سينما

أرق - فيلم تسجيلي للمخرجة اللبنانية ديالا قشمر 2013 ـــ 110 دقائق

, بقلم محمد بكري


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٢٥٩ الإثنين ٣١ آذار/ مارس ٢٠١٤
جريدة الأخبار
ادب وفنون


ديالا قشمر : “قبضايات” حيّ اللجا... حرّاس الوقت الضائع


درس تقدّمه المخرجة اللبنانية لكلّ مَن يرغب في صناعة سينما تسجيلية ذات عمق اجتماعي حقيقي. فيلمها «أرق» يدخلنا في عالم متشعب يفيض بالتناقضات، يعرّي الأفكار النمطية المسبقة التي التصقت بـ«زعران» حي اللجا البيروتي، ويغوص في يومياتهم وأحاديثهم، مهشّماً صورة القبضايات التي يروّجونها عن أنفسهم.


فريد قمر


ديالا قشمر (1979) احفظوا جيداً هذا الاسم. هذه المخرجة الشابة لا تخاف ولا تهادن ولا تستسلم. عندما تقرر أن تصنع شريطاً وثائقياً يحمل في موضوعه كل احتمالات الفشل واليأس، تضع النجاح وحده نصب عينيها. تأخذ نفساً عميقاً وتمضي لتصنع تحفتها التسجيلية التي ستغدو مرجعاً لكل المغامرين الجديين الساعين إلى الاحتراف. «أرق» (2013 ـــ 110 دقائق) الذي عُرض ضمن مهرجان «شاشات الواقع» في «متروبوليس أمبير صوفيل»، ليس عملاً عادياً، بل هو بصمة ترسخت في الذاكرة السينمائية العربية.

في حي متفرع من شارع مار الياس، تقطن عشرات العائلات المهجرة من جنوب لبنان.

مواطنون رفعوا لواء الشمعونية ذات حقبة، وتمرّدوا على الإقطاع الأسعدي ذات يوم. كل ذلك قبل أن تجرفهم موجة «المحرومين» لتجعلهم وقودها، وتحوّل أحفاد قباضايات حي اللجا إلى قباضايات من نوع جديد، يخشاهم الأوادم ويسمهم كثيرون بصفة «الزعران»، فيما لا تراهم القوى الأمنية أكثر من مهمّشين خارجين على القانون. احترفوا الممنوعات نمط عيش واتخذوا من التعصب الطائفي دافعاً للبقاء، فيما اكتشفت فيهم قشمر أناساً طيبين ضعفاء، على عكس ما يروّجون لأنفسهم. إنهم ببساطة بضعة من شباب حي اللجا، أو حرّاس الوقت الضائع كما سمّاهم الشريط في نسخته الإنكليزية.

تدخلنا المخرجة في عالم متشعب يفيض بالتناقضات والتحديات، تقتحم يومياتهم وسهراتهم. تدخل حيواتهم رغم ممانعتهم الأولى. تصوّرهم على حقيقتهم. تحتال على ممانعتهم بنَفَسها الطويل ليمتد الشريط على حقبة زمنية تستمر أشهراً عدة، فيُسقط المجال الزمني كل الخطوط الحمر، وتكون النتيجة عملاً صادقاً يشكل مرآة للواقع.

تتقمص لغتهم. تناديهم بأسمائهم المستعارة من «التريبتي» الى «السنفور» و«المظلوم»... تتحدث معهم عن بطولاتهم اليومية في صناعة المشاكل والإدمان على المخدرات والحبوب الممنوعة، الى علاقتهم مع القوى الأمنية التي تطاردهم. وكل ذلك ضمن إطار سينمائي ذي لغة جذابة للغاية. تترك للعدسة أن تلهو بالزمن، وتتعمد اللقطات الطويلة لأحاديثهم الجانبية. للوهلة الأولى، تبدو هذه الأحاديث بلا قيمة حقيقية، لنكتشف أنّ أهم الأحداث تتكشف في لحظات الصمت المطولة، ويصبح نجوم العمل عراة بواقعهم أمام الجمهور. ولعل هذه هي المغامرة الأكبر في العمل، فلا تخيفها المساحات المطولة ولا تبالي لقطع الخيط الرفيع بين المتعة والملل.

كثيرة هي الأسئلة التي تراود المشاهدين، حول أخلاقية العمل نفسه. قشمر سمحت لنفسها أن تتمادى في صنع أمل غير صحيح بمساعدة هؤلاء المهمشين. وعدتهم بأنّ العمل لن يبصر النور في لبنان بل سيقتصر عرضه على المهرجانات الدولية، لكنّها تتجاهل الوعد بعدما اطمأنت لتعاطف نجومها مع عملها. يطمئنها أحدهم بأنّه يتفهّم دوافعها السينمائية «متل ما نحنا منخبطا (نتعاطى الممنوعات)، هي تسردها على السينما». كلمات تخرج من أحد قبضايات حي اللجا، ويعطيها الضوء الأخضر لتتجاهل مخاوفهم الأولى.

العمل الذي قدم في إطار «شاشات الواقع» الذي يعرض سنوياً في بيروت، هو الأقرب الى الأهداف التي وضع المشروع من أجله. ليست هناك واقعية ممكنة تتخطى ما نشاهده في الشريط الذي يرجّح أن يطرح قريباً في الصالات اللبنانية. اللغة التي يسمعها الكثير من المشاهدين للمرة الأولى شعبية جداً. تظهر عباراتهم الشعبية والطائفية كما هي، مفرطةً في الواقعية، من دون «روتوش» أو تجميل، ومواقع التصوير كذلك. اختارت قشمر المقاهي الشعبية المنتشرة على زوايا الطرقات وبعض المنازل التي تشهد سهرات القبضايات. الواقعية أيضاً تنسحب على العلاقة بين المخرجة والمصوّر من جهة، وبين شبان حي اللجا من جهة أخرى. هي حاضرة بشخصها في العمل. وإذا كنا لا نراها، فنحن نسمع الأحاديث المباشرة بينها وبين الشبان، كأنّ الكاميرا غير حاضرة هنا، إنما هي مجرد لقاءات عفوية تتيح للمشاهدين التلصص عليها من خلال العدسة.

أما الحوارات المفتوحة، فهي تتضمن كل التقلبات التي استطاعت أن تحيكها المخرجة في علاقتها مع نجومها، بدءاً من التحفظ وسعي القبضايات إلى تسويق صورة نمطية عنهم وصولاً الى البوح المطلق بصراحة تامة وما يحويه ذلك من اعترافات قد تدين شخصيات العمل أمام المحاكم، وصولاً إلى اعترافاتهم بالذنب وبأنّهم المسؤولون الأساسيون عن كل ما يجري معهم. «أرق» الذي أنتجته الممثلة كارول عبود ونال جائزة لجنة التحكيم الخاصة في المهرجان العربي الوثائقي في «مهرجان دبي السينمائي» الأخير، هو عمل لا يستحق المتابعة فحسب، بل يستحقّ أن يكون أنموذجاً للتعلّم لكلّ من يرغب في الغوص في سينما الواقع وفي الأفلام التسجيلية ذات العمق الاجتماعي الحقيقي.

اليوم، تغيّرت نظرة المشاهدين كليّاً إلى حي اللجا، ولهؤلاء الموسومين بصفة زعران. ومن لم يتعرف اليهم من قبل، لن يكون ضحية للإسقاطات الطبقية مرة أخرى.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية

 المقال في جريدة الأخبار اللبنانية بالـ pdf


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا


مشاهدة مقابلة مع ديالا قشمر تعرف فيها بالفيلم

صفحة الفيلم على فايسبوك

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)