ترجمة خديجة قاسم وإخلاص القنانوة

أحوال الزواج في قرية فلسطينية، هيلما غرانكفست (فنلندا)، دراسة اجتماعية المركز العربي للأبحاث وسياسة الدراسات - 2015

, بقلم محمد بكري


 جريدة القدس العربي اللندنية


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الثامنة والعشرون العدد 8568 السبت 27 آب (أغسطس) 2016 - 24 ذو القعدة 1437هــ
محمد تركي الربيعو


الأنثروبولوجيا الجديدة حول فلسطين في بدايات القرن العشرين

أحوال الزواج في قرية «أرطاس»


كان للمرأة في تاريخ العرب دور كبير في حركة الغناء والأدب ومجالات مختلفة في المجتمع، وقد تركت لنا كتب التراث قدمت إلى فلسطين في منتصف العشرينيات من القرن الماضي، باحثة أنثروبولوجية هي هيلما غرانكفست (1890-1972). يومها، كان هدف قدومها استكمال بعض الأبحاث التي كانت تعنى بشكل أساسي بمسألة البحث عن نساء الأزمنة التوراتية في المجتمع الفلسطيني المعاصر، حيث اتضح لها أثناء عملها على تاريخ المرأة في العهد القديم التوراتي أنه لا يمكن الحصول على نتائج مرضية عن هؤلاء النساء، إذا ما اقتصر البحث على المناهج التوراتية في تناول الأرض المقدسة.

ولذلك بات يحدو الباحثة الأمل أن تتيح لها مراقبة الحياة والأحوال في الأراضي المقدسة المزيد من الفهم للمشكلات المتعلقة بالنساء، وبالتالي تقديم تصور آخر عنهن. وقد اختارت الباحثة يومها قرية «أرطاس» الواقعة إلى الجنوب من بيت لحم كعينة عن المجتمع الفلسطيني لتعميق دراساتها، بيد أنه وبعد فترة وجيزة من المقام في القرية، عزمت الباحثة على تغيير خطة عملها ومنهجها بالكامل. فبدأت تنأى بنفسها تدريجياً عن المناهج والرؤية التوراتية، كما أخذت تفند المبادئ الأساسية للاستشراق، من دون أن تنسلخ عن هذا المنهج انسلاخاً تاماً. وخلافا لزملائها، لم تعد تضفي منظوراً توراتياً على المجتمع الفلسطيني لمحاولة العثور على آثار للحياة في العهد القديم، كما أنها أخذت تبدي تأثراً كبيراً بملاحظات ومنهجية كل من الأنثروبولوجي البريطاني ادوارد ويسترماك (1862-1939)، والأنثروبولوجي البولندي برونسلاف مالينوفسكي. إذ يشير صاحب موسوعة «تاريخ الزواج»، إدوار ويسترمارك، في موضوع المنهج، إلى ملاحظة مفادها «أنه من المآخذ الشائعة على المنهج المقارن أن ينزع الظاهرة الثقافية من الكيان الكل التي هي جزء منه، وبذلك يصورها من منظور خاطئ»، ورغم أن ويسترمارك يرى الصوابية في الكثير من هذه الملاحظات والكثير من المغالاة أيضاً إلا أنه يؤيد فكرة الحاجة إلى دراسات أحادية لفئة محددة من الظواهر أو المؤسسات الاجتماعية، ضمن مجموعة معينة من القبائل التي تجمعها أواصر قربى، لا لشيء، إلا لأن الظواهر الاجتماعية ليست ظواهر معزولة، وإنما هي شديدة التأثر بالأحوال المحلية والبيئة المادية، والظروف المعيشية للناس تحت الدراسة، وعاداتهم، وخصائصهم الذهنية. ويكون أخذ هذه العوامل مجتمعة في الحسبان أيسر إذا ما اقتصرت دراسة أحوال الزواج في قرية على قوم أو مجموعة عرقية واحدة، عوضاً عن سعي الدراسة إلى الإحاطة بمؤسسة اجتماعية ما موجودة على امتداد العالم غير المتحضر كله.

ولعل ملاحظات ويسترمارك السابقة عبرت عنها غرانكفست في سياق دراستها لأحوال الزواج في قرية أرطاس عبر قولها «إذا ما رغب عالم الأنثروبولوجيا الميداني في إنجاز عمل مستفيض وموثوق، فمن الحكمة أن يحصر اهتمامه في منطقة محددة يمكنه أن يتطلع إلى الإحاطة بجميع جوانبها، ومن الممتع جداً أن نرى كيف ينعكس كل شيء في عالم مصغر، يمكن للمرء فيه أن يلاحظ كل التفاصيل الصغيرة، فلا يفقد الباحث توازنه وصلته بالواقع من خلال الأفكار التجريدية والتعميمات».

وتوضيحاً للرؤية المنهجية السابقة تقول الباحثة «إن الأدبيات المتوافرة عن فلسطين لا ترقى إلى المستوى المطلوب، فلدى قراءة عمل ككتاب جيمس فريزر «الفلكور في العهد القديم» حيث يتوقع القارئ تماماً أن يورد المؤلف شواهد من الأراضي المقدسة، إلا أن ما يلفت الانتباه أن الكاتب جمع مادة غزيرة من أدبيات العالم بكل عناية وإحاطة، لكنه لم يورد من فلسطين إلا النزر اليسير، ما يدل على شح الدراسات الأنثربولوجية عن هذه البلاد».

ولعل هذا الشح في الدراسات الأنثروبولوجية لا يعزى بحسب الباحثة إلى قلة الشواهد أو المادة، وإنما يعود في جانب كبير منه إلى أن هذه المادة لم تجمع وتدون حتى الآن، والسبب في ذلك أن جامعيها لم يتجنبوا خطرين: أولهما ذلك الذي يخص «الأراضي المقدسة» دون غيرها والذي تسميه بـ«الخطر التوراتي». فهؤلاء انجروا من دون تمحيص إلى القول بأن العادات والتقاليد والنظرة إلى الحياة الموجودة اليوم في فلسطين، تماثل تلك الواردة في الكتاب المقدس، ولا سيما في العهد القديم. ففي كثير من الأحيان، يجد المرء نفسه مفتوناً بفكرة بناء جسر بين الماضي والحاضر من خلال دمج الشواهد الحديثة بالمشاهد التوراتية، ولا مفر من الاعتراف بأن هذا التوافق بين القديم والحديث موجود، فالأرض والطبيعة تحققان ذلك، ولكن ينبغي للمرء أن يتذكر دائماً أن التراث مدار البحث هو تراث العرب المسلمين وليس تراث اليهود وهذه فترة زمنية لا يمكن تفنيدها بمجرد الاستناد إلى كتاب الشرق الذي لا يتغير.

أما الخطر الآخر الذي يتعرض له البحث في الفلكور الفلسطيني، فيتمثل – بحسب الباحثة – في التعميمات التي تطغى على وصف العادات والتقاليد، بما لا يتفق مع الفروق الكبيرة المتعلقة بالبلدان والناس التي يشار إليها على الدوام. إذ كان الكتّاب الأوائل قد جمعوا المعلومات من هنا وهناك، ثم لم يتورعوا عن تقديمها على أنها فلسطينية على وجه العموم. وبالطبع لا بد من وجود تشابه عظيم بل تطابق لكثير من العادات والتقاليد ووجهات النظر بين المناطق الفلسطينية المختلفة، ولكن ما دامت المقولة التي تتردد عن الاختلافات الكبيرة في العادات والتقاليد ووجهات النظر بين الناس في أماكن مختلفة من فلسطين تتضمن شيئاً عن الصحة، فيجب أن تكون البيانات أكثر عمقاً وتفصيلاً.

الزواج في قرية أرطاس :

بالعودة إلى متن الأطروحة التي قدمتها الباحثة والتي نشرت مؤخراً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، نجد أن الباحثة تقدم دراسة لجميع وقائع الزواج في قرية أرطاس على مدى مئة عام خلت، أي من أربعة إلى خمسة أجيال. إذ بدأت بأكبر رجل يذكره الناس في كل عشيرة، ثم انتقلت إلى أولاده وأحفاده وأحفاد أولاده… وهكذا حتى وصلت إلى الوقت الحاضر. وفي كل حالة طرحت الأسئلة التالية: ما اسم الزوج؟ هل ما زال على قيد الحياة؟ هل هو متزوج من واحدة أم متعدد الزوجات؟ هل هناك صلة قربى بين الرجل وزوجته؟ وإذا كان كذلك فما هي (هل هم أبناء خالات؟ أم أبناء أعمام؟…إلخ ) وإذا لم تكن الزوجة من أقارب الزوج، فهل هي من القرية نفسها؟ وإذا كانت كذلك، فمن أي عشيرة في القرية هي؟ وإذا كانت كذلك، ماذا قدم مقابل العروس؟ وإذا كان للعروس مهر فما هو؟ وإذا كانت بدلاً، فمن أي نوع؟ بمن استبدل الرجل عروسه (باخته، بابنته، بابنة عمه …الخ)؟ وهل كان هناك أولاد من هذا الزواج؟ كم من الأولاد؟ وكم من البنات؟ وما اسماؤهم؟ هل انتهى الزواج بالطلاق؟ وإذا كان كذلك، فما السبب؟ هل انتهى الزواج بموت الرجل أو المرأة؟ هل تزوج من بقي منهما على قيد الحياة مرة أخرى؟ وإذا كان كذلك، فما الدافع؟ وما نوع الزواج الجديد (هل هو زواج الأرملة من أخ المتوفى، أو زواج الأرمل من أخت المتوفاة ..؟ هل ثمة ما يستحق الملاحظة أو التدوين عن أولئك الناس مدار البحث في ضوء هذه النقاط المختلفة، أو بأي صورة أخرى؟ وقد أدرجت الباحثة الإجابات عن هذه الأسئلة جميعاً في أعمدة، لتشكل قوائم عائلية تحتوي جميع المعلومات المتعلقة بعقود الزواج في القرية خلال فترة مئة عام. دخل مئة وتسعة وتسعون رجلاً في ما مجموعه مئتان وأربعة وستون عقد قران في هذه الفترة. وباستخدام هذه الوسيلة حصلت على مجموعة كاملة من الوقائع المتعلقة بالأفراد وبمصائرهم.

فنجد مثلاً في موضوع اختيار العروس، وصفا للقواعد والضوابط التي وضعها المجتمع لاختيار الزوج، ومما تذكره الأنثربولوجية هنا أن هناك أشكالا كثيرة للزواج وليس غريباً أن نجد أمثالاً كثيرةً تعبر عن الخبرات المتراكمة بهذا الصدد، بعضها له دلالات إيجابية ولبعضها الآخر دلالات سلبية، مثل (صحن المشمش لا تكمش دور على اللوزية) أو (كل الحليب أبيض، الدور على الأصل). نرى هنا كيف تؤكد هذه الأمثال ضرورة أخذ الجذور والأصل في الحسبان، بل يشمل النظر في كثير من الأحيان، الأصول المشتركة للفتاة والشاب.

أما عن انتقاء العروس، فقد تبين للباحثة من خلال دراستها أنها غالباً ما تنتقى من إحدى ثلاث مجموعات، إما من عشيرة (حمولة) العريس نفسها (زواج عشيرة أو زواج حمولة)، ويفضل أن تكون ابنة العم، ويشكل زواج «ابناء العم» فئة خاصة ضمن مجموعة زواج العشيرة. وقد يقع الاختيار على عروس من عشيرة ثانية، ولكن من القرية نفسها (زواج القرية)، أو ينتقي الشاب فتاة من مكان آخر ( زواج من غريبة أو أجنبية). وأهم هذه المجموعات عند الفلاحين هي المجموعة الأولى، ولا سيما زواج ابناء العم، ومع أن الرجل لا يجبر على الزواج من ابنة عمه، لكن بالنسبة لهم فإن ابنة عمه هي في العادة خير زوجة يمكن أن يتمناها فـ (بنت العم حمالة الجفا، أما الغريبة بدها تدليل). وليست ابنة العم هي الزوجة الأفضل لحسن مسلكها وحسب، وإنما هي بشكل عام العروس الأجدى اقتصادياً كذلك، لأن ابن العم ينبغي أن يحصل عليها بمهر أقل من أي رجل آخر. ومن الطبيعي أن ينجم عن هذا تضارب في المصالح بين العريس وابي العريس، إن لم تكن وشائج القربى متينة جداً وحية في قلوبهم. وإذا لم يتسنَ للرجل الزواج من ابنة عمه (بنت العم) لسبب أو لآخر، فعلى العريس الذي تزوج ابنة العم أن يقدم تعويضاً ما وهو ما يشير بوضوح إلى أحقية الرجل القانونية بابنة عمه، كما يحق له أن يأخذها حتى إن كانت على ظهر جمل العرس. وليس هذا كلاماً نظرياً وحسب، فعندما يطالب الرجل بابنة عمه، على الآخرين أن ينسحبوا. ومن الطريف أن الأقارب ليس لهم الحق نفسه، فأولاد الأقارب (أولاد العم وأولاد الخال) ليسوا سواء في المنزلة، وترى هيلما غرانكفست أن سبب المكانة القوية التي يتمتع بها ابن العم يمكن تفسيره من أكثر من جانب، لكن يبقى أهمها العامل المتعلق بمسألة الإرث. فالزواج من ابن العم يفضل على الزواج من غيره، منعاً لحيازة الغريب لأملاك العائلة وميراثها. فمع أنه من النادر أن يموت رجل من دون أن يخلف اولاداً، فإن ذلك يبقى محتملاً، مما يجعل الناس يحبذون زواج أولاد العم. فلا ينبغي لغريب أن يدخل في العشيرة، بما في ذلك ابن الخال إذا كان من عشيرة أخرى، إلا إذا كان والد الفتاة قد تزوج من عشيرته نفسها. ويدل الواقع أن ابن الخال يكون في كثير من الأحيان، من عشيرة أخرى أو من مكان آخر. ويسري الأمر نفسه على ابن العمة بالنسبة إلى الفتاة .من هنا يتضح أن الموقف القوي لابن العم، مقابل الأقارب الآخرين، يستند إلى أنه هو وحده الذي يكون دائماً ابناً للعشيرة، وتكون مصلحته الخاصة جزءاً من مصلحة العائلة والعشيرة، فيما ينتمي الأقارب الآخرون إلى مجموعة غريبة لها مصالح خارجية. وتكون العائلة الكبيرة، المكونة من عدد من الأسر على أهبة الاستعداد دائماً للنهوض بواجبها عند حدوث الملمات.

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.



 جريدة الحياة اللندنية


جريدة الحياة


الخميس، ١٢ مايو/ أيار ٢٠١٦
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«أحوال الزواج في قرية فلسطينيّة» لغرانكفست: الست حليمة تنبهر بنساء فلسطين


«ليس من السهل أن يوفي المرء كتاب الآنسة غرانكفست حقه من الثناء، فقدرتها على الوصف واستخدام النصوص فائقة، ومادتها الإحصائية منظمة في شكل جيد. وأساليب عملها الميداني لم يتفوّق عليها أحد من علماء الأنتروبولوجيا. وهي تبرز بوضوح في تدوينها مادتها، كيف تؤثر القواعد الرسمية والممارسات الفعلية بعضها في بعض، وكذلك العلاقات بين سلوك الفرد والبنية الاجتماعية. لقد عرّفت العلاقات الاجتماعية المتبادلة وشرحتها بإسهاب كبير. وفسّرت القواعد الاجتماعية بكلمات مخبريها، وكذلك بالاستشهاد بفيض من المواقف الواقعية التي استدعت تطبيقها. والى ذلك، فإن هذه الدراسة لا تقتصر على طقوس الزواج، أو حتى على علاقات الزواج، بل تعالج أحوال العائلة وعلاقات ذوي القربى في شكل عام. وينبغي أن نهنئ المؤلفة على عملها المتميز...». كاتب هذا الكلام في العام 1937 هو إدوارد إيفانز – برتشارد، المعروف كواحد من أكبر علماء الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا في العالم خلال النصف الأول من القرن العشرين. أما «الآنسة غرانكفست» التي يثني عليها هذا العالم الكبير هنا، فكانت، في ذلك الحين، باحثة نروجية بالكاد تجاوزت الأربعين من عمرها حين قصدت فلسطين بغية دراسة نساء العهد القديم لاستكمال شهادة جامعية. لكنها هناك، إذ حلّت في قرية أرطاس الى الجنوب من بيت لحم، سرعان ما وجدت نفسها تتخلى عن ذلك المشروع، وقد فتنت بكل ما له علاقة بالحياة الاجتماعية والعائلية وطقوس الزواج لدى الفلسطينيين الذين كان لاكتشافها لهم، في ذلك الحين، أعمق الأثر في حياتها، فعاشت بينهم وسبرت أغوار مجتمعهم، وصارت كأنها منهم الى درجة أنهم أطلقوا عليها اسم السيدة حليمة، بدلاً من اسمها الأصل هيلما... وكانت نتيجة تلك المعايشة خمسة كتب تتناول العادات والتقاليد والأعراف والممارسات الشعبية المتعلقة بالحياة الفلسطينية كما بالحياة العربية، لعل أشهرها «أحوال الزواج في قرية فلسطينية»، الذي يتحدث عنه إيفانز – بريتشارد في العبارات السابقة، والذي صدر أخيراً – وللمرة الأولى في العربية – في ترجمة الراحلة خديجة قاسم وإخلاص القنانوة عن منشورات «المركز العربي للأبحاث وسياسة الدراسات» ( مع الإشارة الضرورية هنا الى أن تخلي الباحثة عن مشروعها الجامعي عن نساء العهد القديم لمصلحة العمل على المجتمع الفلسطيني والأحوال العائلية فيه، في وقت كان ثمة إنكار لوجود فلسطين نفسها، سيكون السبب في تجاهل الأوساط العلمية الجامعية في بلدها أعمالها عقوداً طويلة من السنين، أو هذا على الأقل ما يتم تأكيده في مقدمات الترجمة العربية للكتاب التي نحن في صددها هنا.

والحقيقة أن التوغل في هذا الكتاب النادر والبديع، يجعل المرء قادراً، من ناحية، على فهم ذلك الانقلاب الذي أحدثته مؤلفته في توجّه دراستها الجامعية، لكن أيضاً كل تلك الحماسة التي بها استقبله عالم أنثروبولوجيا كبير من طينة إيفانز – بريتشارد. لكن أكثر من هذا وذاك، يمكن الكتاب أن يفسر حتى ذلك الافتتان الفلسطيني بالعرس. حيث، منذ «عرس الجليل» وحتى آخر الأفلام الفلسطينية الحقيقية، مروراً بـ «عرس رنا» وشرائط عديدة أخرى، يبهر العرس الفلسطيني وما يلتحق به من عادات وأعراف، المبدعين. ولن نغالي إن قلنا إن هذا الافتتان ماثل هنا، في كتاب غرانكفست، في كل صفحة وفصل، إنما من دون أن تبعد المؤلفة من الموضوعية والنظرة العلمية. وهما بعدان لم ينتجا، كما يرينا الكتاب، من توغّل في الكتب والدراسات، بل من معايشة ميدانية كما أشرنا. فكل شيء هنا إنما هو موصوف كما لمسته المؤلفة في الحياة اليومية للناس، وكذلك أيضاً – وهذا يبدو فائق الأهمية هنا –، في حواراتها اليومية مع عدد من أكثر سيدات تلك القرية اطلاعاً على كل ما يتعلق بموضوع الدراسة. ولئن كانت المؤلفة تعبر في تقديمها لجزءي الكتاب، عن شكرها للأساتذة والباحثين الذين قدموا لها العون، فإنها في كل صفحة من صفحات الكتاب تكشف عن افتتانها بتلك السيدات الفلسطينيات اللواتي زوّدنها بمعرفة لا تضاهى وكنّ هنا، كما تشير وإن ضمنياً، الصانعات الحقيقيات للكتاب، ومنهن على سبيل المثل عليا إبراهيم العودة، التي تكاد تذكرها على طول صفحات الكتاب.

كما أشرنا، يتألف هذا الكتاب الصادر حديثاً، والذي وضعته مؤلفته أصلاً بالإنكليزية، من جزءين، يتناول أولهما التحضير للزواج، فيما يتناول الثاني إجراءات الزواج نفسه وصولاً الى الحياة الزوجية. ومن هنا يشغل الجزء الثاني من الصفحات أكثر مما يشغله الجزء الأول. وكتمهيد لهذا الأول تخبرنا المؤلفة، إذ تستعرض أمامنا منهج البحث، أنها خلال تجوالها في هذه القرية، صادفت نساء كنّ زوجات لرجال متعددي الزوجات، وتبين أنه «كانت لإحداهن ضرّة لحاجة البيت الى عاملة، ولم يكن من عادتهم آنذاك الاستعانة بالخادمات. وكانت هناك امرأة أخرى اتخذت لنفسها ضرّة لأنها لم تنجب ولداً، فإن توفي زوجها استولى أقاربه على البيت...». وعلى هذا النحو، دخلت الباحثة الفنلندية في موضوعها من منطلق الفضول الاجتماعي، فراحت تستعرض أموراً إجرائية مثل سن الزواج (بما في ذلك الخطبة عند الولادة) واختيار العروس، والزواج بالعياض (تبادل عروس بعروس)، وصولاً الى المهر والجدل في شأنه وقوائم الزواج وجداوله... والمدهش أن المؤلفة تختم هذا القسم بمجموعة من الجداول التي نشكّ اليوم في وجود ما يماثلها في أية محفوظات رسمية.

أما في الجزء الثاني، فتنتقل المؤلفة الى مراسم الزواج بادئة بمراسم الخطبة، من الطلب الرسمي للعروس ثم المفاوضات حول المهر – وكل هذا معزز طبعاً بشهادات ميدانية وحكايات عائلية لا تنضب -، مع التفريق بين وليمة الخطبة التي تقام لعروس من القرية وتلك التي تقام لعروس «غريبة». ثم عقد الزواج، قبل الوصول الى البحث في «مواسم الأعراس»، حيث تفيدنا المؤلفة «بأن ثمة أوقاتاً للعرس محددة في القرية، حيث أن هناك «أوقاتاً لا يتزوج فيها الناس البتة، أو أنهم يفعلون ذلك كارهين». وهناك أوقات في المقابل تعدّ أكثر ملاءمة من سواها للزواج، حيث يقال أن قليلاً من الناس يتزوج في موسم الحصاد. ولا يتزوج الناس في رمضان، «في المقابل يستحسن الفلاحون المسلمون أن يزوج الرجل ابنه في العيد الكبير». وإذ تفيدنا المؤلفة هنا بأن المثل يقول «عرس المجانين في كوانين»، تروي لنا أنه في «أول شتاء لي في أرطاس، سخروا كثيراً من جيراننا – أهل الخضر – لأنهم احتفلوا بأحد أعراسهم في أجواء ماطرة. وأخبرنا أحد رجال أرطاس ممن حضروا العرس، كيف وصل الطين الى ركبهم وهم يرقصون». وبعد أن تحدثنا المؤلفة عن هذا، تحكي عن الاستعداد والاحتفالات التمهيدية للأعراس، ثم تقاليد إحضار العروس، لتصل بنا الى بيت العريس متوقفة عند تفاصيل أسبوع العرس نفسه.

ويتلى موسم العرس هذا، وصولنا الى الحياة الزوجية نفسها، فتحدثنا غرانكفست عن «المرأة في بيت زوجها»، ثم عن «تعدد الزوجات» و «مشكلة المرأة الحردانة»، قبل أن تصل الى «الطلاق» و «الأرمل والأرملة»... كل هذا طبعاً في تفاصيل تكشف انبهار المؤلف بتلك الحياة الاجتماعية، وهو انبهار انتقل بالعدوى حين صدور الكتاب، ثم غيره من كتب هيلما غرانكفست (1890 - 1972) المتتالية، الى كثر ومن بينهم، وربما على رأسهم، عالمة الإناسة الكبيرة مرغريت ميد التي لم تتوان عن أن تعبر عن انبهارها، وهي مؤلفة ذلك السفر الكبير، عن المراهقة والعائلة والزواج في مناطق مجهولة – في حينه – من الجزر الباسيفيكية، والذي يعتبر أهم كتبها على الإطلاق: «الأعراف والحياة الجنسية في أوقيانيا»، فكتبت: «لقد تناولت غرانكفست المادة ونظمتها تبعاً لأهمية فهم شيء عن حياة النساء والأطفال من دون الاستعانة بأي من أدوات التحليل النفسي (...) [والحال] أن إخلاص عالمة الإثنولوجيا لمادتها، وغزارة الأمثلة، والتعليق المنقول حرفياً، يجعل من الممكن استخدام هذا الكتاب في تفسير أنواع أخرى من البيانات حول الثقافة العربية». صحيح أن ميد كانت تكتب هذا الكلام تعليقاً على كتاب آخر لغرانكفست هو «الولادة والطفولة عند العرب» (نشر عام 1951)، لكنه – أي كلام ميد – ينطبق حرفياً على «أحوال الزواج في قرية فلسطينية».

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


الكتاب على موقع نيل وفرات

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)