أدب عالمي

أليس في بلاد العجائب للويس كارول : العالم من ثقب في غابة Alice au pays des merveilles - Alice in Wonderland

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الخميس ٢٧ يونيو / حزيران ٢٠١٣
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


في عام 1850، وداخل حرم جامعة أكسفورد البريطانية العريقة، التقى شاب في الثامنة عشر من عمره، كان التحق بالجامعة لدراسة العلوم والرياضيات، طفلة في الرابعة هي ابنة الدكتور ليدل عميد الجامعة. على الفور أحس الشاب بانجذاب نحو تلك الطفلة التي كانت واحدة من ثلاث بنات انجبهن الدكتور. وزاد الانجذاب حين اكتشف الشاب أن الطفلة مغرمة بالحكايات، من ناحية، وأن تعابير وجهها تصلح للتصوير الفوتوغرافي من ناحية ثانية. فهو أيضاً كان مولعاً بالحكايات والتصوير. كان مولعاً، بالأحرى، بتأليف الحكايات ارتجالاً، وبتصوير الوجوه المعبرة. وهكذا من خلال ما راح الشاب يبتكره من حكايات يرويها للطفلة وشقيقتيها وبقية رفيقاتهن، وُلد كتاب للأطفال، ربما هو الأشهر في تاريخ الأدب الخيالي والأكثر انتشاراً.

نتحدث هنا، بالطبع، عن كتاب «مغامرات أليس في بلاد العجائب»، الذي اشتهر في الإنكليزية ثم في ترجماته إلى العدد الأكبر من لغات العالم باسم «أليس في بلاد العجائب» محققاً لكاتبه شهرة ما بعدها شهرة. لكن اللافت هو أن الاسم الذي اشتهر به الكاتب لم يكن اسمه الحقيقي، بل كان اسماً مستعاراً، شاء الكاتب الشاب حينها، أن يوقع به ذلك النوع من الكتابة التي راح يتقنها أكثر وأكثر، فيما وضع اسمه الحقيقي على مؤلفات أكثر جدية، من أبرزها كتب في المنطق والرياضيات ومن بينها على وجه الخصوص، كتاب علمي للأطفال عنوانه «لعبة المنطق».

كان الاسم الحقيقي لذلك الكاتب تشارلز لوتفيغد دودغسون. أما الاسم الذي نعرفه به فهو لويس كارول. أما الكتاب الذي طُبع مئات المرات وباع ملايين النسخ وترجم إلى شتى لغات الأرض كما أسلفنا، وحوّل إلى أفلام - لعل أشهرها وأجملها في هذا الزمن الذي نعيش، الفيلم الذي حققه الأميركي تيم بورتون من تمثيل نجمه المفضل جوني ديب -، كما إلى أعمال أوبرالية ومسرحيات وأغان وما شابه، فإن كاتبه، عندما سعى إلى نشره للمرة الأولى، لدى دار نشر ماكميلان اللندنية، اضطر إلى أن يدفع تكاليف الطباعة والنشر من جيبه، لأن الناشر لم يكن واثقاً من النجاح والإقبال الجماهيري. إذ كيف كان في الإمكان توقّع نجاح حكاية مليئة بكل أنواع اللامعقول والتخريف، حكاية فتاة صغيرة تطارد أرنباً في غابة فيوصلها إلى عوالم أغوار الأرض حيث تلتقي بأغرب المخلوقات وتعيش أعجب المغامرات؟

حكاية « أليس في بلاد العجائب» هي إذن حكاية الطفلة أليس نفسها، الطفلة التي تعرّف إليها الشاب الذي سيختار لنفسه اسم لويس كارول، وصوّرها وروى لها الحكايات. وفي أحداث الكتاب أن أليس هذه تكون جالسة في الغابة مع أختها حين تلتقي الأرنب العابر المكان في سرعة مدهشة، فتجد نفسها منجذبة إليه ولديها من الفضول ما يحثها على مطاردته فلا يكون منها إلا أن تندفع وراءه لتجد نفسها وقد صارت في غور الأرض. وهناك تبدأ مغامرتها العجيبة. إذ ذات لحظة تدرك لفرط دهشتها، وسرورها بالتالي، أنها قادرة على أن تطول وتقصر كما تشاء. ويتلو ذلك أن يكلف الأرنب أليس بمهمات تلتقي خلالها بالقط تشستر الذي يظهر ويختفي كما يحلو له مبقياً حين يريد ابتسامته معلقة في الهواء. بعد ذلك تلتقي أليس بورقة الكبة قبل أن تجد نفسها وقد طُلبت للشهادة في محاكمة. وبعد ذلك تروح في دوران يسبب لها من الدوخان ما يجعلها تسقط من طولها، وحين تفيق بعد سبات لن تعرف أبداً كم استغرق من الوقت ستجد نفسها من جديد لا تزال جالسة في الغابة. هل ما عاشته كان حلماً أو حقيقة؟ الحال أن الجواب على هذا السؤال الذي شغل ألوف القراء من الذين اشتروا نسخ الجزء الأول من الكتاب وقرأوه بشغف، لن يأتي إلا في الجزء التالي، من الكتاب والذي كتبه ونشره لويس كارول بعد نجاح الجزء الأول وعنوانه هذه المرة «الجانب الآخر من المرآة».

هذه المرة، في الجزء الجديد، لا تكون أليس جالسة في الغابة، بل أمام مرآتها، حيث يحدث لها فجأة أن تدخل المرآة لتجد نفسها في عالم أكثر إدهاشاً من عالم الجزء الأول. إذ إن رحلتها هذه المرة تنطلق من لعبة منطقية: على طريقة لعبة الشطرنج حيث يكون عليها أن تتقدم رقعة رقعة مصادفة الأحجار حالّة مكانها، حتى اللحظة التي تجد نفسها عند الخط الثامن من رقعة الشطرنج حالّة محل الملكة. وهي خلال ذلك كله تلتقي، من جديد، بشخصيات عجيبة، منها ما هو حيواني أو نباتي ومنها ما هو بشري. ومن بين هذه الشخصيات الثنائي تويلدام وتويدلدي، وهامتي دامتي. ولعل أجمل مقاطع هذا الجزء الحوارية هو ذاك حين ينام تويدلدام فيقول توأمه تويدلدي لأليس: «انه يحلم بك. فإذا كفّ عن هذا الحلم ما الذي سيكون عليه شأنك في اعتقادك؟ أين ستكونين؟» تجيبه أليس: «حيث أنا الآن» فيصرخ تويدلدي: «أبداً... لن تكوني في أي مكان. لأنك في حقيقة أمرك، لست إلا فكرة تشكلين جزءاً من حلمه». من البديهي أن هذه الفكرة التي عبر عنها لويس كارول بكل هذه البساطة في هذا الجزء من مغامرات أليس، قد فتنت الأطفال الذين قرأوا الرواية. لكنها أكثر من هذا، فتنت دائماً الكتاب والشعراء والسورياليين، وصولاً إلى الكاتب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورغيس الذي قال دائماً أنه يدين إلى لويس كارول وروايته هذه، بكل ما لديه من قدرة على التخيل.

والحقيقة أن عمل لويس كارول هذا فتن أيضاً أساطين التحليل النفسي، من الذين رأوا أن القيمة الأساسية لهذا الكتاب، إنما تكمن في ذلك الجنون الغامض الذي يملأه وفي تلك الغرابة التي «تهيمن على ما فيه من مشاهد وشخصيات وأشياء وحيوانات». ولقد رأى هؤلاء، وجاراهم السورياليون في ذلك، أن لويس كارول «إذ برهن في هذا العمل المدهش عن تعمق مفاجئ في دراسته لسيكولوجية الأطفال، حقق معجزة تقوم في نظرته إلى الأمور عبر ذهنية هؤلاء الأطفال والجاً عوالمهم، من دون أية أفكار مسبقة، ومن دون أن يأبه لأي منطق أو مواثيق متعارف عليها» - بحسب تعبير برونو بتلهايم -، فإذا أضفنا إلى هذا ما في أسلوب لويس كارول من فكاهة تهيمن على تصويره للأحداث والشخصيات، في الوقت نفسه الذي يكشف فيه هذا الأسلوب عن تعمّق الكاتب في دراسته للشأن الاجتماعي ولأخلاق البشر، يمكننا أن نفهم أولئك الباحثين الذين رأوا في عمل لويس كارول هذا فاتحة لنوع من الحداثة الأدبية والفكرية، وتمهيداً لظهور الكثير من الأنواع الأدبية الرؤيوية التي، طبعاً، تتجاوز اهتمامات عالم الأطفال، كمسرح العبث وما إلى ذلك.

ولد لويس كارول (تشارلز دودغسون) عام 1832 ابناً لقسيس إنكليزي، وكان الثالث في عائلة تضم 11 ولداً، منهم 8 فتيات. وكان وأشقاؤه وشقيقاته جميعاً من المتلعثمين العسراويين، ولعل هذا ما يقف خلف رغبته، التي عبّر عنها منذ الصغر، في ابتكار الحكايات والكتابة بالمقلوب واختراع الأكاذيب وشتى أنواع المزاح تعويضاً. وهو أمضى سنوات طفولته في أجواء عائلية تبدو أنه سيطر هو عليها، حيث كان يخترع الحكايات ويرويها لإخوته، كما كان يربي أغرب الحيوانات (وهي الحيوانات نفسها التي ستصبح جزءاً من حكاياته). وهو منذ التقى الصغيرة أليس وكتب لها كتابيه الأشهر، صار يعدّ من أقطاب هذا الفن ولم يتوقف عن الكتابة، وإن كان توقف عن فن التصوير الذي كان واحداً من هواياته الأثيرة، وكانت فيه أليس «موديله» المفضل لسنوات طويلة مقبلة. ورحل لويس كارول عن عالمنا في عام 1898 وهو في السادسة والستين من عمره، مخلفاً الكثير من الكتب التي حملت توقيعيه: المستعار للحكايات الجميلة، والحقيقي للكتب العلمية. لكنه لا يزال حياً حتى اليوم في ذاكرة الكتاب (والأطفال) كواحد من الذين حلموا كثيراً وجعلوا الكلمة في خدمة الحلم. وربما أيضاً الحلم في خدمة الكلمة.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)