أغلفة الكتب العربية بين الرؤية الفنية ومتطلبات السوق

, بقلم محمد بكري


موقع نقطة ضوء


موقع نقطة ضوء
الثلاثاء 15-12-2018
نقطة ضوء - تقارير
سارة عابدين (العربي الجديد:)


أغلفة الكتب العربية : بين الرؤية الفنية ومتطلبات السوق



الفكرة الشائعة بشكل عام هي عدم الحُكم على أي كتابٍ من غلافه الخارجي فقط، لكن بالرغم من صحة هذا الأمر بالمعنى المثالي، فإن حقيقة الأمر هي أن غلاف الكتاب هو عنصر الجذب الأول للجمهور، خصوصاً مع آلاف الكتب المعروضة على رفوف المعارض والمكتبات، فإذا لم يكن الغلاف لافتاً وجاذباً، سيتحول الجمهور لشيء أكثر إثارة للاهتمام، وجذباً للنظر، حتى في حال كان المحتوى أو المضمون أفضل، الأمر الذي يطرح التساؤل حول حرية المصمم التي ربما تتأثر بتداخل رؤى وأفكار مختلفة من الكاتب، أو الناشر، الأمر الذي يشتت المصمم ويجعله أكثر تقيداً أثناء العمل.

عن المقومات الفنية للغلاف والفارق بين مصمّم الأغلفة ومنسّق الأغلفة، يتحدث خالد الناصري مدير منشورات المتوسط ومصمم أغلفتها، قائلاً “إنه يجب التعامل مع الغلاف في نهاية الأمر كعمل فني، له مقومات مختلفة لأنه يتماس مع السوق والفن في آن، وهناك فارق بين مصمم الأغلفة ومنسق الأغلفة؛ المنسق لا يصمم الغلاف، لكنه يختار الخلفيات وفونتات الكتابة وأماكنها، بينما المصمم هو من يقوم بتصميم محتوى الغلاف”. ويضيف الناصري “لا يمكن الفصل بين المحتوى والعنوان أو المفاضلة بينهما، لأن المهم في الأمر هو الوصول لغلاف جيد، يكون المفتاح الأساسي للكتاب”.

أما فيما يخص صناعة هوية بصرية لكل دار نشر، يقول الناصري هذه العملية يجب أن يساهم فيها الناشر، والمصمم المحترف لأن صناعة (concept) تتم بالتعاون بين المصمم والناشر والمحرر، وكل دار نشر لها عادات وتقاليد خاصة للغلاف وشكله، وتقاليد للكتابة على الغلاف الخلفي، لناقد أو لناشر؛ بمعنى أن المصمم لا يعمل بمفرده، لكنه جزءٌ من منظومة عمل الدار في نهاية الأمر، لأن دار النشر تتكون من ناشر ومصمم أغلفة، وموزع ومسوق ومدير مكتب صحافي، كل هؤلاء معاً يشكلون الخطاب الفني والثقافي للدار.

يلفت الناصري أن “المصمم يفترض أن يفكر بكل شيء: الجمهور المستهدف بالكتاب، النظرة الأولى للمتلقي سواء كان بعيداً عن الغلاف أو قريباً منه، الطريقة التي تجذب الجمهور للغلاف”.

بالإضافة إلى أن مصمم الدار يجب أن يلاحظ أغلفة دار النشر كلها معاً، وطريقة عرضها في المكتبات أو على مواقع الإنترنت، أو معارض الكتب، ولا يجب التعامل مع كل غلاف بشكل فردي. ويضيف إنه “بشكل شخصي، كلما صمم غلافاً جديداً، يضعه بداخل لوحة كبيرة يحتفظ بها على اللاب توب تضم أغلفة المتوسط كلها معاً، واختياره لألوان كل غلاف يكون على أساس علاقة الغلاف بالأغلفة مجمعة”. ويرى إنه لا توجد قاعدة ثابتة، لكن التعويل الأساسي على الجمال. أن يصنع غلاف يحكي ويفكر مع القارئ ويجذبه بطريقة ما. وبجانب الجمال، يوجد الخطاب والفكرة، والعنوان الذي يلعب دوراً كبيراً، بجانب جمال الغلاف. ويرى الناصري أن المشكلة الأكبر في العالم العربي، هي عدم وجود مصممين محترفين، وأغلبهم منسقو أغلفة. أما المصمم الجيد المحترف يكون قادراً على إنتاج كتاب كامل بتفاصيل صغيرة جميلة وغلاف جميل وفكرة تصميمية مبتكرة.

الفنانة ومصممة الأغلفة المصرية هند سمير تقول أن “التصميم في تعريفه البسيط هو خطة بصرية يمكن استخدامها لإنجاز فكرة ما. والتصميم الغرافيكي واحد من أهم فنون الاتصال البصري، الذي بدوره يتكون من رسوم وصور وعلامات ورموز وأيقونات، وغيرها من مفردات اللغة البصرية”. لذا من الضروري أن يكون المصمم الغرافيكي ملماً بمفردات تلك اللغة البصرية. وترى سمير إنه بالرغم من أن فنون الاتصال البصري هى بالأساس فنون جماهيرية، تخاطب المتلقي من خلال الحواس، وتجد الحلول والمُدخلات دائمًا، إلا أن التعامل مع الغلاف (كمنتج جماهيري) فقط لا يخدم الغلاف، لكن الاستناد على الأسس الغرافيكية وتطويع مفردات الاتصال البصري، يُضيف للمتن صاحب الغلاف في كثير من الأحيان.

المتن بالنسبة لسمير كمصممة أغلفة هو السند والمرجع، وفكرة الكتاب ومضمونه بوجه عام هي أساس الاستناد فى تصميم الغلاف. عادة ما يكون العنوان غامضًا، أو لا يُشير إلى شيء مُحدد بعينهِ، مثلًا اسم علم أو اسم مكان، فلا يُظهِر للمتلقي أي انطباعات أو إحالات. وقد يكون العنوان فاضحًا تماما للمتن، وهنا يُمثل الغلاف عنصر الجذب ويعمد إلى تشويق المتلقى، لأن الاعتماد على العنوان فقط و(ترجمته) تصويريًا هو فقرٌ تصميمي، ولا يخدُم الكتاب في كثيرٍ من الأحيان.

ترى سمير أن الكتاب حالياً يخضع لقوانين السوق، فهو من الصناعات الحيوية. ساعد في ذلك ازدياد دور النشر، والتنافس على الجوائز الأدبية التي تمنحها الجهات المختلفة، والاهتمام بمعارض الكتب الدولية في الوطن العربي. والانفتاح الأوسع على كثيرٍ من الثقافات الأجنبية التي نرى فيها الاهتمام بالكتاب والاحتفاء به. ومن ثم تسعى دور النشر لبسط هوية بصرية تُميز مطبوعاتها. تتداخل عدة عوامل في بسط تلك الهوية البصرية المنشودة. منها وأهمها هو وضوحِ رؤية دار النشر وتوضيح توجهها، ومعرفة جمهور المتلقين التى تناشدهم بإصدراتها.

تضيف سمير، صحيح أن الكتاب في حد ذاته يصلُح لكلِ مكان وزمان، لكنه منتجٌ في إطارٍ معين وفقَ محدداتٍ بعينها. كذلك فإن اعتماد مصمم محترف يقوم بعمل معظم الأغلفة لدار النشر، خاصة في بداياتها لتأسيس نمط تصميمي؛ يتصف بالثبات إلى حدٍ ما، ويتصف بالوضوحِ والجاذبيةِ أيضًا، يُعد من عواملِ ترسيخ الهوية البصرية للدار، لذلك على المصمم أن يضعَ نُصبَ عينيه عدة أهداف يطمح إلى تحقيقها في غلاف الكتاب، أهمها فهم مضمون الكتاب وتقديم نصٍ بصري موازٍ للمتن وليس ترجمةً حرفية للعنوان أو لأحد مواضيع المتن، ولكن شخصية الكتاب ككل، واعتبار الغلاف هو النص البصري للمتن. وهنا تظهر عين المصمم التي تلتقط المفردات الموحية المميزة فى النص، واستخدام أدواته التصميمية وتطويعها (من رسوم ولوحات تشكيلية وخط كتابي وكتل لونية وغيرها) ليظهر الغلاف بشخصية الكِتاب، بالإضافة إلى جذب القارئ من النظرة الأولى.

من وجهة نظر سمير يعد الغلاف هو الصورة التسويقية الوحيدة والحاسمة التي يملكُها الكِتاب، ووفقًا لدراسة أُعدت عن المصمم والتفكير البصري وتوظيف المفردات فإن “القارئ الذي يبحث بين رفوف الكُتب لا يختلف كثيرًا عمن يقف أمام التلفاز ويشاهد سلسلة من الإعلانات التجارية، كلها تحاول شد اهتمامه. إلا أن غلاف الكِتاب لا يملك 30 ثانية مثل الإعلان التجاري، بل 5 ثوان أو أقل لشرح محتوى الكِتاب وإقناع القارئ”، وهذا ما يجعل تصميم الغلاف أكثر تعقيدًا مما نظن.

يؤكد المصمم العراقي ستار نعمة على أن مصمم الأغلفة يجب أن يكون بمعرفة كبيرة بفن التصميم الغرافيكي لأنه بحاجة إلى التقنية، وإلا أصبح التصميم فقيراً، ولا يمكن إغفال أن الغلاف صورة بصرية تقترب كثيراً من الفن التشكيلي إلا إنه منتج إعلاني وظيفي، يؤدي غرضاً ترويجياً، لذا يرى إن مصمم الغلاف يحتاج أن يكون فناناً بصرياً وتقني غرافيك بنفس الوقت.

أما عن أيهما أكثر أهمية أثناء التصميم: المحتوى أم عنوان الكتاب، يقول نعمة قد يكون التعامل مع العنوان كمعطى، مهماً جداً أثناء التصميم لأن التصميم هو العتبة البصرية الأولى للتعامل مع الكتاب مثلما العنوان هو العتبة اللغوية الأولى، لكن قراءة الكتاب والاطلاع على محتواه يزيد من كم الإشارات والعناصر التي تتاح للمصمّم لكي يبدأ عمله.

يتحدث نعمة عن أهمية صنع هوية بصرية لكل دار نشر، وليس لكل كتاب بشكل منفصل، قائلاً إنه هناك دور نشر متخصصة بالأدب مثلاً ولها مصممها الخاص وقد يكون من السهل خلق هوية بصرية لمنشوراتها لأن جنس النشر واحد تقريباً والمصمم واحد، هنا يمكن تكرار بعض العناصر التي تعطي طابعاً خاصاً لكل منشورات الدار، وبنفس الوقت يجب إبراز الهوية الخاصة لكل كتاب. يضيف نعمة إنه لا يمكن التغاضي عن خصوصية كل عمل، المشكلة تبرز في دور النشر التي تتوزع منشوراتها بين البحوث والأدب والعلوم وكتب الأطفال، وهنا يصبح المصمم بحاجة إلى توحيد أحد عناصر تصميم الغلاف المحايدة، مثل شكل وضع الشعار أو الإنشاء البصري مثلاً.

عند التحدث عن أهمية النص بالمقارنة بمواءمات السوق الذي يتعامل مع الغلاف باعتباره فناً يحمل مسحة دعائية، يقول نعمة إن المصمم لديه شروط يتعامل معها، منها النص أو الموضوع الذي يجب أن يأخذ حيزا كبيرا من نظرة المصمم ورؤيته للتصميم كما أن عملية الترويج البصري للكتاب مهمة أيضاً. في النهاية التصميم الناجح هو مابين هذا وذاك، مع الاهتمام بالإشارات البصرية التي تحيل الى جنس الكتاب أثناء تصميم الغلاف، لتسهيل مهمة القارئ في الاقتناء ولتوحيد المدلول البصري على نوعية ما يحمله الكتاب، ويبدو أن دور النشر العربية بدأت تنتبه لذلك، لذا يشهد العالم العربي حالة من الارتقاء بفن تصميم الغلاف، حتى وان كانت بطيئة، وهذا ما لاحظه في زيارته لمعرض بغداد الدولي للكتاب.

عن أهمية الغلاف في دفع القارئ لاقتناء كتاب لا يعرف كاتبه من قبل، يقول نعمة إن دفع القارئ إلى اقتناء كتاب قد لا يجد فيه ضالته، (إذا اعتبرنا أن هذه غاية بريئة) تتعلق بالتسويق والترويج، لأنه في النهاية لا يمكننا الترفع على أن الكتاب هو مشروع تجاري، إضافة إلى كونه مشروعا معرفيا ثقافيا، لذا قد يلجأ المصمم الى تجنيد مخزونه الإبداعي والترويجي بعلامات وألوان مثيرة للبصر، تداعب المخيلة وإلى إنشاءٍ هارمونيٍ عالٍ، وهنا تكمن عملية طرح الغلاف كتعبير بصري جيد عن مضمون الكتاب والترويج له.

عزيز أزغاي الشاعر والفنان التشكيلي المغربي يتحدث إلى “ضفة ثالثة” عن أهمية الإلمام بالتصميم الغرافيكي، ويعتبره مسألة ضرورية بالنسبة للمشتغل في قطاع التصميم والنشر، على اعتبار أنه تدخل في صلب شغله اليومي. ولا تكفي هذه المعرفة الأولية بأبجديات التصميم وضوابطه بالنسبة للغرافيكي المحترف، بل تتطلب، عطفاً على ذلك، موهبة ومعرفة بصرية تتكون وتتطور بالمشاهدة المستمرة والمواكبة الذكية لما ينشر في مجال تخصصه، وإلا بات سجين معرفته الأولية البسيطة في التعامل مع لوحة المفاتيح. ويرى أزغاي إن هذا المجهود الإضافي، الذي يدخل في إطار التكوين المستمر، هو الذي يصنع الفارق بين مصمم وآخر.

يضيف أزغاي إنه في المقابل، قد نجد نوعاً آخر من المصممين/الفنانين ممن لا يتقنون التعامل المباشر مع الآلة، أي مع الآليات المخصصة للتصميم على الكومبيوتر، وبالتالي يلجأون لخبرة العارف بهذه الآليات، الذي يعتبر مجرد منفذ تقني للتصميم الذي يقترحه الفنان.

أما مسألة صناعة الغلاف، فينبغي لها أن تحتكم لعدد من العناصر الضرورية لخلق الفارق، ويبقى أهمها العمل على إثارة انتباه المتلقي، انطلاقاً من المفردات الجمالية التي يلجأ إليها المصمم. ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، التحكم في فضاء الغلاف، واختيار العناصر الشكلية الكفيلة بإضافة مثيرات جمالية فنية على التصميم، لذا لا يعتقد أزغاي بوجود قانون صارم ينبغي اتباعه في وضع أي تصور للأغلفة، سوى ذكاء المصمم ونظرته المخصوصة لطريقة وضع التصاميم. ومن هنا، قد يلجأ المصمم أو الفنان أحياناً إلى توظيف لوحة صباغية أو فوتوغرافية، قد تغطي مجمل مساحة الغلاف، كما قد تستثمر في جزء يسير منه فقط، سواء في أعلى الصفحة أو وسطها أو في أسفلها، ما يخلق تناغماً مع باقي مكونات وعناصر الغلاف الأخرى: كعنوان الكتاب وجنسه واسم مؤلفه، ودار النشر وعلامتها البصرية، على أن التصور الذي يبقى متحكماً في مجمل هذه المراحل ينبغي أن يستحضر عنصري الإغراء والإثارة الإيجابية، المستندة على خلفية بصرية جمالية منضبطة ومصمم قادر على التحكم في الخلفيات والدوافع الفنية.

يتحدث أزغاي عن تجربته الشخصية أثناء التفكير في تصميم الغلاف، ويقول إنه يميل أكثر إلى ذائقته الفنية والجمالية الخاصة، ويفضل التعامل مع الغلاف كمنتج مستقل عن محتوى الكتاب أوعنوانه، وهذا التصور يحتكم إلى الغاية التي ينطلق منها لوضع تصوراته التصميمية. يتساءل أزغاي “ما طبيعة اللمسة البصرية التي يمكن أن أضيفها إلى أي كتاب إذا ما بقيت ملتصقاً بموضوعه؟” أي حينما يقتصر دوره على مجرد تحويل خطابه اللغوي إلى خطاب أيقوني مواز فقط. يعتقد أزغاي بالمخالفة للفكرة المتداولة، إن إضافته في هذه الحالة ستكون بسيطة وربما ساذجة. لذا هو يحاول من خلال الغلاف تقديم نص آخر مواز للكتاب، رؤية بصرية متقنة، وتمثل عنصر إغراء للقارئ من أجل اقتناء الكتاب.

يؤكد أزغاي على ضرورة سعي المصمم العربي الحديث لخلق ثقافة بصرية جديدة وإشاعتها وتخليقها وترسيخها في عين القارئ العربي وفي ذاكرته. ويراها كمهمة نضالية، قد تثير لدى البعض إشكالية العلاقة بين محتوى الكتاب وتصميمه الجمالي، لا سيما أن بعض الدراسات النقدية تنطلق في قراءتها وتحليلها لبعض المؤلفات الإبداعية، من مؤشراتها وعتباتها الخارجية، أي نوعية الخطوط، وصورة الغلاف والتوزيع الفضائي وما إلى ذلك. وهو ما يعتقد أنه رصدٌ تقليديٌّ تم تجاوزه في المتطلبات الجمالية الصرفة، وحتى المتطلبات التجارية، التي ينبغي أن تتحقق في الغلاف.

يدلل أزغاي على فكرته قائلاً إن أكبر دور النشر لا تُضمن أغلفتها أي خطاب أيقوني، وتكتفي فقط باسم الكاتب وعنوان الكتاب وجنسه ودار النشر مع ترك البقية لسلطة الفراغ، ويسوق دار النشر الفرنسية الشهيرة غاليمار( Gallimard) كمثال على ذلك.

أما عن كيفية صنع هوية بصرية لكل دار نشر، وليس لكل كتاب بشكل منفصل، يقول أزغاي إن هذا الأمر متروك في جانب أساسي منه لدور النشر نفسها. ويتساءل هل تملك دور النشر العربية تصوراً تصميمياً يحتكم إلى طموح واع بضرورة الإسهام في خلق تميز مطلوب في إنتاج الكتاب أم لا؟ يلاحظ أزغاي أن بعض دور النشر العربية المكرسة باتت مطمئنة لما يحكم تعاملها مع الكتاب صناعةً وإخراجاً، لكونها لا ترى في هذا الجانب الجمالي أية فائدة مرجوة، مادام سيستنزف من ماليتها نصيباً يذهب إلى جيب المصمم الحداثي المحترف. لذا يعتقد أن الأمر مادي بالدرجة الأولى، مع أهمية خلخلة تلك الثقة والاطمئنان السلفي الجامد في التعامل مع عنصري الجمال والفن في صناعة الكتاب وتسويقه، والعمل على إيصاله إلى أقصى جغرافية ممكنة.

الإشكالية الأخرى من وجهة نظر أزغاي هي أن أغلب دور النشر العربية، على الأقل القديم منها، لم تختر لنفسها هوية بصرية ثابتة، ولم تسع يوماً إلى ذلك، وهذا الوضع غير الحرفي يفقد هذه الدور عنصراً مهماً وهو التغلغل والاستقرار في لا شعور المتلقي، بما يضمن التعرف على هوية الدار بمجرد النظرة الأولى، بالإضافة إلى أن هذا العطب يكرس نوعاً من الاستهجان البصري نتيجة عدم الاستقرار على شكل وحجم طباعي معين. لذا يعد الحرص على تخصيص تصميم عام موحد لكل جنس أدبي على حدة، مع بعض الاختلافات البسيطة، هو المكون الأهم للهوية البصرية التي تميز ديواناً عن آخر أو رواية عن أخرى أو كتابا فكريا عن كتاب آخر من نفس التصنيف، وقد تكون هذه اللمسات التمييزية داخل نفس الصنف إما في شكل لون مختلف يحمله شريط الكتاب الذي يصل واجهة الغلاف بظهره، أو كتابة معلومات الكتاب التي تكون في نفس الشريط بلون مختلف وهكذا. يرى أزغاي أن هذه الصيغة تكرس في عين القارئ شكلا وحجما معينين يحيلان إلى جنس الكتاب، كما يحيلان إلى دار النشر في الوقت نفسه، مع ضرورة عدم محاصرة المصمم أو الفنان بعدد من الاشتراطات التي تكبح موهبته، لكي يصبح التصميم نصا إضافيا يسترعي انتباه القارئ ويستثير فضوله قبل تصفح الكتاب وقراءة فهرسه.

الفنان والمصمم العراقي صدام جميلي يتفق مع الآراء السابقة بضرورة المعرفة العلمية لفنون التصميم الغرافيكي فيما يخص القيم الجمالية للعمل الفني وليس التقنيات، يرى أن التقنيات شرط أساسي بالطبع، لكن فهم التصميم الغرافيكي هو سر نجاح كل عمل تصميمي، من ناحية معرفة عناصر العمل الفني التصميمي، وقيم التوازن والانسجام والتضاد واختيار الصورة، وقيمة كل عنصر بالنسبة للعناصر الأخرى؛ لأن المعرفة البصرية تتكون بسبب الخبرة والعمل المستمر، وتطوير المهارات الجمالية، ومتابعة كل ما هو جديد في عالم الأغلفة والتصميم.

عن أيهما أكثر أهمية أثناء تصميم الغلاف، المحتوى أم عنوان الكتاب، يقول جميلي إن لكل منهما أهمية وفقاً لما يمنحه من قيمة تخيلية للصورة التي يكون عليها الغلاف. فما يمنح التصميم شكلاً أفضل هو ما يجب أن يتبعه المصمم. أحياناً يمنح العنوان فكرة عميقة فيما يشتت المحتوى تصور المصمم ويجعله يفكر بشكل تقريري في تصميم الغلاف. لذا يعتمد الأمر في النهاية على ذكاء المصمم وقدرته على اختيار وتتبع التصميم والفكرة الأولية له.

يقول جميلي إن صناعة هوية بصرية لكل دار نشر ولكل كتاب مشروطة ببنية أساسية للغلاف بشكل عام عبر ثوابت تصميمية تجري بداخلها التنويعات الخاصة بكل غلاف. فلا يمكن توفير هوية للدار بغياب الثوابت التصميمة مثل الشكل العام للغلاف. على سبيل المثال، أن يكون الجزء العلوي للكتابة أو استخدام نوع معين من الصور الفوتوغرافية مع ثبات مواقع العناصر، وتثبيت عناصر شكلية لا تتغير مثل شكل هندسي، أو أيقونة في مكان ما. ومن هنا يتم التعرف على هوية الدار من تلك العناصر الثابتة.

يعتقد جميلي أن واحدة من المشكلات التي تتعلق بتصميم الغلاف، والذي يفقده هويته، هو تدخل أمزجة متعددة في عمل المصمم، كصاحب الدار والكاتب ما يجعل الأغلفة ذات روح متغيرة وبدون خطة بصرية لأغلب دور النشر، لذا على المصمم أن يفكر أولاً بفرادة الغلاف وجمالياته الخاصة، بالرغم من محدودية الحرية في التصميم بشكل عام، لكن المصمم المحترف يعتمد الجرأة والاختلاف ليدفع القارئ نحو الكتاب، خاصة عندما تكون بنية الغلاف بنية مفارقة للعنوان، ما يساهم في حيوية الغلاف وجاذبيته، ويجعل القارئ يحاول فهم الكتاب والإمساك بمحتواه.

المقال على موقع نقطة ضوء

نقطة ضوء موقع ثقافي عربي شعاره ( ثقافة، فن، أدب، ابداع ) انطلق من القاهرة، عام 2005 وأعيد اطلاقه في ثوب جديد في يناير 2016. يؤمن محررو الموقع أن الحياة تبدأ بنقطة.. تبدأ بحركة.. والحركة تسبب موجة، وتلك الموجة في تكسرها يصدر عنها موجات عاكسة للضوء، تحمل أشعة وكل شعاع يختلف عن الآخر في انعكاسه... لقراءة المزيد.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)