنف، وأطلقت على «قاسم» قبل أيام لقب «نيرون بغداد». على المستوى الدولي اهتمت الجرائد بأول زيارة لزعيم سوفييتي إلى الولايات المتحدة، حيث ألقى نيكيتا خروتشوف خطابا في الأمم المتحدة، طالب فيه «بإلغاء الجيوش من كل دول العالم وإلغاء وزارات الدفاع والكليات العسكرية، والاكتفاء فقط بمجموعات صغيرة لحفظ الأمن الداخلي». العناوين تركز على تصفية الإقطاع وتوزيع قطع من الأراضي الزراعية على الفلاحين. في جريدة «الأخبار» يحاور ناصر الدين النشاشيبي، ستن فريبرج عضو مجلس إدارة جائزة نوبل، الذي يعلن أن «الجامعات العربية مسؤولة عن عدم ترشيح أي عربي لجائزة نوبل».

في القاهرة كان المسرح القومي يقدم «العشرة الطيبة»، وفرقة الريحاني تقدم «حكاية كل يوم»، ورياض السنباطي انتهي من تلحين «الحب كده» التي ستفتتح بها أم كلثوم موسمها الغنائي، دور السينما كاملة العدد، يمكن أن نرصد في ذلك اليوم أكثر من 15 فيلما أجنبيا، والعدد نفسه تقريبا للأفلام المصرية، منها «عاشت للحب» لزبيدة ثروت، «الحب الأخير» لهند رستم وأحمد مظهر، و«البوليس السري» لإسماعيل ياسين. وفي صفحتها العاشرة، بدأت جريدة «الأهرام» نشر أول حلقة من رواية نجيب محفوظ الجديدة «أولاد حارتنا». (بتصرف من ص 11 إلى ص 15). ربما اقتباس هذا المقطع يدل على الأسلوب الذي انتهجه الكاتب في تقصي ملابسات نشر رواية «أولاد حارتنا»، فالعمل يعد استقصاء تاريخيا واجتماعيا وسياسيا لزمن نشر الرواية، فهو لا يقتصر على فكرة التأريخ الأدبي، كمكانة الرواية في إنتاج محفوظ وإنتاج غيره من معاصري تلك الفترة، وهو ما سيتضح أكثر في فصول الكتاب، الذي حاول رسم صورة عامة وشاملة لمصر في ذلك الوقت.

البداية

يذكر الكاتب مؤكدا أن أول هجوم معلن على الرواية كان في مجلة «المصور»، في رسالة أرسلها قارئ اسمه محمد أمين إلى الشاعر صالح جودت محرر باب «أدب وفن» في 18 ديسمبر 1959 أي قبل اكتمال نشر الرواية بأسبوع كامل. القارئ اعتبر أن محفوظ في روايته الجديدة: «يحيد ويجانب كل أصول القصة، فكتابته الأخيرة لا هي رمزية ولا هي واقعية، ولا هي خيال، ولا تنطبق على أي قالب معروف… جاء محفوظ ليتحدي معتقدات راسخة، ولهذا يتعذر على كائن من كان حتى لو محفوظ نفسه، أن يقدمها بمجرد كتابة قصة. التستر وراء الرموز أضعف قضية نجيب محفوظ في مجتمع يجل الدين في طبيعته». ويذهب الكاتب إلى عنوان محمد أمين، ليكتشف ــ حسب قوله ــ أنه لم يجد أثرا أو وجودا لشخص بهذا الاسم، ما يوحي بأنه ربما يكون صالح جودت نفسه صاحب الرسالة!

الصراعات الأعمق

أرادت جريدة «الجمهورية» منافسة «الأهرام» فاختارت رواية «البيضاء» ليوسف إدريس، وهي الرواية التي ينتقد فيها بعنف التنظيمات الشيوعية المصرية. بدأ النشر بعد 12 يوما من نشر محفوظ لروايته، وكان نشر رواية إدريس بتشجيع من صلاح سالم، أحد ضباط يوليو/تموز. ومن فكرة الضابط الثورجي المشجع، فإن الصراع حول الرواية لم يقتصر على كونه أدبيا أو اجتماعيا، بل سياسيا في الأساس، وإن كان في البداية في شكل غير مباشر، حيث كانت أزمة الرواية جزءا من معركة أكبر عنوانها معركة السلطة للهيمنة على المجتمع دينيا وسياسيا وثقافيّا. فأجواء المعركة أبعد زمنيا من رواية محفوظ، ومن ثم سعت كافة القوى السياسية على اختلافها إلى استعادة هذه المعركة، عبر هذا الكنز الذي وفرته لها رواية محفوظ، وتوظيفها لمصالحها الشخصية. ومن ثم فتحُ الباب على مصراعيه للهجوم على محفوظ على نحو ما فعل وزير الاقتصاد آنذاك حسن عباس زكي، الذي قاد الهجوم على وزير الثقافة ثروت عكاشة محملا إياه المسؤولية، لأنه أسند مهمة الرقابة لرجل «متهم في عقيدته الدينية». الشيء نفسه فعله كمال الدين حسين الذي قاد هجوما مستترا بالتحريض على محفوظ. ويتضح أن جميع الأزمات التي أُثيرت حول الرواية كان وراءها النظام، حيث كانت ثمة ريبة في أجهزة الدولة من أن الرواية موجهة ضد النظام، وأنها اشتمت فيها رائحة مؤامرة. كشفت الرواية عن أزمة الرقابة وهيمنة التيار اليميني المتشدد، الذي كان ينظر إلى الفن بريبة، وهو ما حدث مع رواية فتحي غانم «البارد والساخن» وإحسان عبد القدوس «البنات والصيف». ويرى محمود أمين العالم أن «جوهر الرواية هو النقد القيمي الفكري الرمزي للسلطة الناصرية، للتناقض بين شعاراتها ومبادئها وبعض ممارساتها، خاصة تلك المتعلقة بالديمقراطية السياسية». لذا لم تكن الرواية بعيدة عن عين النظام، وأن الانشغال بها عن طريق مشايخ الأزهر، بمعنى تصديرها من الوجهة الدينية، لهو أخف وطأة من المواجهة مع انتقادها السياسي، خاصة في مناخ يدمن التدين، مهما طاله من مظاهر التحديث.

اليمين المتشدد نفسه هو الذي لم يسمح بنشر الرواية في القاهرة، وقد رفض صفوت الشريف نشر الرواية، على الرغم من موافقة مبارك بعد حصول محفوظ على جائزة نوبل، والوعد بنشرها!

المصدر والمخطوط الأصلي

يشير الكاتب إلى المصدر الأساسي لـ«أولاد حارتنا»، والمتمثل في عمل برنارد شو «العودة إلى متوشالح» ــ عمل مسرحي من خمسة فصول ــ إضافة إلى وجهة نظر معلم محفوظ سلامة موسى، الذي كان يؤمن بالعلم بدرجة تكاد تكون مطلقة. من ناحية أخرى يبدو تساؤل الكاتب عن مصير المخطوط الأصلي للرواية، فمحفوظ نفسه يؤكد أنه أودعه جريدة «الأهرام»، وقد اختفى المخطوط بعد ذلك، ولكن ماذا عن طبعة دار الآداب البيروتية؟ كما يشير إلى أن الطبعة الوحيدة الكاملة للرواية، جاءت في ترجمتها الإنكليزية، حيث قارن مترجم الرواية ما بين طبعة «الأهرام» وطبعة دار الآداب، فاكتشف أن هناك 961 اختلافا بين النصين، ما يمثل 1241 كلمة ناقصة.

البحث عن القيم الروحية

«رواية بحث الإنسان الدائم عن القيم الروحية». هكذا أشارت لجنة نوبل في تقريرها عن «أولاد حارتنا»، ولكن البعض كان له رأي آخر.. فبعد أن أصدر الخميني فتوى بقتل سلمان رشدى في فبراير/شباط 1989 بسبب «آيات شيطانية». سُئل عمر عبد الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية عن رأيه في رواية رشدي فأجاب، في العديد من الصحف وفي خطبته للجمعة «لو قتلنا محفوظ من 30 سنة مكنش طلع سلمان رشدي». وهو ما استجاب له بعد خمس سنوات، شاب فى العشرينيات من عمره اسمه محمد ناجي لم يقرأ لمحفوظ حرفا ليرتكب الجريمة في يوم الجمعة 14 أكتوبر/تشرين الأول 1994.

هذه بعض لمحات من سيرة الرواية وعالمها وما تسبب عنها من تداعيات، ظلت تلاحق نجيب محفوظ، حتى بعد رحيله، فقبل عامين، ومع الذكرى العاشرة لرحيله، أتى أحد أعضاء مجلس النواب المصري ــ حاصل على دكتوراه في القانون الجنائي ــ وطالب بمحاكمة نجيب محفوظ بتهمة خدش الحياء! وهو لن يكون الأخير في ظل مناخ أكثر ظلاما من وقت نشر «أولاد حارتنا».

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال بالـ pdf في جريدة القدس العربي


عن صحيفة القدس العربي

القدس العربي”، صحيفة عربية يومية مستقلة، تأسست في لندن في نيسان/أبريل 1989. تطبع في الوقت نفسه في لندن ونيويورك وفرانكفورت، وتوزع في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا وأوروبا وأمريكا. يتابع موقع الصحيفة يوميا على الانترنت مئات الآلاف من أنحاء العالم كافة.
اكتسبت الصحيفة سمعة عربية ودولية طيبة، بسبب نشرها للاخبار الدقيقة ولتغطيتها الموضوعية للأحداث، والتحليل العميق للقضايا العربية والعالمية، معتمدة في ذلك على مجموعة من المراسلين والكتاب المميزين.

تواصل الصحيفة تطورها خلال الاشهر القليلة الماضية، حيث انضم الى طاقمها مجموعة جديدة من المحررين والمراسلين الاكفاء والكتاب المرموقين. وتحرص الصحيفة على التواصل مع قرائها، ونشر تعليقاتهم وآرائهم على صفحات نسختها الورقية وعلى موقعها الألكتروني و”فيسبوك” و”تويتر”.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)