ألواح، رشيد الضعيف (لبنان)، سيرة ذاتية دار الساقي - 2015

, بقلم محمد بكري


 روايته الجديدة «ألواح» شذرات من سيرة ذاتية : يوم بكى السيد رشيد


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٩٠٢ السبت ٤ حزيران ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون


الكاتب اللبناني رشيد الضعيف


جورج طانيوس الزغبي


مع انني أحببت الصورة لبيكاسو على الغلاف كنت أفضل غير هذه التسمية التي لا تعكس بالتمام الجو الذي يتميز به الكتاب كأن يكون العنوان «محطات»؛ وهي كلمة تدل على مراحل الحياة كما توحي بالحركة والتنقل والسفر وتبديل الأماكن... وهذا ما يتناوله الكاتب رشيد الضعيف بالتمام.

إلا إذا كان المقصود بالعنوان «الواح» (دار الساقي) ما يكتب عليه المعلم في المدرسة كأن المؤلّف هنا يكتب كل فصل من حياته على لوح لنقرأه نحن التلامذة الذين ننتقل نحن أيضاً في تجارب الحياة ومسارها المتعدد والغني والمعقّد ونبقى تلامذة على مقاعدها؛ وكم بيننا من يرسب ولا ينجح في أي مجال (ص56).

ومع ذلك، فالكتاب جزء مهم من سيرة ذاتية أو فصول حياة عاشها وعرفها المؤلف وأراد أن يشاركنا بها. أقول محطات لأن الكاتب يأخذنا في رحلة متعددة المراحل والظروف ويحدثنا دائماً من وجهتين وطريقين متعاكسين كأنه في حروب متواصلة مع الذات وفي حالة تمزق وتفسخ مستمرة! كأنه يهوى هذه المواجهة بالرغم من الخسائر التي يتكبدها على اكثر من صعيد. وكم يمازج بين الحرب اللبنانية وبين حروبه الخاصة (ص125). وهذا ما يختصره في نهاية الكتاب التي تدلنا إلى المحتوى وخلاصة هذا الصراع؛ إنه في منتهى الحزن واليأس والاستسلام كأنه كلب عجوز انتهى مفعوله... (ص 159) وهنا تعود فجأة صورة والده الذي مات سعيداً... بعكس حالته هو لأنه لم يعرف السعادة ولا الاستقرار يوماً. اذ يعيش منذ الطفولة في حالة بؤس بالرغم من بحثه المستمر عن السلام والهناء الداخلي. فالوالد لم يمت سعيداً فقط، بل عاش حياة بسيطة بعيدة عن الفلسفة والايديولوجيات وأنجب عائلة وظل يعمل ويكسب لإعالتها. يتوقف عند الفرحة الكبرى حين يكسب من عمله اليومي أكثر ما كانت تحتاج إليه العائلة (ص 11). غير أنّه لا يستطيع ان ينتشل العائلة من الفقر المتزايد لتزايد متطلبات الحياة المادية والتربوية والمعنوية (ص 114). إلا انه من جهة تالية، يركز على دور الأم في الحفاظ على مملكة العائلة (ص17) بالرغم من كل الصعاب والتحديات وقساوة الحياة، فالأم ملك للأولاد! (ص98) وهي خلقت لتكون لهم حناناً دون حدود وخدمة وتضحية كاملة (ص21). ولا يحق لها الخروج من بيتها مطلقاً (ص33) ولا فرد يتحمل هذا الأمر (ص21) فالرجل كما الأولاد يمتلكون أمهم! كما انه هو يريد تملك عشيقاته!

أما العنصر الآخر المكمل لعالم العائلة، فهو أسلوب نظام مجتمع الجبل الذي يحكمه شيخ القبيلة «الوجيه» (ص 84) الذي يتدخل في كل أمور اتباعه ويتصرف وفقاً لمصالحه. وقد تأثر رشيد وتشبّع من هذا النظام بكل أشكاله وعناصره. و«الوجيه» هذا لم يتصرف بعدل إثر حادثة مؤلمة ادت الى بتر ساق اخيه الأكبر يوسف (ص 39)، ما أدى بالعائلة الى الدخول في لعبة الثأر وهي من صلب ركائز هذا المجتمع الجبلي. فلا تعود كرامة العائلة ولا يستعاد الاعتبار إلا بعد الانتقام من ابن البلدة الذي اطلق النار (ص 42-43 ). عندها، يعود السلام والهناء الى كل افراد العائلة الذين يتشاركون المصاب ويتضامنون بشكل كامل في هذا النظام القبلي- الإقطاعي. المحطة التالية التي يرويها لنا وطبعت القسم الثاني من حياته، هي الانتقال إلى بيروت ليدخل في تجربة مجتمع آخر يختلف بالكامل عن المرحلة السابقة (ص109). انغمس في الفكر السياسي التحرري، غير أنه أصيب بنكسة من هذه الفلسفات التي بلورها أصحابها لتحسين الحياة على هذه الأرض (ص 8). عند هذه الخيبة، بدت الحياة رتيبة فارغة كأن هذا الحدث هو قتل للإنسان وللحلم. وبدت الحاجة إلى معجزة أكثر من فعل وجود أو لزوم «سر جميل حتى تحلو الحياة» (ص 9) كما يقول.

والمحطة المعبرة في الكتاب ما يرويه عن مغامرات عاطفية مفتوحة على كل الاحتمالات. ولم تكن النتائج إلا صدمة تزيد من الحسرة والضياع بالرغم من كثافة الممارسة الجنسية التي كانت تهدف إلى إشباع نزوات تعود إلى عهد المراهقة أو كأنها انتقام لتلك المرحلة من حياته في بلدته (ص 73) حين شاهد صديقة أمه عارية بالكامل وهي تستحم! ولعل علاقته بتلك الفرنسية هو الاختبار الذي ولّد في ذاته الوجع الكبير، إذ تنتهي الأمور بشكل مأساوي حزين جداً.

فهذه العلاقة أو التجربة مع امرأة تختلف عنه لغة وحضارة وتقاليد وطريقة تفكير وسلوك حياة، قد زادت من هذا التناقض والتضاد في ذاته؛ فهو مرة أخرى تتجاذبه تيارات متصارعة (ص 123). يقصد نيويورك ليكون بجانب عشيقته ثم تشتد به الرغبة بالعودة إلى الوطن حتى حدود البكاء على هذا الوضع أو المصير (ص 128). هل هي حالة بسيطة أن يبكي رشيد؟ فلم يستطع التأقلم مع طريقة حياتها (ص 130) وهي الفتاة المتحررة التي تعشق الحياة كأن كل الكون هو بيتها. هو الآتي من بلد تربى على مفهوم العائلة وحمايتها ودورها وانتظامها (ص 140) وهي التي ترتكز حياتها على فرديتها وذاتها (ص 141) وتفلتها (ص 127). تتكثف التجربة، مما يضاعف من الضياع كأن قوة خفية تقوده (ص 156)... فالسفر والجنس المتفلت يساعدانه على التنفس فقط، اذ انه دائم الشعور بالاختناق لا سيما في الغربة. لربما تبقى في كيان المؤلف صورة أمّه التي يرفعها الى مرتبة الترّهب ونذر الذات لبيتها وعائلتها، ولا تخرج منه إلا لضرورات وفي محيطها فقط. هنا يحلو لكل قارئ لهذا الكتاب أن يتوقف عند مشهد رائع لهذه الأم التي تلف حصتها من الفرّوج وتضعه في عبها وتهم بالعودة إلى بيتها وأولادها ليلة يدعوها زوجها الى تلك السهرة في البلدة. مشهد مؤثر رائع بدلالته! إنّه الحدث الفاصل بين زمنين! مفتاح آخر للدخول الى حديقة القصة الممتعة! (ص 20)

هذا الانكسار الدائم في الحب والعشق، قاده إلى ربط الفشل بانفجار القنبلة الذرية على هيروشيما في نفس اليوم الذي انفجر فيه رحم والدته عند ساعة ولادته... إشارة إلى استمرار الحياة والأمل للبشرية. هو الفاشل في كل الحقول والمجالات العلمية والأدبية، لكنه ينظر الى نفسه كـ «حمّال الأمل» (ص 155). الولد الآتي من مجتمع جبلي ريفي فريد بتركيبته وتقاليده، يربط بشكل لبق يوم مولده بحدث بشري تدميري رهيب. صورة أو بلاغة ذكية مهضومة تحمل بعداً ساخراً تهكمياً! يمكن اعتبار هذا الترابط ضمن عملية اكتشاف الذات والإفصاح عنها أو تعريتها بشكل كامل (ص 107). يدّعي أنه لا يعرف نفسه انما يعرف أنه يتحرك ويتبدل وانه يقيم ويعيش... وهذا هو مصدر الحياة وغناها! يساعده في هذه المهمة هذا الارتباط القوي باللغة التي هي أيضاً مصدر حياة وتواصل وانتظام (ص 125). ممّا يسهل عليه عملية تنظيف الداخل (ص 108)، إذ أن الحياة هنا أيضاً في علاقة جدلية بين الظاهر والخفي. ربما تكون الكتابة شهادة لتجارب الحياة وجروحها (ص 131) واذلال النفس. إنما هنا تبدو للمؤلف انتصاراً وتحدياً وفعل رجاء (ص 158)... وهذه المعرفة جزء من المكاشفة...

مدوّن رائع رشيد ومستمع جيد هادئ يعرف أن يصغي إلى الزمن والكون فيلتقط الإشارات ويربط مراحل الحياة وتجاربها ببعضها بكل الفن والسهولة والسخرية المؤلمة! وهو يبرع أيضاً في إدخال القارئ في لعبة مسار الرواية ومشاركته في حركة الحياة ودورتها، وصراعاتها وتناقض الثنائيات لا سيما الحب والكراهية. وفي كل قصة أو مرحلة جزء منّا، لا سيما الذين يتحدرون من هذا المجتمع اللبناني الريفي، والذين اختبروا الكثير من التجارب التي عاشها المؤلف. أولئك الذين نزحوا إلى بيروت أو عاشوا في المجتمعات الغربية هرباً من الحرب وتوقاً إلى الحرية واكتساب تجارب غنية. ويبقى الجنس هنا الوسيلة أو الدواء لبلسمة جروح الماضي وعنف التقاليد. غير أن المأساة والتمزق يستمران لأنه لا تبدو الحدود واضحة بين الحياة وجروحها وبين الحاضر والمستقبل. وهذا ما يولّد المزيد من الحزن والمرارة وعدم الإستقرار، فيختل التوازن، وتشتد هشاشة الشخصيات وغربتها عن ذاتها وعن الآخرين. ولأنه لا يريد أن يتركنا في حالة اليأس كأنها النهاية والظلام، فإنه يعدنا بمفاجأة، إذ هو مصر على مواصلة هذه المجابهة... فالكتابة عن الماضي مسؤولية كما تقول الكاتبة التركية ألف شفق، فكيف إذا كانت اعترافات عن الذات وبوحاً مفتوحاً شجاعاً عن تجارب ذاتية يقولها بانفتاح وتفصيل دقيق. فلا أظن أنه أراد أن يقول أن الهروب من الذات عملية مفيدة نافعة، بل إنّ الصراع والمجابهة ما يعطي الذات معنى الوجود الفاعل.

فإلى ماذا يدعونا الكاتب؟ وما يتناوله في السيرة نماذج عن السلوك البشري ربما في كل أصقاع الأرض. وفي الختام نتذكر ما ردد الكاتب الأميركي كورت فونغوت «إن كل كتابة هي سيرة ذاتية... أو الى شيء».

رشيد الضعيف شكراً لك... فالكتاب محطات تروي بعضاً من تجاربنا ونمط حياتنا وهوية حضارة الجبل التي في طريق الزوال!

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية

 المقال في جريدة الأخبار اللبنانية بالـ pdf


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



 "ألواح" رشيد الضعيف بين صرخة الكتابة والبحث عن الحقيقة


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 16-02-2016، العدد: 10187، ص(14)
الصفحة : ثقافة
العرب - بيروت


تمرّ اللحظات من أمام أعين الإنسان وهو يرقب العالم ويفتش عن مكان له تحت الظل، فتتراءى له صور الذكريات باهتة أحيانا وضبابية أحيانا أخرى، ثمّ تتحوّل الذكريات إلى مجرد نبش في الماضي واستعراض لأحداث مرّت ولن تعود، مرّت بكل ما فيها من سعادة وحزن وبكاء وفرح وألم، هذه المشاعر والأحاسيس ترجمها العديد من الأعمال الروائية التي نقلت إلينا سيرا ذاتية لكتّاب ومبدعين ظلت في ذاكرتهم وصارت بعد ذلك في ذاكرة القرّاء.

يواصل الروائي اللبناني رشيد الضعيف تجربته الروائية الفريدة في رواية “ألواح”، الصادرة حديثا، عن دار الساقي، لتشكل زاوية مضيئة من المكتبة الروائية العربية المعاصرة، زاوية حداثية عرفها القارئ العربي في أعمال الضعيف منذ روايته الأولى، إذ يحاول كل مرة المغامرة بالسرد في منطقة جديدة محرجة. جاءت الرواية في 159 صفحة متوسطة القطع مع لوحة على غلافها للفنان العالمي بيكاسو.

في “ألواح” نقترب من عالم كتابة السيرة الذاتية من جديد، فالجهاز الإلكتروني الحميمي الذي كتب عليه يذكرنا بدفاتر اليوميات الخاصة التي تقطع مع صرامة اللحظة الإبداعية وطقوسها الكلاسيكية للكتاب كي يندفع عبره رشيد الضعيف في سرد اعترافاته.

ينطلق الراوي في “ألواح” بنزع اليقين عن الآخرين باعتبارهم يملكون الحقيقة، فلا أحد يعرف أحدا، ولا ذلك الأحد نفسه يعرف حقيقته، هكذا ينطلق رشيد الضعيف في رواية تبدو سيرة ذاتية مهد لها بميثاق تخييلي سيري، وكان عنوان الفصل الأول “حقيقتي”، لينهيه قائلا على لسان الراوي “لا أحد يعرفني على حقيقتي، ولا أنا نفسي أعرف نفسي على حقيقتها”، بهذا الاعتراف يكون الراوي قد قذفنا في عالم التخييل، ففي عالم التخييل النسبي ليس هناك من معنى للحقيقة.

التخييل الذاتي

إننا في هذه الرواية أمام ما سماه سارج دبروفسكي منذ السبعينات “التخييل الذاتي”، وهو نوع أدبي منشق عن الرواية، متقاطع مع الكتابة الأوتوبيوغرافية ومشتق منها دون أن يكون سيرة.

رواية الكاتب اللبناني رشيد الضعيف الواقعية جاءت أقرب إلى سيرة ذاتية غير كاملة وحفلت بموضوع أثير عند الكاتب، وهو الكشف عن أمور -منها الجنسي ومنها الاجتماعي- قد يسبب الكشف عنها خجلا عند الآخرين، وصفها هو بجرأة غير عادية.

ويحمل غلاف الكتاب خلاصة لما يتضمنه، ومن ذلك قول رشيد الضعيف عن تاريخ مولده “انفجاران حدثا في الوقت نفسه في 6 أغسطس 1945: انفجار القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما وانفجار رحم ياسمين (والدة الكاتب) فولدت رشيد”.

رشيد الذي حمّله تزامن الحدثين المتناقضين مسؤولية كبرى قرر أن يكتب عن: الأب الذي لم يحسن عملا قام به، وعن الأم الجميلة المؤذية ببراءتها، وعن الجد الذي حببه في الغناء، وصولا إلى نتالي الباريسية الحسناء التي قالت له تعال، فجاءها مشيا على سطح الماء، وأيضا عن مشاعر مجرّد الشعور بها مدعاة للخجل، فكيف بالبوح بها؟

أما القول إن هذا العمل هو أقرب إلى سيرة ذاتية غير كاملة فمردّه إلى أن الكتابة القصصية حتى المغرق في الواقعية منها، هي في النتيجة عمل انتقائي إلى حدّ بعيد، فما من نقل حرفي للواقع كما هو تماما يصلح لأن ينتج عملا قصصيا فنيا.

يبدأ رشيد الضعيف روايته عن فترة مبكرة من عمره ويجعلنا ننتقل خطوة خطوة أحيانا في بعض أحداث حياته وحياة عائلته. لكن بعد فترة من مسيرة الرواية، وخاصة عندما أصبح بطلها رجلا، أخذ الكاتب ينتقي مراحل ومحطات مهمة من حياته ليرويها لنا ومنها إصابته بشظية خلال الحرب اللبنانية، وانتقاله إلى باريس من أجل فتاة أحبها، وصولا إلى خاتمة الرواية. ويصف كيف أنه بعد سنة 1975 التي نشبت فيها الحرب الأهلية توقف عن النضالات الحزبية اليسارية التي كان يقوم بها.

في بداية الرواية يعرفنا الكاتب بنفسه تحت عنوان “حقيقتي” إذ يقول “يظن الذين يعاشرونني بأنني أعرف نفسي جيدا وأنني أعرف كل ما أريده ولا أريده. يظنون أنني قبل النوم أخلع بنطلوني وأطويه وأعلقه بتأنّ. ويظنون أنني أغسل جوربيّ وثيابي الداخلية كل مساء كفتاة مهذبة، وأغسل أسناني بعد العشاء بفرشاة أجددها كل ثلاثة أشهر. ويظنون أنني آكل على الوقت صبحا وظهرا ومساء”، ولا يردّ الكاتب على هذه الظنون لكنه يتركنا لنعتقد أنها غير صحيحة.

أيام الصبا

يروي لنا رشيد الضعيف عن أيامه عندما كان صبيا؛ عن عائلة فقيرة “مستورة” وعن شبه الجوع أو فلنقل “عدم الشبع” بشكل جيّد إلا أنه يتحدث أيضا عن ليال دافئة كانت تمضيها العائلة الكبيرة في بيتها الصغير الضيّق.

ويورد للقارئ قصصا عديدة عن “سادية” تتحكم في رفاقه وفيه طبعا، كانت تتجسد في ميل بل في لذة بتعذيب الحيوانات الضعيفة والحشرات والطيور، كما يتكلم عن الحزازات العائلية وعن الروابط العائلية، كما كانت تبدو له يومذاك.

تحت عنوان “مهنة والدي” يتكلم بصراحة لا تجمّل الأشياء، فيقول “كنت دائما أعجب ولا أزال أن تكون مهنة والدي الحلاقة. أقول ذلك لأن والدي لم يكن أنيقا ولا مهتما بالموضة. ولا محدثا لبقا ولا ثرثارا ولم يكن نظيفا نظافة حلاق، كان يستحمّ مرة في الشهر أو مرتين حين يشتدّ الحرّ في الصيف؛ خلق والدي ليكون مزارعا. ثم مات باكرا في التاسعة والخمسين من العمر، أنا الآن أكبر منه بإحدى عشرة سنة” ويتحدث في مكان آخر عن والدته الطاهرة، بعد أن توفي أبوه إذ رآها مرة خلسة وهي في حالة نشوة خاصة.
رشيد الصريح والشديد الجرأة يكتب تحت عنوان “الكتابة والعلاج” فيقول “قد تكون الكتابة نوعا من العلاج للأزمات النفسية التي يعانيها الكاتب. وقد تكون الكتابة شهادة وقد تكون صرخة. وقد تكون فعل إذلال للنفس أو فعلا مجانيا أو تمرينا على شيء ما”. رشيد الضعيف أستاذ جامعي ولد في التاريخ الذي ذكره ببلدة إهدن الشمالية التي هي المصيف بالنسبة إلى أهلها بينما المشتى في زغرتا.

كتب رشيد الضعيف الشعر والرواية، وترجمت أعماله الروائية إلى عدة لغات أجنبية، ومن هذه الأعمال “تصطفل ميريل ستريب” و“عودة الألماني إلى رشده” و“أوكي مع السلامة” و“ليرنينغ أنغليش” و“ناحية البراءة” وغيرها.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر



 رشيد الضعيف يكتب سيرته على «ألواح»


جريدة الحياة


الإثنين، ١٤ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٥
جريدة الحياة
لندن- مودي بيطار


يقول غلاف «ألواح» إن الكتاب رواية، لكن رشيد الضعيف ذكر في صحيفة «السفير» اللبنانية أنه كتب شذرات من سيرته، واختار العنوان لأنه استخدم اللوح الإلكتروني، واستوحى شرائع حمورابي والكتب المقدسة التي حفرت على ألواح. قال إن الكتاب هو الذي ألّفه، أوضح صورته عن نفسه، واستعاد أحداثاً ساهمت في تكوينه. كان الكاتب خادم الكتاب، وجاءه ضرورة لا إلهاماً، وكانت فيه أحداث لم تقع حقاً، لكنها لو فعلت لكانت حدثت كما دوّنها.

يحاول الضعيف إذاً صدّ الفضول والأحكام، أو تشكلها في ذهن الآخر، بالقول إن «ألواح» الصادر عن دار الساقي، بيروت، ينتمي إلى أدب «الفاكشن» الذي يجمع الحقائق والأدب. ثمة أيضاً حاجة إلى تهدئة «الشخصيات» الأخرى في الكتاب التي اشتركت فيه من دون موافقتها. الغلاف لوحة لبابلو بيكاسو تتداخل فيها بضعة ألواح رسم وسط خلفية سوداء، كأن مجموعها يشكل الكل. النص صوت واحد هو الشاهد والحكم الوحيد على حياة والمختار من أحداثها التي ستختلف بالطبع إن رُويت من منظور آخر. وإذ يهجس الراوي رشيد بالصورة والحقيقة، وبينهما الهوية، يؤكّد منذ الصفحة الأولى اختلافهما القاطع. يظن الآخرون أنه يعرف ما يريد ولا يريد، وأنه مخـطّط ومنفّذ دقيق، لكن حقيقته تغلق عليهم. هو مدخن شره، ومصاب بيأس مطلق وأرق مزمن سيتسبب بموته قبل الأوان، وله أعداء حاقدون. اكتشف في الثامنة أو التاسعة اسم عائلته السلبي حين عيّره به تلميذ من عائلة «عدوة». وصمدت حساسيته من الاسم حتى الجامعة حيث شتم الطلاب الساخرين (شقيقاتهم على الأصح) وهاجم الأستاذ لأنه لم يؤنبهم في فعل طفولي خالص.

هل يثير البوح فضولنا في زمن تلفزيون الواقع والفايسبوك، وهل نكافئه إن وصفناه بالجريء؟ في تناوله حياة الأسرة التي ضمّت ثمانية أولاد يفصّل ألوان فقرها الذي كان فقر الأكثرية الريفية (ثقافياً) سواء عاشت في الريف أو المدينة، ثم يقول: «لم نكن فقراء، لكن حاجاتنا كانت تزداد ليس إلا». فاقم الأهل، بالطبع، أزمتهم بكثرة الإنجاب، وعجز الأب الفاشل، الساذج والغبي (الصفحة 54) عن تلبية حاجات أسرته الكبيرة. امتهن الحلاقة في الوقت الذي افتقر إلى النظافة والأناقة والحديث اللبق.

كُلّف أحياناً العزف على الناي في المناسبات للعجز عن الاستعانة بعازفين مهرة، وساعده ذات أمسية رشيد البارع في العزف، فجُنّ المدعوون (الصفحة 52). شقّ واحد قميصه، ونتف ثانٍ شعر رأسه، وأطفأ ثالث سيجارته في كفّه. لكن الخشونة القروية أفسدت لحظة انتصار الشاب وفخر والده به. رماه الحضور بالأوراق النقدية بدلاً من إعطائه مبلغاً في آخر السهرة، فشعر بالمهانة وقدّمها هدية للعروسين. يعزف الناي لأنه يحب العزف، قال للحضور، فكاد قلب والده يتوقف حزناً على مدخول نصف عام. توفّي الأب باكراً في نهاية خمسيناته، في اليوم التالي لقبول رشيد في الجامعة. يقول الكاتب في موضع إنه بدا كأنه أجّل موته إلى أن اطمأن عليه، ويذكر في موضع آخر أنه أصيب بسكتة قلبية حين حرمته زوجة شقيقه إرثه لتخصّ عائلتها به.

يطمئن رشيد إلى الشعر الأبيض (دلالة موت الشهوة) في رأس والدته الجميلة التي ترمّلت في السادسة والأربعين. ثم يكتشف «بقعاً على طهارتها» حين تقول إنها كانت معجبة برجل يعرفه، أنيق وفخور بنفسه. يرفض رغبتها سواء كانت استرجاعاً لذكرى أو محاولة فردية لتلبيتها بعد موت الزوج. يعارض حكمه الصارم على والده تردداً في إدانة الأم التي يقول أولاً إنها قوية، صلبة، دبّارة «تدير مصائر» وهي جالسة على كرسيها أمام الباب (الصفحة 17) ثم يتساءل إذا كان يستطيع أن يغفر لها سذاجتها وبراءتها القاتلة التي لا يزال يدفع ثمنها (الصفحة 113). هل يفسّر الانتقال من الريف إلى المدينة انتقال والدته من التدبير إلى الجهل؟ تجهل في بيروت استخدام المصعد وسيارة النقل (السرفيس) لكنها تتمنى فقط لو استطاعت كتابة اسمها لكي لا «تبصم». في غياب للحب والمنطق ومجرد التعاطف يرى من السخف تعليمها التوقيع باسمها، ويتساءل في الصفحة 100: «ألا يكفي أمي أن تكون أمي؟ ألا يجعل منها هذا تامة كاملة؟ (...) ماذا تريد إذن أكثر من أنها والدتنا وأمنا إلى الأبد؟» يشعر ولا يشعر بالذنب لامتناعه عن زيارة قبرها منذ وفاتها، ويحنق من توريطها إياه من دون أن يوضح إذا كان المعنى وجودياً عاماً أو سلوكياً خاصاً. يقول إنها هي التي ربّته، وبراءتها تسببت بالألم والغضب، لكن هذا لا يعني أن والدته متهمة بشيء! (الصفحة 102). قد لا يدهشنا كره الكاتب الطبيعي لوالديه، لأن معظمنا، وربما كلنا، يحب ويكره أهله في آن. لكنّ هناك جهلاً ونرجسيةً غريبين ومذهلين في تملك الأم التام وتحديدها بالأمومة وحدها، ورفض الاعتراف بـ «أنا» مستقلة لها مع ما يعني ذلك من حقوق وحاجات وغرائز في أي مرحلة من حياتها.

تزوجت الأم في الثالثة عشرة، ولم تنجب حتى بلوغها الثامنة عشرة، ونذرت أن تمشي حافية القدمين كل صيف خمسة وعشرين كيلومتراً لكي تحفظ العذراء أولادها. يتذكر رشيد الليلة الوحيدة المشؤومة التي رافقت زوجها فيها إلى المطعم، وعجزت عن تناول الطعام فاكتفت بالليموناضة والبذر. كره الأطفال والدهم لأنه سلبهم أمهم: «لماذا ألقى قنبلة وسط البيت؟» وانتهت الليلة بإطلاق النار على أكبرهم يوسف، وبتر ساقه، وعجز الأب عن النجاح في امتحان الثأر الأساسي في الثقافة المحلية.

نال الشهادة الأولى بعد أربعة أعوام من السن العادية لكنه اعتبر المسألة تقنية لا فشلاً. «كنت موجوداً بقوة في ذاتي. كنت محتلاً ذاتي بحيث لم يكن فيها فراغ يمكن أن يملأه شيء أو أحد من الخارج من حولي» (الصفحة 56). ما معنى ذلك في هذا السياق؟ يبرّئ نفسه من النرجسية في الصفحة نفسها حين يبرر الكلفة الكبيرة لإزالة شعر جسده بالنظافة لا الجمال. يقع ضحية الحب والحرب. يُحرق بيته لتهجيره، ويصاب بشظية صاروخ وهو في سيارته، فيسرق عابرون ما فيها، ويحاول أحدهم في مستشفى معادٍ إعطاءه دماً فاسداً ليقتله. يمتلئ بالعظمة حتى في موقع الضحية، فيقول في الصفحة 107 إنه ظن قبل الحادثة أن التظاهرات ستملأ الشوارع إذا أصيب اغتراضاً على ظلم الإنسانية «لأنني أنا الإنسانية». تناديه نتالي من باريس فيمشي على سطح المياه ليكتشف أنها لم تكن امرأة رجل واحد. يحاول امتلاكها بالإكثار من النوم معها، لكنه يرهق جسده عبثاً ويُكرِه نفسه على القبول بأن يكون الحبيب المخدوع.

يختم رشيد بالبداية. ولد في 6 آب (أغسطس) 1945 يوم ألقيت القنبلة الذرية على هيروشيما. ودّ لو ولد في اللحظة نفسها لرمزية الحدث وثنائيته. انفجار هائل مرعب ينشر الرعب واليأس «وآخر واعد بالخلاص منعش ومحيٍ» في الصفحة 153. يكتب كأنه الوحيد الذي ولد ذلك اليوم، لكنه ينتهي شبيهاً بوالده، بوجه مطفأ وعينين بلا نور.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)