أداجيو، ابراهيم عبد المجيد (مصر)، رواية الدار المصرية اللبنانية للنشر - 2014

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


السنة الثامنة والعشرون العدد 8470 الجمعة 20 أيار (مايو) 2016 - 13 شعبان 1437هــ
جريدة القدس العربي
ثقافة
علي حسن الفواز ـ ناقد عراقي


«أداجيو» لإبراهيم عبد المجيد تدوّن زمن المراثي المصرية


أن يكتب إبراهيم عبد المجيد عن خراب الروح، فإنه يعني الكتابة عن خراب الأمكنة، تلك التي تخص وجودنا، وتخص ظاهراتية ما تمثله من إحالات للثقافي والنفسي.

هذا الخراب يتحول إلى فضاء للعلامات، يستدعي الكثير من الأفكار التي تخص الصراع الداخلي، والصراع من مظاهر العنف والقهر، بدءا من عنف السلطة إلى عنف التاريخ، وانتهاء بعنف المرض والموت..

رواية «أداجيو» للكاتب إبراهيم عبد المجيد الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية / القاهرة تضعنا أمام حدث واقعي، لكنه يتشظى إلى أحداث نفسية، وإلى صراعات تنطوي على تفجرات داخلية تحيل إلى الواقع والذات والتاريخ والمكان والذاكرة والوجود..

فكرة الحدث المهيمن تقوم على وحدات سردية متقابلة، تتمثلها الشيفرة الإيحائية لـ«أداجيو» الموسيقية، بوصفها نوعا من السينوغرافيا الإيحائية التي تُحيل إلى أجواء الرواية الحزينة، ويوميات شخصياتها الرئيسية والساندة، مثلما تتمثلها شيفرة المكان الباعثة على تخليق رؤاها السردية، فهو مكان للعزلة، والتطهير، الذي يُحيل أيضا إلى توصيف معين للحدث ولتلك الشخصيات، وللكشف عن الطبيعة الصراعية التي ستؤطر الثيمة الرئيسية للرواية، على مستوى علاقة سامر تاجر التحف ورجل الأعمال المعروف بزوجته ريم العازفة المميزة في الفرقة السيمفونية، أو على مستوى الصراع بين سامر وذاته، من خلال منولوجاته المسكونة بهواجس الاستعادة والوفاء والذاكرة..

لا تمتثل الرواية لتقديم توصيف عن شواهد تاريخية معينة، أو حتى لتوصيف سياسي مباشر، بقدر ما تنحاز أكثر لتقديم مرثاة وشجنٍ إنسانيٍ عميق، قد تخصّ أي إنسان يحسّ بآسى الفقد والخذلان، فهي تلامس وجع الروح والجسد، وتلامس ما يحيطه من تحولات مفارقة قد تكون المحنة الوجودية والسياسية بعض إرهاصاتها، فالشخصية الرئيسية تبدو مسكونة بهاجس تعبيري داخلي، أكثر من أيٍّ بُعدٍ سيميائي آخر، وحتى المكان الطبقي/العجمي يفقد الكثير من بريقه ليبدو متسقا مع محنة الشخصية، إذ هو مكان شاحب مهجور ومحاط بالمياه الجوفية المجارير، وبدوريات الشرطة، وهذا ما يجعل سياق الأحداث ينسج لمتنه الروائي إيقاعا سرديا يتناظر فيه الإيقاع البطيء للموسيقى الراثية، ومع إيقاع الشخصيات التي تتحرك ببطء هي الأخرى، وكأن التناظر ما بين الشخصيات والمكان والموسيقى يتحول إلى بناء مشهدي تتبدى من خلاله أزمة الشخصية وصراعها الداخلي، وكذلك أزمة المكان الذي تتقشر مظاهره الطبقية ليبدو عاريا، قلقا، مُهددا بالغرق الواقعي والغرق الرمزي، وحتى شيفرة الموت في نهاية الرواية تكشف هي الأخرى عن الموت الرمزي لنمط طبقي مصري معروف، وعن خطورة التهميش والتجريف اللذين باتا يطالان رمزية المكان المصري ويصنعان الكثير من مراثيه..

تبدو الرواية وكأنها (رواية شخصية) فهي تنهض على أنموذج البطلة (ريم)، وعلى علائق الأحداث كلها بحضور هذه البطلة أو غيابها، وحتى الراوي كلي العلم يعمد عبر تشييده أحداث الرواية إلى إعطاء هذه الشخصية بعدا سيميائيا، فهي صورة للشخصية المثقفة التي تواجه رحلة الموت، بما يجعل غيابها في هذه الرحلة إيقاظا للمضمر النفسي في شخصية البطل الآخر (سامر)، حيث تتحول هذه المسافة (الغياب- الموت) إلى مجال للاعتراف، وإلى مواجهة ملتبسة لمشاعر الإحباط بالفقد والغياب، عبر استعادة الكثير من الذكريات التي تجعل البطل وكأنه مروي له من الماضي، أو بما يجعله أكثر تماهيا مع لذة امتلاكها، واستعادة صورتها بوصفها مشاعر يشتبك فيها التطهير بالإشباع الرمزي «اقترب منها، ثم انحنى إليها وقبل جبينها الدافئ، لقد فعل ما أحب أن يفعله، خلع عنها جلبابها وما تحته، غير لها «البامبرز» الكبير وأحضر إناء فيه ماء دافئ وراح يمسح ما قد يكون علق بجسدها، عطر جسدها كله الذي صار يتهدل فيه الجلد حاملا اللحم القليل حول ذراعيها وساقيها ورأى نهديها يزدادان ضمورا، لكن أيضا يزدادان ترهلا ».

المكان الروائي له قصدية معينة، فهو يتناغم مع رغبة البطل في العزلة والخلوة بحبيبته الغائبة، مثلما هو الأقرب إلى المكان الحلمي الذي يحاول من خلال استعادة الخلوة بتلك الحبيبة الغائبة عن حضورها الجسدي، كما يضعنا هذا المكان المعزول الموحش أمام امتلاء داخلي للبطل، ولضجيج ما تتفجر به مشاعر رغبته، إذ يعمد الروائي عبر هذه الترسيمة إلى تفكيك رمزية المكان/ الملاذ، فهو يضع الفقد علامة لموت وجوده، مثلما يضع خيانته مع صديقته (غادة) علامة لتفكك تماسكه الداخلي، فرغم ما يبدو هذا الفعل استيهاما مع جسد حبيبته ريم «لم يعد يعرف أين هو بحق، كل هذا الألم خرج من جسده، في لحظة البداية كاد يتراجع كل شيء فيه، ففكر على الفور أن يتخيلها ريم». إلّا أنه يدرك أن جسد غادة ظل يوهبه إشباعا كان مؤجلا «لكنه تحدى نفسه ورآها هي غادة الجميلة بحق الشهية التي منع نفسه عنها سنوات».

هيمنة فكرة الموت في الرواية تتحول إلى بؤرة لموت وجودي، تتبدى علاماته من خلال ما يقدّمه الروائي من صور متعددة لهذا الموت، فهو شيفرة لرهاب العزلة، ولهجرة الناس عنه، مثلما يكتسب دلالته عبر غرق/ موت الأرض بالمياه الجوفية، وعبر موت أبناء الهداهد، فضلا عن كونه موتا للبطلة الرئيسية (ريم) وهذه الهيمنة تتحول إلى مخاض لتوليد سؤال فلسفي عن الموت، وعن علاقته بالمكان، وبالمعاني التي تخص حياة البطل وعلاقاته بالآخرين، والتي يضعنا الروائي من خلالها أمام تراجيديا متاهة عالمٍ يساكنه الرعب والخوف والموت، والإحساس بالفقد والضياع..

استهلال الرواية بسؤال سائق سيارة الإسعاف – «ألا يوجد هنا سكان»، يؤشر إلى زمن وجودي يغيب عنه الناس، فالتوصيف المكاني يتحول إلى توصيف زماني بدلالة الفقد والغياب، وبدلالة ما يؤشره المسعف بقوله- «ياه، واضح أن السكان طفشوا فعلا منذ زمان». هذا الاستهلال نجده في ختام الرواية أيضا حين يهرب الجميع من الفيلا/ الرمز المكاني للوجود- «انطلق يا عثمان لا تنتظر». وكأن قدر هروب الناس من المكان هو تعبير عن الموت، وأن انهيار الفيلا هو تمثل رمزي لغياب البطلة التي كانت تعيش زمنها الوجودي، إذ يتقابل الغياب مع مظاهر للموت والانهيار والهروب..

الزمن الدائري المحكوم بثنائية (الموت- الموت) يقابل الزمن السردي الذي هو الزمن الذي يرسم تشكلاته الراوي العليم، فتجليات هذا الزمن تتحايث مع أنا الراوي/ السارد، حيث تتكشف عبر تقصياته الكثير من عوالم شخصياته وأزماتها، تلك التي- رغم حضورها الشخصي- لا يمكن فصلها عن الزمن السياسي العام، فبقدر ما تتجوهر به الأحداث حول الزمن الشخصي للبطل- البطلة، إلّا أن تداخل هذا الزمن مع الزمن السياسي يبدو واضحا، وربما يمثل منظورا لتجلية بعض سرائره الصراعية، فالمكان المهجور هو تعبير عن تحول عميق له دلالته في مكان كان مترعا بالحياة، وله شيفراته الدالة على زمن للارستقراطية المصرية، والموت البطيء للبطلة/ المثقفة، ولعزلة البطل/ التاجر/ هو كناية عن عزلة الطبقة البرجوازية وانزوائها بعيد عن زمن التحولات العاصفة في مصر، وحتى هجرة البنت (نور) إلى الخارج لإكمال دراستها لا يمكن عزله عن هجرة الجيل الجديد الذي لم يجد في زمن الوقائع المصرية ملاذا للانشداد للحياة..

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد القدس العربي للمقال بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)