أدونيس ..عاشق غرناطة Adonis

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي



السنة السادسة والعشرون - العدد 7737 الثلاثاء 6 ايار (مايو) 2014 - 7 رجب 1435 هـ
جريدة القدس العربي
غرناطة – من محمّد محمّد الخطّابي، كاتب من المغرب


تحويل العالم إلى مكان أكثر أمنا وشاعرية


ذكريات وصدف الشّعر، والفكر، والكلمة، والحرف، والموسيقى، والسّماع جمعتني والشّاعر الكبير ‘أدونيس′ في مدينة غرناطة الفيحاء منذ أمد غير بعيد، فلمست فيه الإنسان البسيط، والشاعر الكبير، إنّه علي أحمد سعيد إسبر المعروف بـ’أدونيس′ الذي يستقي إسمه الموسيقي والشاعري الرنّان من أساطير الفنقييّن، الرّجل الذي يكاد ألاّ يرفع عينيه في محيّاك وهو يخاطبك، تواضعه الجمّ كان محطّ أنظار جميع من عرفوه، أوعايشوه عن قرب، هذا الشاعر المعنّى الذي يأخذك في هنيهة واحدة بحلو كلامه، وطلاوة لسانه، وجزالة ورقّة وعمق شعره، وخفّة ظلّه، إلى ضفاف دجلة، والفرات، والنّيل، ونهر العاصي، وبردا، وأبي رقراق ،وأمّ الرّبيع….

ويحلّق بك في الفضاءات الإبداعية اللاّزوردية الرّاقية عبرالأجواء الشّعرية الحالمة، من قريته وضيعته البعيدة في الزّمان والمكان ‘قصّابينّ’ بمحافظة اللّاذقية بموطنه الأصلي سوريّة الكسيرة، والحسيرة ،والأسيرة إلى مختلف عواصم العالم وبقاعه وأصقاعه، وأرباضه، إلى القاهرة، وبغداد، ودمشق، وبيروت، والقدس، وعمّان، ومجريط، وغرناطة والرّباط وسواها من مدن وحواضر بلاد الله الواسعة، وأخيرا باريس حيث حطّ الرّحال من طول تجوال وتنقال.

تحت ظلال غرناطة الحمراء

مدينة غرناطة الغرّاء، وقصورها الحمراء، وجنّة عريفها الخضراء، وأحيائها البشرات،والبيّازين، هام بها أدونيس هياما شديدا، هام بها حبّا وجوى، وهوى، وصبابة. قال الشاعر الكوري ‘ كيم كيدونغ’ ذات مرّة: ‘إن مدينة غرناطة قصيدة كبرى’، ويؤكّد ‘أدونيس′ من جهته وسواه من الشّعراء في الماضي والحاضر والآتي أنّ غرناطة هي مدينة الشّعر والأدب والإبداع بدون منازع، كلّ ركن من أركان هذه المدينة يبدو وكأنّه عالم سحري رومانتيكي حالم، حافل بالأساطير والخيال، يفوح بعطر الشعر، وعبق التاريخ، فقد كانت هناك دائما صلة وثقى، وآصرة لا إنفصام لها بين هذه المدينة وبين الشعر، وقصر الحمراء، وجنّة العريف، وحيّ البيّازين، وفيدريكوغارسيا لوركا من العلامات البارزة التي تؤكّد هذه الحقيقة، ناهيك عن ماضي المدينة الزّاهر إبّان الوجود الإسلامي بها، حيث إزدهرت مختلف أنواع العلوم والمعارف، وفنون القول والإبداع وفي مقدّمتها الشّعر والموسيقى، وها هي ذي جدران الحمراء تقف شامخة شاهدة على ذلك، إنّها تحفل بالعديد من القصائد الشّعرية الرقيقة، لإبن زمرك، وإبن الجيّاب، ولسان الدين ابن الخطيب، وابن سهل الإشبيلي وسواهم من الشّعراء الأندلسيّين المجيدين، الذين نقشت أشعارهم على جدران هذه المعلمة الحضارية والعمرانية الرائعة، أو علّقت كما كانت تعلّق قديما قصائد أصحاب المعلّقات أوالمذهّبات على الكعبة، وقصائد شعرائنا الأندلسيّين ما زالت موجودة إلى يومنا هذا ماثلة أمامنا، وأمام الفيض الهائل والكبيرمن الزوّار الذين يتقاطرون على ‘الحمراء’ كلّ يوم من كلّ صوب وحدب، من مختلف أصقاع العالم. وفي نفس المكان الذي اغتيل فيه الشاعر فيدريكوغارسيا لوركا، وكذا في منزله تنظم قراءات شعرية، وعروض موسيقية متتوالية على إمتداد الحول، تقديرا وتثمينا للشّعر ولعبقرية هذا الشاعر، ألم يكن هاجس الموت في شعره قويّا زخما؟ أليس هو القائل:

أصوات الموت دقّت
بالقرب من الوادي الكبير
أصوات قديمة طوّقت
صوت القرنفل الرجولي
و مات على جنب

القصيدة أسمى مراتب الإبداع

قال الشاعر أدونيس ذات مرّة في إحدى المهرجانات الشعرية التي جمعتنا في غرناطة الحمراء: لا السّياسة، ولا التجارة تعبّران عن هويّة شعب، الذي يعبّر تعبيرا حقيقيا عن هويّة شعب هو الخلق والإبداع،والقصيدة هي أسمى وسائل التعبير في مختلف الميادين، وهي أعلى مراتب الإبداع،. هناك أناس يكتفون بالنظر إلى العالم، وهناك أناس آخرون وهم الشعراء يذهبون إلى أبعد من ذلك، إنهم يحاولون الدخول في عقول القرّاء، ويعملون على . وينبغي على الشّاعر أن يكون شاهدا على ما هو حقيقي أومخادع، ومن ثم يأتي إهتمامه بالكائن البشرىّ. ويرى أدونيس أنّ الشّعر يتخطّى الكلمات ،وهو ضرب من ضروب الوجود، إنّ دور الشاعر هو الكفاح الدائم، ودعم الثورات الحقيقية. وقال إنّه لم يسهم بمفرده في تطوير الشعر العربي- كما ذهبت الشاعرة الإسبانية راكيل لانسيروس- بل كان هناك شعراء كبار كثيرون تعلّم منهم ،لقد رافقه شعراء آخرون قبله وبعده الذين أسهموا جميعا في تطوير الشّعر العربي الحديث. وقال: إنّ الشّعر بالنسبة له هو الحبّ، وهو أبعد من الكلمات والتعبير، وهويكتب ويقرض الشعر ليعيش أحسن، وليتفاهم أكثر، ويفهم الآخرين والعالم الذي نعيش فيه، وهولا يستطيع العيش بدون شعر. والخلق أوالإبداع عنده هوالتعبيرعن مختلف ميادين الأدب والشّعر والتشكيل والموسيقى، الإبداع هو التغيير وإعطاء صورة جديدة للعالم ،هو إعطاء صورة جديدة للكلمات، وقال ينبغي لنا تغيير العلاقات بين العالم وبين النصّ والشّعراء والإبداع في جميع الميادين، والقصيدة عنده ليست إنتاجا، التصنيع هو إنتاج، والإبداع هو الشّعر، والشّعر رحلة جوّانية للبحث عن صورة أكثر إنسانية للعالم الذي يحيط بنا.

أدونيس والغرب

وقال أدونيس: إنه هاجرعام 1956 من بلده سورية ،وهو يقيم في فرنسا منذ أوائل الثمانينات، وهو ضدّ الأيديوجيات التي تستأثر بالسّلطة،ولا تهتمّ بتغيير المجتمع، والسّلطة الحقيقية هي التي تغيّر المجتمع ومؤسّساته لتصبح أكثر عدالة وأكثر حريّة،وتحدّث عن فصل الدّين والدولة ،وأشار أنّ الإسلام عقيدة وثقافة، ولا ينبغي أن يستعمل لأهداف سياسية، وقال إنّه يتفهّم الحركات التي عرفها العالم العربي، وأنّ الشباب العربي قام بحركة رائعة، وعلى الرّغم من العراقيل، فإنّ هذا الشباب سيستمرّ في هذه الثورة . وقال ينبغي على الشّعراء والكتّاب أن يقفوا إلى جانب المقهورين، وضدّ التدخل الأجنبي والأمريكي على وجه الخصوص، وأنّ هذا التدخل لا يمكن أن يفضي سوي إلى مزيد من العنف. وضرب مثالا بالأوضاع المعاشة حاليا في بعض البلدان العربية، و إنه ينبغي لنا أن ننتظر حتى نرى ما ستؤول إليه الأوضاع في مصر وفي العالم العربي، وقال إنّ الغرب يتظاهرأنه يدافع عن حقوق الإنسان، وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يبدأ بسورية ،وهو لا يفعل شيئا، ولا يقول شيئا للدّفاع عن الحقوق المهضومة للشعب الفلسطيني الذي طرد من أرضه منذ أزيد من خمسين عاما،. والغرب لا يدافع عن حقوق الإنسان بقدر ما يدافع عن مصالحه الإستراتيجية وعن البترول والغاز والطاقة. وأدونيس معروف بدفاعه عن حريّة المرأة ،وهو يؤكّد أنّه لايمكن أن يكون هناك مجتمع حرّ بدون حريّة المرأة.

ويشعرأدونيس أن فيديريكو غارسيا لوركا والشّعراء الإسبان هم عرب، مثلما يشعر هو بأنّه شاعر إسباني، والشّعرفى منظوره يمحي ويزيل الحدود بيننا. ويروق لأدونيس الإستشهاد ب ‘التّوحيدي’ الذي كان يقول الصّديق هو الآخر، وهذا الآخر هو أنت نفسك، وهكذا يغدو الآخر عنصرا مكوّنا أو مؤسّسا للأنا. والشّعر هو الذي يلقّننا ذلك ويقودنا إليه.

حوض الموسّط.. ثراء وتنوّع

وعن دور الشّعر في المجتمع المعاصر يقول أدونيس: ‘الآن يبدو أنّه لم يعد للفلاسفة والعلماء ما يقولونه، ولكن الشّعراء نعم’ ويرى كذلك أنّ الشعر لا ينطوي على جانب علمي، ولهذا فقد لا يكون في مقدوره تغيير العالم، إلاّ أنّه يمكنه تغيير رؤية الإنسان حيال هذا العالم، ونوعية علاقاته مع الآخرين.

ويرى أنّ الرّوائيين ليس لهم أيّ تأثير كبير في المجتمع المعاصر، وفي هذا العالم، حتى وإن كان لهم قرّاء أكثر ممّا لدى الشّعراء، فإنّ الرّوائيين يمرّون في عقل أيّ إنسان بطريقة أفقيّة وسطحيّة وهم يؤثّرون في القرّاء المستهلكين، أمّا الشّعراء فيؤثّرون في القرّاء المبدعين، فسرد العالم- في منظوره- يعني نسخه، وإذا كنا ما نقوم به هو إستنساخ الحياة، فإننا لا نقوم بأيّ شئ حقيقي، فالفنّ والإبداع ينبغي لهما خلق طاقة منتجة، والشّعر يتميّز برؤيا خاصّة وشاعريّة للعالم.

وقال: إنّ علاقته بالشعر هي أكثر غنى وثراء الآن ممّا كانت عليه عندما بدأ ينظم الشعر،وهو دائم المطالبة بمزيد من الحوار والتفاهم المتبادل، ولديه الثقة الكاملة في الطاقات البشريّة المتوفّرة في حوض المتوسّط شريطة ألّا تظلّ حبيسة التجارة والعسكرة، وإذا كان يبدو للناس أنّ هناك ثقافة متوسّطية واحدة، فهذا ليس صحيحا، فالمتوسّط يقدّم لنا ثراء وتنوّعا رائعين، ولهذا ينبغي لنا أن نهتدي لإيجاد طريق التفاهم والحوار’.

ونحن جلوس، والشّفق الغرناطي الذي ليس له نظير يعلن إنصرام يوم، وإنسدال ستائر الليل الجميل في تؤدة وتأنّ ورفق وهدوء على جدران، وهضاب، ومرتفعات، وآكام قصرالحمراء، فإذا بصوت شاعري رخيم يسمع من بعيد، من وراء الأفق الأحمر القاني البعيد يترجّى الشمس المائلة نحو المغيب صادحا ‘يا شمس العشيّة، أمهل لا تغيبي بالله رفقا’، وفي تلك اللحظة أيضا، في مدينة السّحر، والعطر، والصّبا، والصّبابة والجمال رمقنا هيدب إبن سهل الإشبيلي الأندلسي يشرئبّ بعنقه، ويطلّ علينا من على أكمة الحمراء، ولسان حاله يقول مخاطبا أدونيس :

كيف خلاص القلب من شاعر
رقت معانيه عن النقد
يصغر نثر الدرّ من نثره
ونظمه جلّ عن العقد
وشعره الطائل في حسنه
طال على النابغة الجعدي.

من غرناطة..إلى رباط الفتح

بعد ذلك زار أدونيس المغرب، وجاب مختلف ربوعه، من أقصى شماله، إلى أقصى جنوبه، في عوالم سوس العالمة والشّاعرة، معانقا شجرة ‘ألأرغان’ الأسطورية ،سرّ وسحر الطبيعة الخلاّبة التي جادت بها ثرى هذا التّراب التّبر، أدونيس لم يخف إنبهاره وإعجابه بهذه الشجرة العجيبة المعطاء، التي تقدّم بسخاء للنّاس من كلّ الأعراق والأجناس الغذاء، والظلال،والجلال، والجمال، والبهاء، والإنبهار. فالمغرب بالنسبة لهذا الشاعر الحداثي المصداح يمثل: ‘الخلاصة الحضارية للّقاء بين الشرق العربي، والغرب الأوروبي’. جاء إحتفاء بالرباط كتراث إنساني، وفيها وبين جنباتها، وأسوارها،وأزقّتها، ودروبها، وأرباضها، وضواحيها صدح صوته بقصيد ‘الأربعين عاما’، ولسان حاله يقول في سرّه، وعلنه، وجهره مع الشاعر العربيّ القديم: وماذا يدّري الشعراء منيّ…. وقد جاوزت حدّ الأربعين …. !، أو بالأحرى يردّد مع زهيرابن أبي سلمى المزني مطلع قصيدته الميمية الذائعة الصّيت: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش…ثمانين حولا ألا أبا لك يسأم …أو يهمس مع شاعرآخر من بني جلدته وطينته القائل: إنّ الثمانين وقد بلّغتها….قد أحوجت سمعي إلى ترجمان .. !

عن موقع جريدة القدس العربي

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)