أربعون عاماً في انتظار إيزابيل، سعيد خطيبي (الجزائر)، رواية منشورات ضفاف (لبنان) والاختلاف (الجزائر) - 2016

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الأحد، ١٠ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٧
جريدة الحياة
محمد برادة


«أربعون عاماً في انتظار إيزابيل» سيرةُ ثوريّ


في الرواية الأولى للكاتب المغربي سعيد خطيبي «أربعون عاماً في انتظار إيزابيل» (منشورات ضفاف وَ الاختلاف، 2016)، تطالعنا شخصية محورية تحمل اسم جوزيف رينشار، أو الحاج جوزيف كما ألِفَ الناس أن يدعوه بعد أن استقر في الجزائر وناضل في صفوف جيش التحرير، وأعلن إسلامه واختار العيش مع صديقه سليمان الذي تعرف إليه عندما كان يقود كتيبة خلال الحرب العالمية الثانية، وجاء ليعيش معه في البيت ذاته سنة 1951. وجوزيف نذر نفسه لمحاربة النازية في وطنه، ثم الاستعمار في الجزائر لأنه يراهن على القيم الإنسانية، ويمارس فن الرسم ويحلم بأن تتحقق الثورة في الجزائر، بعد أن فشلت في فرنسا... وينطلق نص الرواية بعد أن أمضى جوزيف أربعين سنة في مدينة بوسعادة رفقة صديقه الحميم سليمان، وقد أدركتْه الشيخوخة وتراكمت عناصر الخيبة والتشاؤم، بخاصة بعد أن تأكد صعود التيار الإسلامي المتطرف. لم يجد ما يتشبث به ليقاوم الشيخوخة وخيبة الأمل سوى ممارسة الرسم والتفاعل مع كتابات إيزابيل إيبرهارت، تلك المستشرقة المسترجلة، التي دُفنتْ في بوسعادة وخلفت صفحات مثيرة يتكئ عليها في انتظار عودته هو وصديقه سليمان إلى بيته القديم بإحدى ضواحي باريس...

لكن ما يسترعي الانتباه في «أربعون سنة في انتظار إيزابيل» هو طريقة السرد وتعديد مستويات اللغة، ما أضفى على شكل النص نكهةً مميّزة تُولّد إيحاءاتٍ لوْلبيّة. وإذا كان النص ينطلق من «حاضر» يُحيلنا على قُرب رحيل جوزيف وسليمان عن الجزائر، فإن الصفحات الأخيرة من الرواية هي التي تكشف لنا سرّ كتابتها على هذا النحو وباللغة العربية، ذلك أن السارد الحاج جوزيف يحدثنا عن علاقته القديمة بوالدِ كاتب الرواية «سعيد خطيبي»، سي لخضر خطيبي، الذي تعرف إليه قبل موته وكان ابنه حينئذ طفلاً صغيراً، وقد سعى إلى التعرف إليه في باريس واتفق معه على أن يسلمه مخطوط سيرته هذه، لينقحها وينشرها... والعنصر الثاني الكامن وراء كتابة هذه الرواية /السيرة،هو أن جوزيف عثر على مخطوط للرحالة إيزابيل إيبرهارت (1877-1904) وجَدَ في صفحاته ما حرّضه على المقارنة بين مساريْن مُتباينيْن ودفعه إلى رسم لوحاتٍ «تُترجم» ما عبرتْ عنه في مذكراتها... على هذا النحو، تتخذ الرواية منحى أفقياً لا يتقيّد بالسرد الطولي، وإنما يلتقط مشاهد وذكرياتٍ ومحكيات تحاصِر ذاكرة جوزيف وهو يتأهبُ للعودة إلى بلاده فرنسا اتقاء لعدوانيةٍ دينية متطرّفة. يمكن القول إذن بأن الرواية تنطلق من لحظة الشعور بالهزيمة، لأن صفحاتها الأولى تصور جوزيف وقد وجد نفسه صفر اليديْن، فهو لم يجْنِ شيئاً بعد أن أسهم في تحرير بلاده من النازية، ثم خاب أمله في ثورةٍ رَاهَنَ عليها لتصحيح قيم التحرير والعدالة والأخوة. من هنا اتخذ بناء «أربعون عاماً في انتظار إيزابيل» شكلَ اعترافاتٍ يُفضي بها ثوريّ مُنهزم عبْرَ مشاهد ووقائع تستحضر المسار الذاتي بتفاصيله، وفي الآن نفسه تشير إلى خيبة العالم الثالث الذي انحرف عن طريق التغيير الثوري وغاصَ في حمأة التعصب الديني والاستبداد العسكري...لكن الأهم، في الرواية، هو شكل السرد الذي يحتفي بالتفاصيل ويُبرز وقائع وعلائق لها طابع ذاتي مرتبط بذاكرة السارد، قبل أن تأخذ طابعها التخييلي. وفي هذا المنحى، يمكن القول إن استحضار إيزابيل المغامرة الأسطورية، قد جعل المقارنة بينها وبين شخصية جوزيف عنصراً إضافياً في تجسيد الفروق واختلاف الطبائع...

الزمن، الفن والهزيمة

ابتعادُ رواية «أربعون عاماً في انتظار إيزابيل» من السرد الكلاسيكي، الخَطّي، هو ما يُضفي عليها حلة من الالتباس تُبْعِد الحاج جوزيف من نطاق الشخصية الروائية العادية وتنقلها إلى مستوى البطل الإشكالي الذي لم يعد يجد نفسه ماثلة في قيَم التبادل المُمعنة في ابتذال أهداف الثورة الجزائرية التي راهنَ عليها هو، الفرنسي الحالم بتجسيد أهداف ثورة 1789 على أرض الواقع. ولعلّ أهم عنصر في شكل الرواية ساعَدَ على تعميق البُعد المأسوي والإشكالي في تجربة الحاج جوزيف، هو عنصر «الوساطة» الذي تذرّع به الكاتب، إذ جعل نص الرواية يتحقق عبر رسم جوزيف لوحاتٍ يستوحيها من مذكرات إيزابيل إيبرهات، وعبْر كتابة أولية يسلمها لكاتبٍ يُطابق اسمُه اسمَ الكاتب سعيد خطيبي، ليتولى إعادة كتابتها وإعطاءها شكلها النهائي بما في ذلك ترتيب السرد وتنويع اللغة... بعبارة ثانية، أصبحت الرواية، في الشكل الذي وصلتنا عليه، تحتوي على مستوييْن للقبض على التجربة: مستوى فينومينولوجي ينقل الأحداث اليومية لحياة جوزيف وسليمان في مدينة بوسعادة، ومستوى تأملي، تخييلي، يصلنا عبْر تسريبِ ذكريات ماضي جوزيف، وعبْرَ استحضاره المتخيّل لمغامرات إيزابيل في سياق وزمن مُغايريْن: «كانت بنتاً مُسترجلة، تُضاجع الذكر والأنثى، لا تكتفي بجنس واحد. تلبس هويتيْن في جسد امرأة وتغيرهما وقتَ الحاجة. تعبر الشوارع والساحات في هيئة رجل، وتختلي بنفسها في بيت أو في ماخور، كامرأةٍ مُكتملة المفاتن. لستُ أجد لها شبهاً سوى في جارتنا لالة السعدية التي تتحول، في أي لحظة وبسهولة، من امرأة إلى رجل ومن رجل إلى امرأة...» (ص43).

في اعتقادي، أن هذا السرد عبْر «وساطة» عناصر أخرى مستمدة من الذاكرة والكتب واللوحات والأمثال الشعبية التي يتكلم سليمانُ من خلالها...، هو ما أتاح للرواية أن تنفتح على أسئلة تتعدّى رصد َحياة بطلٍ مُنهزم إلى تأمّلِ تجربته في مرآة العلاقة بالزمن والفنّ، بحثاً عن معنىً يعلو على ما هو كرونولوجي، عابِر: «الخسائر تكبُر وتنمو معي. خسائر جسيمة وأخرى صغيرة لأصدقاء وأحبّاء بعضهم هجرتُه، وبعضهم الآخر هجرني. صرتُ لا أحزن كثيراً مثلما كان يحصل معي في السابق. لكني أشعر بمرارة تسكنني كلما تذكرتُ وجوهاً جميلة مرّتْ في حياتي ثم اختفتْ. سليمان الذي لم يعرف في حياته صديقات، يقول لي: - اللي فات ماتْ». (ص 79).

وإذا أردنا أن ندفع التحليل إلى ما هو أبعد، يمكن القول بأن المقارنة المُتخللة للنصّ، بين حياة جوزيف وحياة إيزابيل إيبرهات، تضعنا أمام سؤال يقضّ مضجع جوزيف، وهو شعوره بضياع حياته الملتزمة بقيمٍ أخلاقية تراهِن على تغيير المجتمع، بينما «نجحتْ» إيزابيل التي اختارت المغامرة وتحقيق الذات الآن وليس غداً، مُستجيبة لنداء الفرد المُتحدّي للمؤسسات وللأخلاق السائدة...

إن الحاج جوزيف في رواية «أربعون عاماً في انتظار إيزابيل» يُحيلنا على نموذج البطل الذي يحترف الثورة ويُراهن على نجاحها في مكانٍ ما على وجه البسيطة، إن لم يكن في فرنسا ففي الجزائر. وبالفعل، نجد أن الخلفية التاريخية لكفاح الجزائر ضدّ الاستعمار الفرنسي الطويل الأمد، قد أفرزتْ نماذج بشرية مشابهة للحاج جوزيف في مجال الممارسة النضالية، وأيضا في روايات فرنسية أو عربية استوحت تلك الفترة من نضال شعب الجزائر. وعندما نتذكر المكانة التي احتلتها الجزائر بعد استقلالها، ضمن مسيرة شعوب العالم الثالث نحو التحرر وبناء مجتمع العدالة والتقدم، ندرك الشروط التي مهدتْ لظهور نموذج « الثوري المحترف» أو الدائم، باعتباره بطلاً مُناهضاً للممارسة الاستعمارية التي طبقتها دول أوروبية كانت من قبل مهداً لقيم التنوير وحقوق الإنسان...

على ضوء هذه الملاحظات، تبرز دلالة الخيبة والهزيمة في رواية «أربعون عاما في انتظار إيزابيل»، وكأنها تدق ناقوس نهاية أوهام «الثورة الدائمة» التي طالما داعبتْ أحلام الجيل الذي ينتمي إليه جيْلُ جوزيف وسليمان. تبددت الأحلام وعوضتها الوساوس والفسولة وعياءُ الشيخوخة: «لو عادت إيزابيل إلى بوسعادة اليوم لكتبتْ شيئاً مختلفاً، فهذه المدينة صارت ملكة صهباء مُنتهكة الشرف، تنام على حافة الوادي كي لا تنظر إلى نفسها ولا ينظر إليها المارّون. أشجار اللوز فيها يبستْ أوراقها وسُلب منها عطرها، وهي الآن تقف على بُعد أمتار قليلة من الهاوية، تخاف أن تستيقظ يوما وتجد نفسها مدينة ً مخصية بلا فحولة» (ص 89).

كثيرة هي الروايات العربية التي تستوحي سلسلة الهزائم التي تعيشها المجتمعات في الفضاء العربي منذ الاستقلالات الممهورة بدماء المقاومة، إلا أن رواية سعيد خطيبي تتدثر بتلك النكهة الخاصة التي أعطت للشكل طابعاً سردياً جاذباً وأفسحت لِلُغة الكلام حيّزاً أضفى على النصّ تضاريس تعبيرية إضافية جعلتْ من الهزيمة، في معناها العميق، أفقا يتهدّد الجميع لا فرق بين شمال وجنوب: « لقد هجرت بلدي ولم أعد أعرف عنه شيئاً، مثل إيزابيل التي لم تعرف شيئاً عن بلدها الأصلي روسيا. لستُ أعرف فعلاً ماذا يحصل وراء البحر، ولا كيف يعيش الناس، ولا سعر الخبز أو سِعر الكيلو غرام الواحد من البطاطا أو السُّكر. نسيتُ حتى شكل صوامع الكنائس ولَكَنات البشر في الشارع. أنا فرنسي بلا انتماء، ليس يربطني بوطني الأم سوى بطاقة هوية، ومن المؤكد أنْ لا أحد سيتعرف إليّ عندما سأعود» (ص 141).

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.



جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الخميس 05-01-2017
الصفحة : ثقافة
صلاح باديس


"أربعون عاماً في انتظار إيزابيل"… مرايا الجنوب


“أربعون عاماً قضيتها في الجنوب، وسنة جديدة بدأت الآن تلوّح لي، بمرارة، من الشمال”. هكذا نقرأ في الصفحات الأخيرة من رواية “أربعون عاماً في انتظار إيزابيل”(*) للكاتب سعيد خطيبي.

تبدأ الرواية في جوّ يُشبه اللّون الرملي الذي يحيط بصورة إيزابيل ايبرهارت على الغلاف، نحن في مدينة بوسعادة، أي خلف سلسلتين جبليتين من البحر المتوسط وعلى بعد بضع مئات الكيلومترات جنوبي العاصمة، بداية الصحراء. والزمن؟ نفهم أننا في سنة 1992، من قوله: “لم يبق من الوقت سوى ثلاثة عشر يوماً، قبل اجراء الدور الثاني من الانتخابات البرلمانية، التي تميل فيها الكفّة الى حزب”العدالة"، الذي فاز في الدور الأول قبل ثمانية أيام (...) هم –طبعا- لن يستثنوا بيتي من قائمة التأميمات ولن يولوا اهتماما للأربعين عاماً التي قضيتها بينهم". السنة التي مهّدت للعشرية السوداء في الجزائر. لكن من هو الراوي؟

جوزيف رينشار، أو يوسف بعدما دخل الاسلام وغيّر اسمه، رسّام وجندي فرنسي سابق شارك في الحرب الكبيرة، وبعدها حرب التحرير الجزائرية، واقفاً مع رفيقه سليمان ضد فرنسا، يعيش في مدينة بوسعادة منذ أربعين عاماً والآن هو على بعد أيامٍ من تركها مُكرهاً. أمّا إيزابيل، فهي إيزابيل ايبرهارت رحّالة من أصول روسية سويسرية، تختلف الروايات عن سبب مجيئها إلى الجزائر في بداية القرن العشرين وإلى منطقة المغرب عموماً. ولا علاقة لها بجوزيف سوى أنّها تاهت مثله في الجنوب، وقبله بعقود، حتى جرفها سيّل هائج ذات يوم من سنة 1904 قرب مدينة عين الصفراء.

لكن هنالك خيط آخر في الحكاية، المخطوط الذي وجده جوزيف عند موظف في البلدية، رزمة أوراق صفراء يُقال أنّها لإيزابيل، يوميات من ثمانية فصول يعمل جوزيف منذ سنوات طويلة، بعد أن راجع المخطوط وحرّره ووضع له النقاط والفواصل، على تحويله إلى لوحات. وهنا يجب الإشارة إلى صورة إيزابيل في النص، جسدٌ مُتعب في طريق التلاشي رسمه الكاتب لهذه المرأة. صورتها في الرواية تشبه “إسكتشات” الرسّامين، تلبس برنوساً كعادتها متنكّرة في زي شريف بدوي اسمه السي محمود، تتكئ على جدار زاوية، قلنسوتها مائلة على رأسها كشخص غريب أو قاتل مأجور في المدن القديمة، تهمس لأحدهم بشيء، أو تدخن وتشرب الأفنسين الذي يستنزف قوّتها.

سليمان اسم غريب ولا يخلو من دلالة في أجواء كهذه، فهو اسم الرجل الذي تزوجته إيزابيل، وهو اسم الرجل الذي تبنّاه الرسّام إيتيان ديني عند حلوله ببوسعادة، شخصية حقيقية أخرى مرّت في هذه المدينة، وسنرى جوزيف يتعرّض لها في سرده. أمّا سليمان في الرواية فهو رفيق جوزيف وصاحبه، الذي حمل معه السلاح في الحرب العالمية الثانية ثم عاد ليلتقيه سنة 1951 في بوسعادة، لينخرطا سوياً في حرب التحرير، ويعيشا سوياً بعد الاستقلال. سليمان الذي تُروى سيرته عبر جوزيف، مطروداً من قبيلته، يرافق جوزيف في حياته كظلّه ويعتمد عليه هذا الأخير في كل شيء. سليمان الذي نراه دائماً في فضاء داخلي، من خلال لعبة المرايا في السّرد، من خلال كلام جوزيف، نراه واقفاً في إطار بابٍ بين غرفتين، أو يأتي صوته من حجرة ثانية ليوقظ جوزيف النائم، مائلاً في جلسته على طرف السرير وظهره لهذا الأخير...

تقريباً ليس هنالك صورة كاملة لسليمان، يقف في مكان وسط بين العتمة والضوء، أو يُعاكس أقوال جوزيف وينقضها، كلّ جمله مقتضبة وحادّة ومتعجبة من كلام صاحبه “الرومي”، لكنّه أيضاً يمثّل بُعداً تلاشى –أو قارب- من الثقافة الشعبية الجزائرية. يقول عنه جوزيف إنه شبه أمّي، يعرف الحدّ الأدنى من العربية ويتكلّم ويكتبُ بالعامية! تأتي هذه الجملة لتعبّر عن ثقافة أهلية تلاشت في جزائر ما بعد الاستقلال، العامية هنا ليست أداة ايديولوجية في يدِ فريقين (أو أكثر) من المعرّبين والفرنكوفونيين، بالعكس هي هنا الامتداد الطبيعي لوسيلة تعبير شخص عادي، يقول ويخطّ ما يعرف، يفكّ الخط باللغة التي ينطق بها.

شيءٌ لاحظته بعيني عندما قرأت رسائل الرسّام الفرنسي نصر الدين دينيه في متحفه في بوسعادة، كان هذا المستشرق الذي أقام في الجزائر وإعتنق الاسلام يكتب رسائله بالعامية، واستغربت عندما قرأتُ خطّه الطفولي في آخر رسالة كتبها يوصي فيها بدفن “فريسته” في مقابر المسلمين. الفريسة هنا الجسد بلغة أهل تلك المنطقة، ويُمكننا أن نضع فتحة فوق حرف الفاء لتصير فَريسة ونسرحَ في تأويلات عديدة، ربما أهمّها أن الجسد فريسة الزمن. وبتأويلات كهذه تسقط مزاعم جوزيف الذي يردّ على سليمان الذي يطلب منه رسم حكاياته الشعبية بدل مخطوط المسترجلة إيزابيل: حكاياتك بدون ملح يا سليمان. نجد أنفسنا نصطف وراء سليمان، ونحن نضحك، عندما يقول له: الله يهديك.

يحاول جوزيف أن يشرح وجهة نظره عن ديني، يقول إنّه مستشرق والجهات الرسمية في الجزائر تذكره فقط لأنّه أسلم، ديني كان من الذين روّجوا للصورة الاكزوتيكية عن الصحراء، وكتابه عن راقصة أولاد نايل شيء مقزز وظالم بحق هذه القبيلة. يعود الى إيزابيل، يحاول أن يجد فيها صورته، أن يجد نفسه في صورتها، يشتركان في التيه هو يقول، لكنّه ليس بجسارتها حسب ما نقرأ، هو اختار العيش وسط الناس في منزل معروف وبدخل ثابت من عمله كـ"جندي سابق"، يحمي سليمان المطرود من قبيلته ويحتمي به، يحاول أن يرسم بجديّة أكثر وينهي عمله عن إيزابيل ليدفنه في حديقة البيت، يتعب، توجعه عيناه، يهلوس، يحكي عن سيارة رونو 4 التي قطع بها الطريق برّا من الجزائر الى مكة، ثم باعها، يسقط في إنشاءات طويلة وعريضة عن “المدينة الجاحدة والبائسة” الخ... وحول كل هذا، هنالك يوميات الانتظار، يوميات التذكّر والحديث عن العيش في مدينة من غير روح، يصف النّاس والأماكن والأبنية، يصف الأحداث الصغيرة والكبيرة بين البيوت والمساجد والمقاهي، القطة الولود التي عليه إطعامها، وقت لزج لا يمُر.

لكن في النهاية يعود خيط السّرد ليشتد، الأحداث السياسية تتوالى، رئيس يستقيل وآخر يُقتل، وبين هذا وذاك يحمل سليمان وجوزيف حقائبهم ويتركون البلد، يُدير جوزيف كل المرايا التي لعب بها طيلة حياته الى الجنوب، تواجه الصحراء وتعطي بظهرها الى الشمال، حيث يتجّه، قاصداً شقته المهجورة في فرنسا مردّداً جملة “نبقى بعض الوقت ونعود”. وهناك في شتاء باريس، في الغربة التي دُفع هذان الشيخان إليها دفعاً، تدور الحكاية حول نفسها لتبدأ من الأخير، يفرش جوزيف يومياته، يحرص على كتابتها وقراءتها لسليمان، يختنق من اللون الرمادي الذي يطغى على كل شيء وينتظر شخصاً اسمه سعيد خطيبي ليسلّمه الأوراق.

(*) صدرت عن منشورات الاختلاف – ضفاف...

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)